أعتبر، دون أدنى تردد، أنّ تجربة عبد الكريم ينينة القصصية الموسومة: قليل من الماء لكي لا أمشي حافيا، من أهمّ ما قدمته الساحة الجزائرية في السنين الأخيرة، وتحديدا في هذا الجنس الأدبي. ذلك لأنه يمثل، من منظوري، صوتا سرديا متفردا في هذا النوع. لقد عرف كيف يدخل إليه مطمئنا إلى حد ما، ومربكا بفعل الأسئلة التي يطرحها باستمرار على نفسه، وعلى النص واللغة والخيال وأفق الانتظار: هذا الانتقال من الشعر والمسرح إلى القصة القصيرة جدا ليس انتقالا مجانيا، أو نوعا من التجريب الساذج. إنّ الاشتغال على الموضوع، بتقوية الجانب المفارق للمعيار المتواتر هو أحد هذه السمات البارزة التي تحيل على طريقة شحذ المتخيل. ذلك أنّ القاص يقوم بجهد يكاد يكون استثنائيا في فعل الانتقاء، ثم في صناعة الموقف والرؤية، إذا جاز أن اعتبرناها صناعة أدبية. والحال أنها تبدو كذلك من حيث غرابتها الدالة التي لا يمكن اعتبارها مجرد بذخ أو ترف ذهني لا أسس له، أو تنميق عابث يهدف إلى خرق المنوال القائم، دون غاية وظيفية مقنعة. هناك في هذه النصوص القصيرة جهد مركب يحيل على تصوَر راق للقصة القصيرة جدا وهويتها السردية، دون الانقلاب الجذري على مقوّماتها القاعدية. قد تدخل هذه التجربة في باب تقوية الحلقية الخالدة التي تميز كلّ الاجتهادات الواعية بحقيقتها ووظيفتها، وبطبيعة المرحلة والسياق اللذين يفرضان على الوعي السردي إعادة النظر في إمكاناته وممكناته التخييلية والشعرية. أتصوَر أن القاص عبد الكريم ينينة، وهو ينسج حكاياته المثيرة في صحراء الربّ، هناك في الجنوب الكبير حيث القيظ والرمل والمد والفراغ البهيج، كان يفكر مليّا في قدرات المعالجة الإملائية ومحدوديتها، أو عجزها، في حالات كثيرة، عن التعامل مع المحيط الخارجي الذي يفرض، بحكم صيرورته، أنماطا إبلاغية مؤهلة لنقله وفق منظورات مغايرة، وتأسيسا على وعي خاص له مسوغاته وشخصيته من أجل تقريب الواقع الخارجي، أو الواقع النفسي من المتلقي. لذا يغدو اختيار الكاتب مبررا لانبنائه على توجه معلن منذ البداية: البحث عن الغريب والسحري والشاذ والصادم، وكلّ ما من شأنه أن يسهم في تخييب أفق انتظار القارئ الذي عادة ما يتوقع نهايات عينية ذات علاقة بالمسارات المنطقية للحكاية: العنوان في حدّ ذاته عينة على هذا الانزياح. بيد أنّ الموضوع الغريب يغدو عنصرا من عناصر أخرى لا تقل غرابة وإثارة، من الشخصيات إلى المكان إلى الحوار إلى المناجاة إلى الصورة إلى اللغة. هناك ما يشبه حقلا من الألوان الباهرة التي تتجلى على أصعدة مختلفة. الظاهر أنّ الكاتب أفرد لهذه الجوانب جهدا خاصا، قبل الكتابة وأثناءها. أي أنه فكر فيها بتؤدة وروية، إن لم يجعلها موضوعا من موضوعاته القاعدية، وإحدى الغايات من الفعل السردي برمته، كما يمكن أن نستنتج من النصوص قاطبة بفعل هذا الحضور الواضح لعدول جذري لا يمكن عدم معاينته من خلال القراءة الأولى. يجب أن ننبه ها هنا إلى طبيعة المفارقة المذهلة التي تعكس بعض السخرية الحزينة التي لها مذاق الراهن وسرياليته وعدميته. كما تبدو لغة القاص، بفعل تنوَع الحقول المعجمية المؤثثة، المستقاة من مرجعيات مكرسة، لغة تمّ الاشتغال عليها وعلى