«كان الشعر عالما ما زلت أرتجف انتشاء كلما احتواني» هي المقولة الدائمة لواحدة من الأسماء اللامعة في المجال الإبداعي. حمدة خميس، اسم لا يمر هكذا ببساطة لمن تقرب ولو قليلا من إبداع المرأة في العالم العربي، إذ تعد من بين المؤسسات لكتابة المرأة في الخليج والجزيرة العربية دون اختزال مكانتها المتميزة والقوية، شاعرة وصحفية بين كل من خاضوا مجال الإبداع والكتابة بشكل عام من جيلها، امرأة حبلى دوما بتصورات ومنضورات جديدة تجعل القصيدة في حركيّة دائمة كما الزمن وكما الإنسان، امرأة مسكونة بلغة شفافة تضج حياة ونبضا محملا بجمالية مفرطة في التعامل مع اليومي الذي تحوله شعرا حتى في تفاصيله الدقيقة. عند حمدة خميس لا شيء ولا موقف يستعصي على الشعر، لأن الشعر بالنسبة لها هو تلك اللمسة السحرية التي تحول كل جماد إلى روح وحركة. في كل مرة التقيتها إلا ولها الجديد الذي تضيفه إلى رصيدها الجمالي ممارسة وإبداعا وعلاقات إنسانية. امرأة بالرغم من اللحظات الصعبة التي كانت صادفتها، لم يجد التشاؤم فجوة ولو صغيرة إلى ذاتها، جعلت من الواقع بكل تفاصيله الحلوة والمرة فنا وإبداعا وجمالية تسكن عمق القصيدة، الطبخ قصيدة والبناء قصيدة والإسكافي قصيدة وكناس الحي قصيدة والطفل المرمي على الهوامش قصيدة.... جعلت من الطبيعة عالمها الحميم والنباتات عائلتها الحنونة التي تعانقهما لحظة الوحدة ولحظة الشوق ولحظة الغياب ولحظة استضافة الشعر وهي تتهيأ له كمن تتهيأ للحظة شوق وذوبان مفاجئ، لكل نبتة ذاكرة وتاريخ وهوية. شاعرة تسكنها الأمومة بشكل أسطوري وخرافي الشيء الذي جعل لغة قصائدها حتى السياسية منها محملة بعوالم جمالية وانزياحية قل من يتوفق إليها، جعلت من ذاكرة الزمان وذاكرة الأمكنة زادها القوي الذي لا يشح نهائيا وغناها الروحي الشفيف دون السقوط في الحنين المرضي. ربما عملها المتنوع والمتعدد في مجالات مختلفة وتقربها من الآخرين جعل كتابتها تشع بالروح الإنسانية النيرة مهما كان الموضوع وقساوته. عملت في مجال الطيران مع شركة بريطانية، ومدرسة لسنوات، وهي والرحالة الدائمة من البحرين إلى العراق إلى بريطانيا إلى الإمارات إلى سوريا وأماكن أخرى لا تعد ولا تحصى، الموزعة بين العمل السياسي والعمل الإبداعي الذي لم تتخل عنه يوما. لا زلت أتذكر جيدا كيف كنا نهيئ معا تلك الأكلات الشعبية الخليجية المعبأة براحة البحر وخيط الروح الذي يربطها مع كل الجدات وما سرقته منهن من ملامح وحكمة ونسيج لن تنسل خيوطه أبدا. هي المتعددة في كل شيء لا تحب الرتابة والسكون ، هي أصلا متعددة كون الأم إيماراتية والأب بحريني وهي مولودة بالمنامة سنة 1946. لم يكن سهلا على امرأة مثلها يسكنها بركان التحدي وتجتاحها رغبة الكتابة لقول الممنوع والمسكوت عنه في مجتمعات منغلقة لا ترى في المرأة إلا الأنثى المستكينة والخاضعة وآلة إنجاب؛ أن تجعل من صوتها جسرا جميلا نحو الآخرين ونحو ذاتها العميقة. تفصح في حوار من حواراتها» تجربتي في الكتابة خاصة ومريرة، فقد كان علي دائما الخروج من جلد المرأة الناعم والالتحام بخشونة الأحلام، ولقد كان هاجسي هو التعبير عن الهم الإنساني وليس هم المرأة الجزئي.. إنني امرأة لذا فأنا أحمل تراث قرون من الاضطهاد الخاص والمزدوج... وكان الشعر ساحرا يأخذ بيدي رويدا رويدا نحو منطقة الإضاءة كان علي أن أختار واخترت ولم أشعر بالرغبة قط في التراجع عن هذا الاختيار...» مقاطع من قصيدتها « تنحوا كي تعبر النساء» المدى رحبٌ والفضاء يد الله الأرض غبّ هزائمٍ وأُفول وأنتنّ جالساتٌ خلف الأساور تُوشوشنَ الليل بالسكون تَرفعنَ العتباتِ في قيامة النهار تأتي الشمسُ وتلمّ شرائطها في الأصيل وأنتنّ ماضياتٌ في الشراشف لا تحبُكْنَ فتيلاً، لا ترفعنَ منارة ولا تُشعلْنَ عصبَ الكلام الجميل! @@@ انهضنَ .. انهضنَ يا نساءَ الخليقةِ وصفوةَ الكائنات انهضنَ إلى البياض دوّرن رغيفَ القصائد أشعلنَ قناديلَ الحكايا احبكْن الكلام الذي يشفُّ كجوهرة ويجرحُ كالنِّصال اعبرْنَ نهرَ الكتابةِ إلى ضفّة الوجود كُلُّ جسدٍ كونٌ .. كلُّ قصيدةٍ أنثى كلُّ امرأةٍ لغة!