الجزائر المنتصرة لا تُساوم أبدا على ذاكرتها    عطّاف يجري مباحثات مع لافروف    اختتام المسابقة الوطنية للطيران    الرئيس يُجدّد التزام الدولة بدعم الشباب المبتكر    حضور بارز للجيش بمعرض الإنتاج    تحدّيات المرحلة الثانية من خطّة ترامب    ترامب يبدأ حرباً جديدة في الشرق الأوسط    كأس إفريقيا كل 4 سنوات مستقبلاً    دور الجمعيات هامّ في ترقية العمل التطوعي والخيري    فيلم أحمد باي يُعرض في هذا التاريخ..    لاناب حاضرة..    اختتام الدورة التأهيلية التاسعة للمرشحين    أفريقيا في وثيقة الأمن القومي الأميركي 2025    غرة رجب 1447ه هذا الأحد والشروع في قراءة صحيح البخاري بالمساجد ابتداءً من الاثنين    "عش رجبا تر عجبا".. فضل رجب وأهميته في الإسلام    فتاوى : حكم قطع صوم النافلة    إطلاق منصة رقمية جديدة لاستقطاب الاستثمارات النفطية تحضيرًا لمناقصة "Algeria Bid Round 2026"    إطلاق أول مسابقة وطنية لطلبة الطب في الجزائر لتعزيز التميز العلمي والابتكار الشبابي    المجلس الشعبي الوطني يناقش تعديل قانون الجنسية: التجريد إجراء استثنائي لحماية أمن الدولة    بومرداس.. إنتاج قياسي للسمك الأزرق خلال 2025    أدرار.. توقع إنتاج نحو 380 ألف قنطار من الذرة الحبية    محتصون يحذرون من ردود أفعال عنيفة عقب نتائج الفصل الأول    المذكرات الورقية تنسحب من يوميات الأفراد    خنشلة.. الشروع قريبا في إنجاز 4 مؤسسات تربوية    الوقاية من حوادث المرور : الجزائرية للطرق السيارة تشارك في حملة تحسيسية    أمطار رعدية مرتقبة على عدة ولايات هذا الأحد    مراجعة الأداء لمواكبة تطلّعات المواطن وانشغالاته    بناء وعي متبصر لحماية الجزائر    تطوير المصطلح الإعلامي ليواكب التحوّلات الرقمية    شراء وبيع أسهم وسندات "بورصة الجزائر" إلكترونيا    تناغم بين الصناعات العسكرية والمدنية لتحقيق النمو الاقتصادي    إعادة هيكلة هيئة التفتيش لتطوير آليات التقييم    يوم إعلامي حول واقع وآفاق الاستثمار في إيليزي    مجلس الأمن يدين بشدة الهجمات على قاعدة بجنوب    "الخضر" جاهزون لرحلة النجمة الثالثة في "الكان"    تحويل الزجاج إلى لغة فنية نابضة بالروح    الموت يغيّب الفنّانة سمية الألفي    إبراهم مازة ورقة "الخضر" الرابحة في كأس إفريقيا    حيماد عبدلي يعد الجزائريين بالتألق في "الكان"    أكاديمية العلوم تكشف عن قصة توعوية مصوَّرة    إحباط تهريب 97510 علبة سجائر    مصادرة 3552 وحدة من المشروبات الكحولية    "حماية المعطيات الشخصية" محور نقاش قانوني وأكاديمي    أوّل هزيمة للعميد هذا الموسم    الخضر في المغرب.. والعين على اللقب    بلمهدي يشرف على اللقاء الدوري    ضرورة الحفاظ على إرث وتراث الدولة السورية الغني    سيفي يشرف على توزيع جائزة رئيس الجمهورية للغة العربية    الشعب الفلسطيني ما زال يقف على عتبة الأمم المتحدة منتظرا نيل حريته    نداء استغاثة عاجل لإدخال البيوت المتنقلة إلى غزّة    انطلاق المرحلة الثانية للأيام الوطنية للتلقيح ضد شلل الأطفال    شبيبة القبائل توقع عقد شراكة مع مستثمر جديد    كرة القدم / الرابطة الثانية /الجولة ال13 : مواجهات حاسمة على مستوى الصدارة وتنافس كبير في ذيل الترتيب    تمكين الطلبة للاستفادة من العلوم والتكنولوجيات الحديثة    دعم السيادة الصحية بتبادل المعطيات الوبائية والاقتصادية    أبو يوسف القاضي.. العالم الفقيه    الجزائر تُنسّق مع السلطات السعودية    الاستغفار.. كنز من السماء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في بيتنا مولود معمري..!