دلالاتها الوضعية والاستثمارية. ذلك لأن التنقيب لا يتعلق باللفظة القاموسية فحسب، أو باللفظة والتداول النقلي، بل باللفظة وممكناتها الجديدة، أو بسياقها الراهن، كما يراه الكاتب، وكما يريده أن يكون، امتدادا للموروث وتجاوزا له، دون الإساءة إلى مقوَماته، كما قد يحدث في بعض الكتابة التجريبية التي تبني على خرق فظ لا منطق له لأنه لا يتمثل المنجز، او أنه يتجاوز ما لا يعرفه، وما لم يتمثله. ليس من باب الصدفة أن تغترف هذه المجموعة القصصية من العوالم المعجمية والتصويرية للقصيدة، الحديثة منها والقديمة، ولأن القاص شاعر ومسرحي فقد قام بحفريات مميزة تؤهله لأن يكون أحد الأسماء التي بمقدورها أن ترسم خارطة جديدة للقصة القصيرة جدا، تخييلا ولغة. تخييلا لأنه يبذل جهدا اعتباريا مهمّا، ولغة لأنه يقوم بحفريات ليس من السهل العثور عليها في الكتابات السابقة، والجديدة أيضا، وهو إذ يفعل ذلك، فإنه يفعله بوعي لإدراكه بأن العلامة اللغوية كالنبتة التي تحتاج إلى عناية خاصة لتكتسب لونا ومعنى، واستمرارية في الزمان. هناك في هذه التجربة المتميزة إحالات معجمية على مجموعة من النصوص المتفاوتة زمانيا وفكريا وفنيا وجماليا، وعلى نصوص جامعة ومؤسسة يمكن للقارئ الكشف عنها من خلال تأمل المفردات التي استعملها الكاتب، ولو كان ذلك ببعض التحويرات التي مردها شكل الاستثمار وأسبابه ومقاصده التي تختلف، في عدة سياقات، مع النص القاعدي، أو مع النص المرجعي الذي تمّ الاتكاء عليه، سواء من حيث اللفظ أو من حيث المعنى، لا لنقله أو لحفظه، بل لتثويره وفق الحاجة، ومن أجل تداول مفارق للنموذج المعياري القائم. يقول الروائي الجزائري الحبيب السائح معلقا على هذه المجموعة القصصية: « لعلّ عبد الكريم ينينة، بتجريبه في هذا النوع، يكون يضع يده الآن على مخزون ثمين قد يعرف إعادة انتشار جديد، بصياغة متطورة...». المؤكد أنّ هذا القاص لا يريد المزاح من وراء كتاباته المختلفة. إنه لا يكتب من أجل أن يسجل اسمه في قائمة الكتاب الملمّعة بنقد متواطئ، مختزلا المسافات والحلقات التي يجب المرور بها. القاص الساخر عبد الكريم ينينة لا يقصد السخرية لذاتها، كغلاف سردي لا قيمة له. إنّما يبني عوالمه الساحرة بأناقة لأنه يملك قدرة كبيرة على أن يكون حاضرا برؤاه، بتجربة شحذتها الممارسة، وبجهد مجازي معتبر، ثم إنّ سخريته المسؤولة هي نوع آخر من القوة والبديهة، وشكل من أشكال التعامل مع حياة قد لا تحتاج دائما إلى الجمل المنضبطة كالفرق العسكرية الذاهبة إلى حرب وشيكة. أقصد ها هنا الجمل التي بربطات عنق، وهي كثيرة في منجزنا القصصي، والسردي بشكل عام. قليل من الماء كي لا أمشي حافيا تجربة قصصية يمكن قراءتها من زوايا مختلفة، وبمتعة فعلية. إنها مجاورة لمنشوراته الساخرة على شبكة التواصل الاجتماعي، شيء من السحر والذكاء، ومن الوعي الحاد بالمحيط الخارجي، بمكوناته وسيرورته. هذه النصوص المثيرة تجعلك تضحك بمرارة لا متناهية لأنها ذكية، واخزة، وموجزة: عوالم من الأخيلة والبياضات والاضمارات التي تقول كثيرا بجمل محدودة، كما يمكن أن نلاحظ في بعض التجارب العربية الجديدة التي أصبحت ميالة إلى اختزال كبير، لكنه وظيفي، وضروري.