صبيحة الأحد 29 جانفي عام 1989، سيَظَلُ يومًا مَوشومًا في تاريخ وأنطولوجيا الشعر الجزائري الحديث، في تلك الصبيحة الكئيبة أقدمَت الشاعرة صافية كتو(44) على الانتحار، كان سيّاج الجسر بقُضبانه المستديرة مِنَ القِصَرِ في الارتفاع والحجم ،مَا سَهَّل على الجسد الواهن الرخْوِ، أن يسقط بهدوء ودَعَة، دونَ جَلبَةٍ أو ضجيج؟، تَهَاوَى جَسَد الشاعرة الرهيف ، كما لو أنّه ريشة في مَهبِّ الريح، لم يُحْدِث ارتطامه بالأرض أيُّ دَويٍّ يُذكر،ولا أَثَارَ انتباهَ الآخرين،.. هكذا، هُو شأن وحال الشعراء والمبدعين الكبار، كما يكوفسكي، فرجينيا ولف، خليل حاوي،ياسوناري كاوباتا، ميشيما، تيسير سبول، حياة شرارة،عبد الله بوخالفة، الخ، يرحلون في صمتٍ بليغ، ويتركون قصائدهم وكلماتهم على الطريق، صحيح أنهم لم يختاروا ساعةَ الميلاد والمنشأ، لكنهم -بالقَطْعِ -يمتلكونَ أو يَهجِسُون بموتهم «الخاص» ونهاياتهم الاضطرارية ،لِمُغادرة هذه «الكوكب الأرضي» المُلوَّث بالضغينة والكراهية والأحقاد، ماتت» صافية كتو» مَوتاً هادئاً ،أو بالأَحْرَى انسحبت قليلًا إلى الظِّل، مُلتحِقةً بكوكبها البنفسجي، في مَشهدٍ تراجيدي حزين ، قرّرت- زهرة رابحي- عدَمَ الالتفات إلى الخلف، امتطَت غيمةً هاربةً على الدوام، واتجهت نحو ذلكَ الأفق البعيد؟ ،.. لَطَالَمَا تساءلتُ عن سرّ هذه الشجاعة التي امتلكتْهَا هذه الشاعرة-وهي المرأة المُرهفة الأحاسيس- لاتخاذ ِهذا القرار الصعب، والموت بتلك الطريقة المثيرة، أو»الموت العظيم» على حَدِّ قول الكاتب المصري الراحل» يوسف إدريس « تعليقاً على انتحار الروائي الأمريكي الكبير «أرنست همنغواي «عام 1961، إن نهاية هيمنغواي وانتحار «صافية كتو»وقبلَها وبعدَها العديدُ من الشعراء هُو مؤشر دالٌ على أنّ شيئا ماَ قد حدث؟ ، وأنَّ ثمَّة ارتباكا قد طرأ على نظام «الكون» ونواميس الطبيعة، أَليْسَ الشعراء هم أنبياء على نَحْوٍ ماَ، يستشرفِون مَا هُو آتٍ، ويتوقّعُون القادم من الخيبات والأهوال؟، إنّ انتحار «صافية كتو» بتلك الطريقة الفجائعية، فَاجَأَ «الجميع» لدرجةِ الصدمة والحيرة والذهول، فالأقربُونَ عائلياً منها،أُصِيبُوا بالدهشة، وتملَّكَهُم إحساسٌ شديد بالذُعر والعار؟، وحَزِنُوا أكثر لتلك الطريقة الرهيبة التي أنْهَت بها حياتَها؟، هي التي لم تكُن تَقْوَى على جُرحِ عصفور،أو الدُنُوِّ من فراشة مُحلِقةٍ في الهواء؟ ،كان بإمكان الشاعرة أن تتريَّثَ قليلاً قبل اتخاذِ قرارها المفاجئ والمُباغت للجميع؟. في هذا السياق، يصف الشاعر الجزائري «أبو القاسم خمار» لحظةَ انتحارها،مُخاطِباً إيَّاها قائلاً» .. كَان يَلزمُكِ القليل من الأمل ،لتعُودِي مُجدَدًا إلى الحياة، فالقليل من الأمل يكفي يا «صافيّة»، لِتعديل مجرى الساقية وتغيير الاتجاه». ويبدو أنّ حياة الشاعرة فوق الأرض لم تكُن تكفي، لِتَعُبَّ أكثر من نهر الحياة ومباهجها الفيّاضة، فالزمن الرتيب والأيام الصعبة والحياة الشائكة،لم تكُن مِنَ السَّعَة والشمول بحيث تسمح لأحلامها ورغباتها في الاستمرار و التحقُق على أرض الواقع،كان يُعوِزُها كثيراً من الوقت لِتشْرَعَ قلبَها للحب والرغبات الصغيرة كالحب والزواج؟، لكن ظلّت كل هذه «الأحلام» مُؤجلةً أو مُرْجَأَةً إلى حين؟ ،مُعرَّضةٌ تارةً للإخفاق وتارةً أُخرى للفشل والهزيمة؟، لنُصْغِ لقول الشاعرة في إحدى قصائدها: نحتاج وقتًا...وجراحًا ودموعًا لنتعلَّم المشي بين الأدغال نحتاج وقتًا، وهزائمَ ومآسٍ نحتاج وقتًا أكثر..لنتعلَّم السباحة في بحر «الحياة» برحيل هذه الشاعرة ، تغيبُ عنّا شمسٌ حَانيةٍ، وقمرٌ خجول نفتقدُ كثيراً إطلالتَه المُشِّعة في ليالينا الباردة هذِه المطعُونة بالمرارة واليأس.