مشروع "بلدنا" لإنتاج الحليب المجفف: المرحلة الأولى للإنتاج ستبدأ خلال 2026    هزة أرضية بقوة 3.3 بولاية تيزي وزو    ش.بلوزداد يتجاوز إ.الجزائر بركلات الترجيح ويرافق م.الجزائر إلى النهائي    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي "علامة مرموقة في المشهد الثقافي"    جهود مميزة للجزائر لوضع القضية الفلسطينية في مكانها الصحيح    المياه الجوفية لإنطلاق التكامل الثلاثي المغاربي    مسرحية "المتّهم"..أحسن عرض متكامل    في عمليات عبر النواحي العسكرية من 18 إلى 23 أبريل الجاري: إحباط محاولات إدخال 78 كيلوغراما كيف قادمة من المغرب    سفير مملكة ليسوتو يثمن مساعدة الجزائر لدعم جهود التنمية في بلاده    أبو عيطة وعقب استقباله من قبل رئيس الجمهورية،عبد المجيد تبون: فلسطين ستنال عضويتها الكاملة في الأمم المتحدة بفضل إصرار الجزائر    إنجاز ملجأ لخياطة وتركيب شباك الصيادين    ارتفاع رأسمال بورصة الجزائر إلى حدود 4 مليار دولار    قسنطينة: تدشين مصنع لقطع غيار السيارات ووحدة لإنتاج البطاريات    بروتوكول تفاهم مع الشركة العمانية للطاقة    دراسة مشاريع نصوص قانونية والاستماع الى عروض عدة قطاعات    جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس الأمة    الجزائر تشارك في اجتماع إفريقي حول مكافحة الإرهاب    الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين الدوليين إلى تمويل "الأونروا"    العدالة الإسبانية تعيد فتح تحقيقاتها بعد الحصول على وثائق من فرنسا    الجزائر-تونس-ليبيا : التوقيع على اتفاقية إنشاء آلية تشاور لإدارة المياه الجوفية المشتركة    معركة البقاء تحتدم ومواجهة صعبة للرائد    اتحادية ألعاب القوى تضبط سفريات المتأهلين نحو الخارج    شبيبة سكيكدة تستعد لكتابة التاريخ أمام الزمالك المصري    إجراءات استباقية لإنجاح موسم اصطياف 2024    عائلة زروال بسدراتة تطالب بالتحقيق ومحاسبة المتسبب    مصادرة 441 كلغ من أحشاء البقر الفاسدة    29 جريا خلال 24 ساعة الأخيرة نتيجة للسرعة والتهور    عنابة: مفتشون من وزارة الري يتابعون وضع بالقطاع    جعل المسرح الجامعي أداة لصناعة الثقافة    الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي بالناحية العسكرية الثالثة    "عودة مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي تعكس الإرادة الجزائرية لبعث وتطوير السينما"    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    "المتهم" أحسن عرض متكامل    دعوة لدعم الجهود الرسمية في إقراء "الصحيح"    الصّهاينة يواصلون جرائمهم بالقطاع وعمليات إخلاء بالشمال    "العفو الدولية": إسرائيل ترتكب "جرائم حرب" في غزة بذخائر أمريكية    الجزائر/تونس: الاتفاق على تنظيم يوم إعلامي حول الصيد البحري لفائدة المستثمرين من البلدين    فتح صناديق كتب الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس الموقوفة على جامع الجزائر    وزير التربية انتقل إلى عين المكان والعدالة فتحت تحقيقا: إصابة 6 تلاميذ في انهيار سقف بمدرسة في وهران    إهمال الأولياء يفشل 90 بالمائة من الأبناء    نصف نهائي كأس الجمهورية: اتحاد الجزائر – شباب بلوزداد ( اليوم سا 21.00 )    مدرب اتحاد الشاوية السعيد بلعريبي للنصر    وزير البريد في القمة الرقمية الإفريقية    وزير الداخلية يكشف: تخصيص أزيد من 130 مليار دينار لتهيئة المناطق الصناعية    وزير الخارجية أحمد عطاف يصرح: الوضع المأساوي في غزة سيبقى على رأس أولويات الجزائر    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    الجزائر تشارك في معرض تونس الدولي للكتاب    مولودية الجزائر تقلب الطاولة على شباب قسنطينة وتبلغ نهائي كأس الجزائر للمرة العاشرة    مباراة اتحاد الجزائر- نهضة بركان : قرار الكاف منتظر غدا الاربعاء كأقصى تقدير    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    سايحي يشرف على افتتاح اليوم التحسيسي والتوعوي    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    منصّة رقمية لتسيير الصيدليات الخاصة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المصريون لم يكونوا يهتمون بسلامة جنودهم وبعض خططهم لم تكن في مستوى الحرب
الحلقة الرابعة:

في العادة، كانت وحدات الجيش الجزائري التي تتجه نحو الجبهة تشغل المواقع القديمة. ولم يكن هناك مواقع بديلة ولم يفكر في ذلك أحد. وبناء على ذلك، اتخذت قرارا بحفر خنادق أخرى حتى أجنّب رجالي عنصر المباغتة من طرف العدو. واستضافني المساعد السياسي للجيش الثاني العميد عبد المنعم خليل ذات يوم في مقهى الضباط بمنطقة "فايد"، وهي مقاطعة صغيرة تقع على وادي عامر، قرب تموقعي الدفاعي. ترجاني خليل بالجلوس أمامه واغتنم الفرصة ليقول لي: "عندما كنت مارا رأيت رجالا يحفرون خنادق جديدة للتموقع، لا جدوى من هذا لأن العدو لن يحارب من هذه الجهة على الإطلاق.. أقترح عليك أن تنسحب إلى خلف الجبهة وتهتم بتكوين رجالك". وعلى وقع الذهول الذي أصابني، كدت أقول له: "حضرة العميد..."، ولكنني عدلتُ عن رأيي. تأملت طويلا بعد ذلك في كلماته، ولكنني لم أستجب لاقتراحه وتركت رجالي يواصلون تحضير المواقع الجديدة، وكان هذا من حسن حظنا لأن الإسرائيليين استقبلوا وصولنا بقصف مدفعي مكثّف أصاب كل مواقعنا القديمة. هل كان عليّ أن أذكّر العميد خليل أن القاعدة التي تحكم أساليب المواقع البديلة عندما تكون موجودة أو تهيئتها إن لم تكن كذلك تُدرّس في كل المدارس، سواء في باريس أو موسكو أو القاهرة؟ وماذا يعني حفر خنادق للتموقع عند وصولنا إلى مواقع جديدة من أجل إنقاذ الأرواح البشرية؟
*
في الجبهة
*
*
كانت علاقتي بكثير من الضباط المصريين محصورة في ميدان العمل، وكنت أتفاجأ أثناء زيارتي للجبهة مرة بعد أخرى من سلوك الجيش المصري. لقد كانوا يصرخون كلما أبصرونا وكنا معروفين ببدلاتنا ذات اللون الأخضر الذي يشبه الزيتون : "تشربوا حاجة؟". كان هذا التصرف المهذب الذي يكشف عن كرم أصحابه ينبعث منهم آليا حتى إذا لم يكن لديهم شيء لتقديمه. وبعد فترة، عرفنا أن هذا يُعتبر من باب الترحيب واللطافة. وعلى عكس كل القال والقيل الذي سمعناه، اكتشفنا من تلقاء أنفسنا أن الجنود المصريين يتحلون بالشجاعة والانضباط، ولم يكن ينقصهم سوى الإمكانيات المادية والتجهيزات الحديثة التي يحظى بها الإسرائيليون، إضافة إلى تكوين عسكري جيّد.
