مجلس الأمة يشارك بالعاصمة الأردنية عمان في حوار البرلمانات العربية    ملف التاريخ والذاكرة: الجزائر تُقدم قائمة مفتوحة لممتلكاتها التاريخية لإسترجاعها من فرنسا    علي عون: نتطلع لتغطية السوق المحلية للأدوية بنسبة 80 في المائة مع نهاية 2024    تريكي يشارك بجنيف في منتدى القمة العالمية لمجتمع المعلومات    البيان الختامي المؤتمر ال36 للاتحاد البرلماني العربي : إشادة بجهود الرئيس تبون في نصرة القضية الفلسطينية وتوحيد كلمة العرب    شبكة الكهرباء تتدعّم..    للتعريف بمناخ وفرص الاستثمار في البلدان الثلاثة..زيتوني يدعو إنشاء مجلس ثلاثي لرجال الأعمال (جزائري-تونسي- ليبي)    حفاظا على مصداقيتها.. تدابير صارمة لمكافحة الغش في امتحانات شهادتي المتوسط والبكالوريا    رفح تنزف..    حلمي الاحتراف في أحد الأندية الأوروبية    الحمراوة يتنفسون    لقاءات واعدة في المرحلة الثانية    امرأة ضمن عصابة بقسنطينة    انتشار واسع لمرض الصدفية في الجزائر    الشلف: حجز ما يفوق 10 قناطير من اللحوم الحمراء غير صالحة للاستهلاك    سطيف : تفكيك شبكة مختصة في تزويرالوثائق والمحررات التجارية    24 رواية في القائمة الطويلة..    أم البواقي : اكتشاف فسيفساء ذات قيمة تاريخية بمنطقة الرحية    الاحتلال يتحدّى "العدل الدّولية" ب"محرقة الخيام" في رفح    تأييد واسع داخل البرلمان الإسباني لعزل موقف "سانشيز"    العنف ضد المدنيّين في غزّة لم يعد مبرّراً    رئيس الاتحاد الإفريقي يدعو إلى توحيد القوى والمواهب    "وردة الصحراء" يفوز ب"الخلخال الذهبي"    التشكيلي أعمر بريكي يعرض برواق "سين آرت"    سوناطراك : زيادة كميات الغاز الطبيعي الموجهة إلى سلوفينيا    اليوم الوطني للكشافة الإسلامية الجزائرية : تنظيم أنشطة متنوعة بغرب البلاد    الجزائر/سلوفينيا: التوقيع على عدة اتفاقيات تعاون بين البلدين    ملاكمة/أولمبياد 2024 : الجزائري يوسف اسلام ياعيش يتأهل للدور ال16    بيب غوارديولا يحدد موعد رحيله عن مانشستر سيتي    وهران: ضرورة تجسيد مخرجات الجلسات الوطنية لإطارات الشباب    تمويلات دولية: افتتاح أشغال الجمعيات السنوية للبنك الافريقي للتنمية بنيروبي تحت شعار الاصلاح    لجنة الفتوى للبعثة الجزائرية للحج تعقد اجتماعا تنسيقيا    لقاء بوزارة الصحة حول مخطط المريض والتدابير الاستباقية لفصل الصيف    البكالوريا: هذه تفاصيل الترتيبات التنظيمية..    مُخرجات اللقاء الخامس تُقدّم اليوم    أحزاب تدعو تبّون إلى الترشّح للرئاسيات    طلبة جزائريون يُتوّجون في مسابقة هواوي    وزير الصحة يشارك في لقاء عربي بجنيف    إصرار الجزائر سيكسب فلسطين العضوية الكاملة بالأمم المتحدة    المقاومة تقصف عمق الكيان الصهيوني    برامج جديدة لتحسين خدمات الطاقة بقسنطينة    بن ناصر باق مع ميلان الإيطالي الموسم المقبل    لنتسامح مع أنفسنا حتى ننعم بالسلام الداخلي    بكرار يشيد بدعم مدربه في نيويورك سيتي الأمريكي    "الجزائرية للمياه" تدعم شبكتها بعين تموشنت ب 13 بئرا    إدارة ماريبور السلوفيني تقرر تمديد عقد سوداني    تكريم الفائزات في مسابقة المرأة الكاتبة والشاعرة بغرداية    بونة تحتضن الأيام الوطنية للرقص العصري والموسيقى الشبابية    الجزائر تؤكد على الحق في الاستخدام السلمي للتطبيقات النووية    الدرك يسترجع سيارة وشاحنة محل سرقة    حجز 148 كيلوغرام من اللحوم الفاسدة    مقترح جزائري لإنشاء مركز دولي للتلقيح بتمنراست    ضبط آخر الترتيبات لاستقبال الحجاج الجزائريين بمكة    جبر الخواطر.. خلق الكرماء    ليشهدوا منافع لهم    رسالة إلى الحجّاج..    هذه صفة حجة النبي الكريم    الإخلاص لله والصدق مع الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تصريح بضَياع!
