غزة تهزم الظلام.. ليس فقط الظلام الناشئ عن انقطاع الكهرباء والذي يراد لغزة أن تغرق فيه.. بل كذلك ظلام آخر أشد وطأة وأكثر إيلاما للنفس انه ظلام النسيان والتعتيم الذي يتطوع للقيام بمهمته من تجري الريح تحت قدميه لا يعرف مستقرا للأحرف ولا اللغة فيصبح كالمغشي عليه وكذا يصبح كل الإعلام وكل السياسة وكل الخطاب بدون غزة لا قيمة له ولا معنى.. * غزة التي أسماها العرب مدينة البخور لم يتوقف ريحها الطيب في نشر معاني الرجولة والصمود فحررها سيل دماء أبنائها من الاحتلال على طريق التحرير لكل فلسطين، غزة هذه لم يفلح الإسكندر المقدوني أن يلغيها من خارطة الحضور الفاعل ولم يستطع الإمبراطور الاستعماري الفرنسي أن يزيحها من الوجود.. في غزة هذه أصر عربها قبل الإسلام أن يتميزوا بكنيستها عن كل الكنائس في العالم فكانت الكنيسة الوحيدة التوحيدية التي ترفض الشرك بالله.. إن ذلك ليس فقط، لأن فيها مرقد جد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هاشم بن عبد مناف، ولكن لأنها حامية بلاد الشام من الجنوب وآخر حصون الصمود أمام الهجومات الصليبية والصهيونية. ومنذ أكثر من ستين عاما أي بعد النكبة الكبرى في فلسطين، أصبحت غزةفلسطين المصغرة المكثفة بلاجئين من كل فلسطين ومنذ تلك اللحظات كانت غزة رافعة النضال الوطني بمجموعات الفدائيين تحت قيادة الضابط المصري مصطفى حافظ، ومن بعدها بطلائع المناضلين الفلسطينيين الذين أسقطوا مشروع التوطين في سيناء، ومن ثم طلائع حركة فتح التي صاغت المشروع الوطني الفلسطيني صياغة تشمل الكل الفلسطيني، فكان للمخيم في غزة السلطة الروحية التي أعطت الحركة مداها.. ومن غزة انطلقت مشاريع المقاومة كلها حماس والجهاد والجبهة الشعبية وألوية صلاح الدين وسواها.. في غزة شعب من كل فلسطين وشعب يريد كل فلسطين وفي غزة صمود أسطوري ضد الحصار وضد القصف وضد التهميش.. في غزة يصنع الناس حياتهم من الموت وحول غزة حصار تلو الحصار.. من البحر حصار ومن الجو حصار وعلى الحدود حصار وخلف الروم عبيد الروم.. ولكن غزة تحاصر من يحاصرها، فدم غزة وصراخات الأطفال فيها وأنين الجرحى وتأوهات المرضى وجدت طريقها إلى قلوب العرب والمسلمين الذين عاهدوها أن لا يتركوها وحدها من الجزائر إلى القاهرة، ومن طهران إلى اسطنبول، ومن مراكش إلى تونس، أمة تنتصر لغزة وترفع راياتها على مفاصل التاريخ وبوابات الأزقة والحارات، لأن غزة أصبحت عنوان الصمود للأمة.. وما كان لأحد أن يتخيل أن التاريخ الرائع يمكن أن يتآمر عليها، بل هو يصنع في ركابها.. وغزة الجزء الغالي من فلسطين اكبر من التنظيمات والأحزاب.. غزة عنوان صمودنا حتى الأبد.