ربيعيات
نشر في الجمهورية يوم 13 - 03 - 2017

يحرص ذلك الأب الشاب الوسيم أن يؤثث مكتبته المنزلية بما يقتنيه من أمهات الكتب باللغتين العربية والفرنسية، التراثية منها و المعاصرة، في شتى الصنوف والأجناس، يقتطع ثمنها من راتبه كأستاذ ومترجم محلف، الأمر الذي يزعج أحيانا زوجته الجميلة. إنه يروم أن يجعل من المكان جنة ابنته، وقد لاحظ بعين العارف أن شجرة ميولها الأدبية تزهر يوما بعد يوم. الطفلة تكبر و تترك خلفها قصص الأطفال والشبان، ومؤلفات المنفلوطي، ورسائل جبران لمي زيادة. الحقيقة، أنه بعد تحصينها، لم يعد يؤذيه أن تمد أصابعها الطرية إلى أغلفة أخرى. لم يعد يهتم بوضع بعض العناوين "الراشدة" بعيدة عنها في الرفوف العليا كي لا تصل إليها، لأنها أصغر من أن تفقه فلسفتها ومرماها. اختلف الأمر الآن. لم يعد يأبه أن تلتقط يداها كتاب ألف ليلة وليلة، أو ديوان أزهار الشر لشارل بودلير، أو كتابات النفري، أوالبسطامي، أو أرسطو أو التوحيدي، أو منامات الوهراني، أو فيكتور هيغو، أو الحلاج، أو غارثيا لوركا، أو طه حسين، أو العقاد، أو هنري ميللر، أو نازك الملائكة، أو محمد ديب، أو مالك حداد، أو ابن عربي و«ترجمان الأشواق"، أو أشعار ولادة بنت المستكفي.. كل كتاب تلتقطه تحت عينه الحارسة، يتلوه نقاش حول مائدة الطعام . لكن ذلك الأب الشاب الوسيم في تلك العشية قدم لها كتابين مختلفين وهو يبتسم :
- لازم تقراي هاذ الزوج كتوب بابا..! هكذا يذكرها ويؤنثها كما يشاء بلهجته الندرومية العريقة، وهو يمد لها كتابين أنيقين لمولود معمري.الأول نصفه بالقبائلية ونصفه ترجمته إلى اللغة الفرنسية، بعنوان "إسفرا السي محند أومحند" والثاني روايته "الهضبة المنسية ". الأب الشاب المثقف يريد من خلال تقديمه لابنته كتاب " إسفرا سي محند"، أن يفتح أمام عينيها البريئتين سماء أخرى تطل منها على حقيقة واضحة مثل الشمس، وهي أن بلادها الكبيرة مترامية الأطراف، ثرية بثقافاتها المختلفة، ولغاتها، وتعدد أقواس قزح فيها. كان اكتشاف الفتاة للشاعر الكبير سي "محند أو محند"، دهشة كبيرة مفاجئة ، وكان لمجرد ترديد أشعاره متعة فنية وفكرية مختلفة . كبرت البنت القارئة تلك، وظلت أشعار سي محند تسكنها. كانت إشارة الوالد المثقف كافية لتفتح أمامها أبوابا لا بد منها، قصد معرفة نفسها، وبلادها، وأهلها، والثقافات المتعددة التي تنتمي إليها. لم يتوقف فضولها الذي دفعها إلى الذهاب بعيدا في تحقيق رغبة عارمة لاكتشاف عوالم مولود معمري، وقراءته بنهم. وجدتْه مثقفا إيجابيا، ومناضلا ثقافيا رزينا، يؤمن أن الأدب ليس كلاما تذروه الريح . بل إن فن الأدب يحمل صوتا داخليا عميقا يقول شيئا ما. همسا ما. رسالة ما. وإلا فليصمت. كأن ذا الدا المولود أحب نفسه