نصفُ خبر
نشر في الشروق اليومي يوم 15 - 07 - 2010

ثمان عشرة سنة تمر اليوم على الاتفاق الأول من نوعه في تاريخ البشرية: اتفاق رضوخ الضحية للجلاد طواعية، واستسلام المقتول لقاتله دون قيد أو شرط.. تتذكرون بالتأكيد ما سمي ب " إعلان المبادئ" الذي جرت محادثاته ذات صيف بمدينة أوسلو، بإشراف راع أصم يسمع عواء الذئب ولا يصله ثغاء الغنم، ومراقب أعمى يبصر الباطل ولا يرى الحق!
*
ثمان عشرة سنة مرت إذن على الاتفاق، وما يزال البحث جارياً: الفسطينيون يبحثون عن العرب، والعرب يبحثون عن الفلسطينيين، والمسلمون يبحثون عن موقع القدس على الخريطة، والقدس تبحث عن موقع المسلمين تحت الشمس.. ضاعت البوصلة، واتسعت المتاهة، وما تزال الأخبار التي ترد من الأراضي الفلسطينية المحتلة هي نفس الأخبار.. والكلمات نفس الكلمات، والحروف هي هي، نفس الحروف:
*
* سقوط شهيدين على يد قناصة إسرائيليين صباح اليوم..
*
* هدم منازل لفلسطينيين في الخليل ظهر اليوم وحظر التجول بها..
*
* مصادرة أراض زراعية لمزارعين في نابلس عصر اليوم..
*
* غزة تغرق في ظلام دامس هذه الليلة بسبب نفاد البنزين...
*
وتتكرر نفس الأخبار وبنفس الحروف والكلمات لدرجة أن الصحفيين في قاعات التحرير في العالم لم يعودوا يتعبون أنفسهم في تدوين أخبار فلسطين أو صياغتها.. لقد صاروا يختصرون الخبر الفلسطيني على أجهزة الكمبيوتر نظراً لتكرره وتشابهه بالضغط على أحد ثلاثة أزرار: قص، نسخ، لصق!
*
سنوات بمقدار عمر جيل كامل مرت بسرعة مع من صنعوا الاتفاق ثم مروا بالسرعة نفسها كأن شيئا لم يكن... كتبوا أوسلو، التقوا في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض، تناولوا طعام عشاء فاخر، رقصوا حتى الصباح، ثم تفرقوا شذر مذر:
*
* العراب بيل كلينتون: أدى واجبه كما سُطر له، وأنهى عهدتين انتخابيتين حسبما ينص عليه الدستور الأمريكي ثم ذهب مع الريح تاركاً خلفه زوجة"متفهمة" اسمها هيلاري، ونزوة عابرة اسمها مونيكا، وكتاباً صغيراً بعنوان: "حياتي" نسي أو تناسى أن يقول لنا فيه إنه قصف بغداد في أولى أيام رمضان عام 1998 بصواريخ كُتِب عليها بكل اللغات المعتمدة لدى الأمم المتحدة: "رمضان كريم"!
*
* الجلاد إسحاق رابين: حَمَلٌ وديع ورجل سلام برتبة رئيس أركان حرب.. أية مفارقة عجيبة بين أن تكون رجل حرب ورجل سلام في آن واحد؟.. استطاع رابين أن يفتك جائزة نوبل ل "السلام" بعد أن أحرز في سجل غينيس الفلسطيني رقماً قياسياً من الضحايا.. استقال من رئاسة الوزراء ذات يوم من أيام عام 1976 بسبب انتهاك الأمريكان على عهده حُرمة يوم السبت المقدس في التوراة، ليُقتَل في الأخير على يد مواطنه "إيجال عامير" بحجة أنه حاد عن الصراط السوي المسطر في التوراة بتوقيعه اتفاق أوسلو!
*
* الضحية ياسر عرفات: ملامحُه أقرب ما تكونُ لملامح رجُل "صام عاماً ثم أفطر على رأس بصلة" كما يقول المثل الجزائري.. أغلق في البداية أبواب قلبه إلا لامرأة واحدة اسمها فلسطين، وأمام الشهود عاهَدَنا أنه تزوج إلى الأبد بالقضية الفلسطينية.. بعد 61 عاماً من عمره أخلفَ عهدَه وأعلن كأي مسؤول عربي عن زواجه بسكرتيرة مكتبه الحسناء ذات ال 27 ربيعاً.. صار لعرفات سريرُ نوم ثابت، وأصبح للقضية ضرة اسمها سهى الطويل... في عامه الخامس والسبعين نعَتْ فرنسا للعرب زعيمهمُ الأسطوري!
*
تقول الرواية الإسرائيلية: إن عرفات توفي بسبب غصة "قديمة" في الحلق ورعشة "جديدة"في الشفتين، وتقول أمريكا ومن والاها إلى يوم الدين: إنه مات ميتة ربه كما يموت أي "خَتْيَار" بلغ من العمر عتياً، أما العربُ العرب فاختلفوا كعادتهم في تحديد سبب الوفاة، بل وزعوا اختلافهم على النسب المئوية تبعاً لميولاتهم واتجاهاتهم: قال قائل منهم إن الرجل استُشهد غيلة ً على يد الجلاد الإسرئيلي بنسبة 99 بالمئة، وأنه مات ميتة ربه بنسبة 1 بالمئة.. بينما لم يستح المغسول وجهه بالبول أكرمكم الله فقال: ما قتل عرفات إلا الإيدز؟!