*
*
كان اللواء الذي كنت أشرف عليه مُلحقا بالوحدة الثامنة عشر للمشاة المتحركين الذين كانوا تحت قيادة العميد مصطفى شاهين. وكان قائد القوات هو العقيد أبو غزالة الذي أصبح فيما بعد القائد العام لقيادة القوات في فترة حكم الرئيس السادات.
*
*
لقد كان أبو غزالة أحد أبرع المتخصصين في المدفعية وكتب حول ذلك عدة مؤلفات. وكان العميد مصطفى شاهين رغم كبر سنه رجلا حيويا ولا يُفارق جنوده، وكان يُقلّني في سيارته العسكرية لأزور وحداته العسكرية التي كانت في الجبهة، ولم تخلُ سيارته يوما من مختلف الهدايا التي كان يُكافئ بها أحسن الجنود.
*
*
وفي أثناء زيارة قمت بها إلى اللواء الذي يقع تحت إمرتي، أُعجب العميد مصطفى بطريقة التنظيم التي اعتمدتها إلى درجة جعلته يستدعي قُوّاد الوحدات ليعاينوا طريقة تنظيمنا المحكمة. وقال العميد مخاطبا أحد ضباطه الذين كانوا يدّعون أنهم يمتلكون نقاط ارتكاز مماثلة لتلك التي نملكها، وقد تضايق من دعاويه: "هيّا فرّجوني"!
*
*
كنت أرى قائد عمليات هذه الوحدة بانتظام، وهو المُقدّم جلال، حيث كان عليّ أن ألجأ إليه كلما أردت مقابلة قائد الوحدة أو المسؤول الأول على قيادة القوات. لقد كان المقدّم جلال ظريفا، وكان يستقبلني بابتسامة ويبادرني بسؤاله المعتاد كلما أجلس: "تشرب إيش يا أخ خالد؟"، وعندما يطول الانتظار وهذا أمر "طبيعي" لا أجد بدّا من التسح بالصبر لعلمي المسبق بردة فعله: "وراك إيه يا أخ خالد؟".
*
*
وفي يوم من الأيام أثناء مروري بالوحدة، تم تعريفي بالعميد الذي جاء لاستخلاف العقيد أبو غزالة الذي استدعي لمهام أخرى. لقد كان يُمارس التعذيب على اللغة الفرنسية بدل التحدث بها وهو يظن أنه يرفع من شأن نفسه بالحديث بها. ومنذ ذلك اليوم، كان ذلك الأمر بمثابة تعذيب موجه لشخصي، لأنه لم يكن من الممكن تجنّبه ولا تجنّب كل الاهتمام الذي ينبغي عليّ إبداؤه أمامه من أجل فهم بعض فُتات رطانته بلغة موليير. وكنت أصاب بالصداع كلما التقيته بسبب المجهودات الخارقة التي كان عليّ بذلها من أجل فهم كلامه. وكان علي الالتقاء به أكثر فأكثر منذ توليه لقيادة الوحدة الثامنة عشر. وفي يوم من الأيام، جذبني على انفراد وقال لي: "لقد التقيت وأنا أمر على مقربة من فوج المدرعات الخاص بكم بأحد جنود الدبابة، لقد كان وجهه متغضنا.. "عجوز كِده". وتعرفت على الجندي مباشرة. ثم أردف: "كلّمته بالفرنسية ولم يفهمني، ثم بالعربية فلم يفهمني كذلك".
*
*
فوجئت واستأت لما لم يتلقّ العميد أجوبة على الأسئلة التي طرحها. وكان الأمر يتعلق بالملازم لحلو الذي كان بإمكانه الحديث مع العميد بسهولة. ولما رجعت إلى اللواء، توقفت لدى فوج المدرّعات المتواجد على مقربة من الطريق، وأعلمت الضابط المساعد للوحدة بأني أريد رؤية الملازم لحلو. ولما امتثل الملازم أمامي، قمت بتأنيبه لأنه لم "يعرف" كيف يجيب على أسئلة قائد قيادة قوات الوحدة الثامنة عشر، فأجابني مباشرة: "نعم، لقد التقيت عميدا، ولكنني لم أشأ كشف شيء أمامه لأني لا أعرف من يكون. ثم إنه يُفترض أن نُعلم بزيارة عميد قبل مقدمه، وإلا لكان في مقدور كل أحد أن يدّعي أنه عميد". لقد كان الملازم لحلو داهية، وعزمته لارتشاف قهوة معي وبحثت عن طريقة أعتذر بها للعميد الغاضب.