في البلاد التي يحبها، فبحث فيها عن نفسه، ويدعو قراءه للفعل نفسه. نقّب عن التراثات العديدة المتعانقة على جغرافية أرضه منذ أزمان، كباحث أنتربولوجي متمرس، يسير على أثر لهب الشعر الإنساني في كل مكان يشع فيه، ويشير إليه ليراه الناس والعالم . حرك الدا المولود عنه غبار النسيان المكدس، بفرشاة العارف المُتقن لمهنته، وأزاح التراب من حول التراث الشعري الصحراوي " آهاليل" لمنطقة غورارة فحوّل أنظار العالم وعين اليونيسكو تجاهه. فكر الدا المولود بعقل المحب، وعشق العاقل الباحث في اللسانيات أن يؤلف " تاجرومت "، العمل الشجاع الذي ليس من السهل إنجازه، لكي يضبط به قواعد النحو في اللغة الأمازيغية. لم يُثْنه الوقتُ المتسارع لكي يتواجد في النقاط الأساسية التي تُشكل محور العمل الثقافي الجاد والموجه . فكان الدا المولود أستاذا جامعيا، وباحثا في اللسانيات، وأول رئيس لاتحاد الكتاب الجزائريين، ومؤسسا لمجلة "آوال" أو الكلمة، ومؤسسا لمركز البحوث الأمازيغية، وظل أديبا يمزج رمادية الواقع بألوان الحلم ويبهر قراءه ويعلمهم في الوقت نفسه. لم تتوقف القارئة النهمة بنت أبيها عند هضبة "الدا المولود" المنسية، التي أشار بها عليها ، بل اندفعت إلى عوالم روايته " غفوة العادل"، و رواية "الأفيون والعصا"، ورواية "العبور". كبُر حضوره في وجدانها الأدبي و الثقافي، كما في مكتبة البيت. كبرتْ وهي تتبع إشارة والدها نحوه، فتابعت مسرحياته، وقرأت بلهفة كتابه "أشعار،القبيلة" وظلت تشير لأبنائها ولطلابها الجامعيين نحوه:
- اقرأوه..عند الدا المولود ما يستحق أن يُكتشف..! عادت الفتاة التي أصبحت امرأة ناضجة لزيارة بيت أبيها ومكتبته. إنه موعد العشاء من 26 فبراير1989. حول المائدة العائلية أيضا يجلس زوجها الأديب أمين الزاوي، الذي وصل لتوه من المغرب، بعد أن شارك في ملتقى نظمته جامعة وجدة المغربية، وكان الكبير مولود معمري قد ألقى فيه محاضرة حول "الثقافة الشفوية"، وافترقا الصديقان على أمل اللقاء بعد أن تناولا فطور الصباح معا. كان النقاش حارا حول المائدة أطفأ شعلته صوتُ مقدمة نشرة الثامنة وهي تعلن عن وفاة الأديب مولود معمري في حادث مرور مؤلم قرب مدينة عين الدفلى. يُدوّي الخبر مثل انفجار عنيف في رأس بنت أبيها، تنظر إلى وجه زوجها الذي يبدو عليه عدم التصديق . إلى أبيها الذي وقف وهمس مكبرا. كأنها رأت يديه، تلك اليدين نفسيهما. يشيران لها نحو ( إسفرا محند أومحند( منذ سنوات طويلة مرت تركت مكانها، واتجهت نحو مكتبة والدها. تفقدته. مازال الكتاب في مكانه. حملته بين يديها، وبدأت تقرأ القصيدة تلك، بصوت مرتفع يحمل جينات سي محند أو محند، وحفيده الدا المولود.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.