*
وتوفي الزعيم أو مات أو استشهد دون أن يعرف كيف رحل، الشيء الوحيد الأكيد أنه ترك خلفه تاريخاً طويلاً ناصعاً من النضال، وأرملة غامضة ذات طول وحول اسمها سهى!
*
لم يكسب العربُ شيئاً أبداً من اتفاق أوسلو.. على العكس من ذلك فرقتهم أوسلو أكثر مما جمعتهم، فبقدر ما أعطوا لأنفسهم ولشعوبهم شرعية الاقتراب من إسرائيل والتعامل معها دون خوف أو عقدة، صاروا أكثر عدوانية في ما بينهم.. كما لم يَكسب الفلسطينيون الطيبون البسطاء في رام الله وغزة المحاصرة والخليل والقدس شيئاَ يُذكر سوى أنهم صاروا أكثر تفرقاً وتشتتاً وتشرذماً عما كانوا عليه.. لقد حولتهم أوسلو من ثوار مقاومين إلى متطرفين إرهابيين مطلوبين لدى دوائر مكافحة الإرهاب العالمي والأنتربول أحياءً أو موتى، والأفضلية أن يُؤتى بهم أحياء!
*
الرابحان الوحيدان في القضية هما "شاهدا العدل" اللذيْن جيء بهما لأداء هذه المهمة "التاريخية النبيلة"، لتتم ترقيتهما لاحقاً نظير هذه الخدمة:
*
* الشاهد الأول شمعون بيريز: وقع الاتفاقية عن الجانب الإسرائيلي بصفته وزير خارجية آنذاك، وتمت ترقيته بعدها ليحمل صفة "رئيس الدولة" في إسرائيل، وسيحمل لقب الراحل قريباً!
*
* الشاهد الثاني محمود عباس: وقع الاتفاقية عن الجانب الفلسطيني بصفته أمين سر اللجنة التنفيذية، وهو اليوم رئيسا للسلطة الفلسطينية "طبعة رام الله" رغم انتهاء ولايته دستوريا منذ قرابة عامين، ورغم وجود طبعة ثانية له "مزيدة ومنقحة" في غزة!
*
لقد أعطت اتفاقيات أوسلو للعرب شرعية الجلوس مع عدوهم على طاولة واحدة، ومنحت الكيان الصهيوني شرعية السلب والنهب، حتى نشأ بين العرب جيل كامل لم تعد مفردات التقتيل الوحشي اليومي التي ترد من الأراضي المحتلة تحرك فيه شيئاً، وخُزنت في ذاكرة هذا الجيل مفردة واحدة: "تطبيق خارطة الطريق" التي لن تطبق أبداً، بينما كانت أجيالُ ما قبل أوسلو تحفظ جملة واحدة تقول: ثورة حتى النصر!
*
والحقيقة أنه كلما وقع بين يدي ملف أوسلو تعود بي الذاكرة إلى خطاب الزعيم التونسي الراحل الحبيب بورڤيبة الذي ألقاه في أريحا في الثالث مارس عام 1965، ثم أعقبه بتصريح 21 أفريل 1965 حيث طلب من الفلسطينيين أن يتخلوا عن سياسة"الكل أو لا شيء" وأن يرضوا بقرار الأمم المتحدة القاضي بتقسيم فلسطين مناصفة بينهم وبينهم اليهود، وعلل ذلك يومئذ بفعالية سياسة"الخطوة خطوة" التي قادت تونس إلى انتزاع استقلالها...
*
رشقَ الفلسطينيون الزعيم بورڤيبة بالطماطم والبيض الفاسد، وأعلنت مصرُ ومن ورائها قادة ذلك الزمان خروج بورڤيبة عن الإجماع العربي، وطالبته بإعلان التوبة على الملإ والعودة الفورية إلى صف المطالبين برمي إسرائيل في البحر، وعاد بورڤيبة مُكرها إلى الصف وهو يغني مع المغنين: ثورة ثورة حتى النصر.. وتوفاه الله بعد ذلك وفي نفسه مثل كل العرب شيء من حتى؟!
*
فاصل قصير:
*
بعد ثمانية عشر عامًا من التنازلات التي تتجاوز أضعاف ما ورد في خطاب بورڤيبة ما يزال البحث جارياً: العرب يبحثون عن الدولة الفلسطينية الموعودة، والفلسطينيون يبحثون عن العرب، والقدس ضائعة، والمسلمون والعرب ضائعون بين موائد الروليت وطاولات الحوار، والحوار يتواصل على المسرح نفسه: حوار طُرشان بإشراف راع أصم لا يصله صوت الغنم، ومراقب أعمى يبصر الباطل ويؤيده، ويرى الحق ويتعامى عنه، وكفى الله المسلمين والعرب شر القتال!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.