*
*
كنا نقيم اجتماعات من فترة لأخرى مع قائد الوحدة. وفي يوم من الأيام، عندما كنا جلوسا في طاولة واحدة مع مجموع قواد اللواء وهذه الوحدة الكبيرة، تحدث قائد الوحدة، لمن أراد الإصغاء، بأن الجيش الثاني اضطر إلى تغيير قرار بناء على طلب "الأخ خالد"، قائلا: "أنا أضمن الأخ خالد لأن ثقتي فيه كاملة"، ثم ذكّرني بطلبي الذي قدمته له قبل ذلك، والمتعلق بتهيئة موقع دفاعي يمتد مباشرة إلى قناة السويس لتمكين جنودي من المشارمة حتى لا يقعوا فريسة للملل على طول وادي عامر، على بُعد 14 كم عن خطوط العدو.
*
*
أعطانا قائد الوحدة خارطة تتضمن مواقعنا الجديدة لأن الاستجابة لطلبي هذا أحدثت تغييرات كبيرة. ولأننا كنا مكدسين في ملجأ خاص بقائد الوحدة، لم نتمكن من نشر خرائطنا لمعرفة حدودنا الجديدة، وأرجأت ذلك إلى حين عودتي لمقر قيادتي، وواصلتُ تسجيل التوصيات التي وجهت لنا. لاحظت أن جيراني حول الطاولة كانوا يرمقونني بتعجب لأنني كنت أسجل ملاحظاتي باللغة الفرنسية في حين كان النقاش يدور باللغة العربية، فابتسمت وأوضحت لهم أن جيلنا لم يحظ بشرف تعلّم اللغة العربية ولكنه تمكن مع ذلك من طرد الفرنسيين خارج الجزائر.
*
*
ورجعت إلى مركز مقر قيادتنا رفقة المسؤول عن قيادة القوات رفقة النقيب رشيد عيسات وشرعنا مباشرة في العمل ونحن نرى مواقعنا الجديدة. ونشرتُ المخطط الجديد لأكتشف أن هناك خللا ما فيه.
*
*
لم أعرف الطريقة التي تمكنني من إقامة وحداتي الرئيسية لأنني لم أكن أحظ بعمق كاف، وبدا الأمر وكأن واضعي هذه الخطة القاصرة، حتى على الصعيد المبدئي، أرادوا الحفاظ على قطعة كبيرة من الأرضية لصالح الجار.
*
*
ولما فرغنا من الغداء، شرعنا أن وقائدي بالعمل، فلقد كان يجب علينا تحضير مذكرة تحوي رأيا معاكسا وتشير إلى مقترحات جديدة. أكملنا العمل في ساعة متأخرة من الليل ثم توجهنا إلى مركز قيادة الوحدة لتقديم نظرتنا في المخطط والمقترحات اللازمة لتدارك الأمر. وبما أنه كان علينا أن نتحلى بالصبر، قررنا زيارة "الخبير السوفييتي" مثلما يحلو للمصريين تسميته لنرى تصوره حول الموضوع. وأدرك الخبير مكمن الخدعة بسرعة وقال لنا على البديهة: "توجهوا إلى قائد الوحدة فهو رجل مستقيم، وسيُنصفكم".
*
*
وفي الملجأ الذي كان يُتخذ كقاعة عمليات للوحدة، وبحضور صاحب الدسيسة العقيد جلال، طلبنا الحديث مع قائد الوحدة مباشرة. وطُلب منا الانتظائر بضعة دقائق قبل إدخالنا عنده. استقبلنا العميد مصطفى شاهين بلطف وبشاشة ثم سألنا عن سبب زيارتنا الصباحية. وقمت بتشخيص الوضع الذي لمسناه في اجتماع البارحة عليه باختصار، فألقى نظرة على مخططنا وأدرك المكيدة بسرعة، ثم صرخ بأقصى قوة: "جلال".. وأصدر أوامره: "ستكون قيادة اللواء 134 تحت يد الأخ خالد"، ثم التفت إليّ وقال: "هذه هي الحدود الجديدة، احذر من المصب فإنه جد حساس، وأنشئ مركز قيادتك ووحدات الإسناد خلفه"، ثم تمنى لنا حظا طيبا.
*
*
لم نطلب شيئا آخر انسحبنا بسرعة، ثم حيينا العميد "جلال" الذي بدا منزعجين بعض الشيء ولكننا كنا سعداء لأننا أحبطنا مخططه ومخطط زميله، قائد اللواء 134 الذي تلقيت منه مكالمة هاتفية في ساعة متأخرة من الليل، حيث سألني إذا كان بالإمكان أن يزورني في مركز قيادتي، ففهمت أن قائد الوحدة شرع في المناورة وأراد إصلاح الأضرار بسرعة بسبب قلة النزاهة التي اكتشفها.
*
*
وحانت ساعة اللقاء المتوقعة في المساء، فقررت دعوته معنا إلى العشاء، ولكن العقيد الذي رفض عرضي، ملمحا إلى أنه يريد أن تتم مراسيم تسليم المهام بأكبر سرعة ممكنة. وكان هذا ما أردته، بصراحة. وبعد انتهاء الأمر قرر الاختفاء. وفي مراسيم تسليم المهام فهمت لم كان متشبثا بمركز قيادته. لقد كان هذا المركز ممونا بالكهرباء عبر خط عالي الضغط لا يبعد كثيرا عنه، وهو ما مكنه من تشغيل جهاز تلفزيون، وكان مسؤولو قيادة القوات يقيمون في ملاجئ مهيئة ومخبأة بصفة جيدة، تحت حاجز من أشجار البرتقال، واكتشفت أياما بعد ذلك أنه على قدر ما كان قائد القوات مقيما في مكان مريح، على قدر ما كانت رفقته تعاني من الإهمال والضياع، رغم أن ما بين الموضعين صف من أشجار البرتقال فقط، ولم يكن يتطلب التأكد من ذلك سوى الانتقال خطوتين أو ثلاثا فقط. ولم تحظ أي فرقة بملجأ، حيث كان لكل واحد من مجموع 600 رجل غطاء معدني طوله متر في متر كانوا يسمونه "غطاء الرأس"، رغم أنه لم يكن في حقيقة الأمر كذلك، لأن بعض الجنود كانوا يستعملونه كما يشاؤون، في حين كان يُفترض أن يقوم الجنود بتجميع هذه القطع المعدنية لتشكيل أخدود مغطى، وعند ملاحظة الوضع كان واضحا أن أولئك الرجال لم يحظوا بعناية كافية من طرف مسؤوليهم.
*
*
أيما بعد ذلك، تم إيقاظي فجأة في وقت الفجر، حيث جاءني ضابط ليُعلمني أن هناك عطلا عاما حدث في مجموع شبكتنا السلكية، وأن كثيرا من محاولات التصليح لربط الاتصال في داخل اللواء وخارجه قد باءت بالفشل، كما أعلمني بأنه من المستحيل إجراء اتصال بالوحدة أو بالجيش، وهو ما يعني بأن اللواء كان معزولا تماما عن العالم. وأصدرت تعليمات، وأنا منهار، بفتح شبكة الراديو والبقاء على أهبة الاستعداد وعدم استعمال الجهاز إلا بأمر مستعجل. ولم يأت مسؤولو الاتصال للاهتمام بالأمر سوى في حدود الساعة العاشرة أو الحادية عشر، واكتشفوا أن الأسلاك التي تصل اللواء بلاشبكة العامة للوحدة قد تم قطعها بالسكين على بُعد كيلومتر واحد ونصف، وكان واضحا أن هذا العمل هدف إلى إلحاق الضرر بنا. ورغم أن الإصلاحات كانت تجري على قدم وساق إلا أن ذلك أخذ يوما كاملا.
*
*
وتوجه نظري أياما بعد ذلك صوب رجلين سبق وأن رأيتهما من قبل ويظهر أنهما كانا يواصلان البحث عن دلائل تؤكد خيبة أملنا، وناديتهما وأنا على وقع الغضب وقلت لهما بلا تحفظ: "ما هذا.. ألم تفهموا بعد أن عناصر من اللواء 134 هم الذين قاموا بهذا العمل؟".
*
*
غير أن اللواء 134 أعاد توجيه الأنظار صوبه عند هجوم إسرائيلي استهدف مجموع مراكز المعاينة المدفعية المتوقعة على طول قناة السويس، وخاصة المراكز المتواجدة على جبهة الجيش الثاني من وادي عامر إلى مدينة "بور فؤاد"، بل إن هذه العملية مثل غيرها بقيت في سجلات حرب الاستنزاف. لقد استهدفت هذه العملية الجريئة والخفية والمتزامنة في نفس الوقت مجموع مراكز المعاينة التابعة للجيش المصري الثاني. وكان الجنود المصريون والجزائريون المعلقين فوق الأشجار باعتبارها نقطة المعاينة الوحيدة المتاحة تحت وقع المفاجأة جراء هذه الهجمات ولم ينجوا سوى بسبب الأغطية المعدنية التي كانت بحوزتهم حيث استعملوها كوسيلة للتزحلق مثل رجال الإطفاء لدى إعلان الحريق. وكان لواؤنا يملك مركو معاينة مجاور للواء 134، وهو ما جعلني أتابع هذه العملية بواسطة الرائد في بطارية المدافع ذات قذائف 152مم التي كنا نسميها "ارجى (انتظر)" نظرا لبطئها في إمدادنا بتصحيحات القذف. وكان ضابطنا أكثر حظا وحمى رجاله، على عكس رائد بطارية المدافع في اللواء 134 الذي تعرض رجاله للقتل والإصابة، وحتى هو نفسه أصيب. وكنت أطلب من الوحدة إرسال مساعدات نحو مركز المعاينة، وأرهقت بالاتصالات الهاتفية ولكن لم يسأل أحد عن الخسائر والجرحى، بل كل ما كان يهمهم هو معرفة وضع الضباط، أما رجال الفرق فلم يكن أحد ليهتم بهم.
*
*
وبعد ساعة تقريبا، ولأنني لم أر أي وحدة إنقاذ تصل إلى عين المكان، أمرت رائد فرقة الاستطلاع الخاصة بلوائنا، وهو النقيب العربي، بأخذ سيارة ونقلهم رغم كثافة النيران. وبعد ساعتين كان الجرحى في العيادات بمأمن، حيث تم تقطيب جراحهم في انتظار أن تأتي وحداتهم لاستلامهم. وفي نهار غد، توجهت إلى العيادة لمعاينة وضع رجالي واغتنمت الفرصة لزيارة الجنود المصريين الذين كانوا على مقربة منهم. ولما علموا بوجود ضابط جاء لزيارتهم اقتربوا مني وكلهم احترام وعرفان، فصافحتهم ورأيت أن بعض ملابسهم لا تزال مضرجة بدمائهم، كما عرفت عبر ضابط المدفعية الذي كان تحت قيادتي أن أصحاب الجراحات "الخفيفة" أعيدوا إلى مراكزهم مساء الحادثة.
*
*
ولم يعرف المصريون سوى بعد هذه الحادثة، أثناء حرب الاستنزاف، أهمية الجنود ووضعهم العقلي والنفسي في المعركة.
*
ترجمة مصطفى فرحات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.