بتكليف من رئيس الجمهورية… عطاف إلى نيويورك لمتابعة عضوية فلسطين    عرقاب: "تنفيذ مشاريع تجريبية للتحكم في تكنولوجيا الهيدروجين النظيف"    السيد بداري يبرز أهمية استخدام الذكاء الإصطناعي لتطوير الإبتكار    الإبادة متواصلة في غزة..هجمات دامية لجيش الاحتلال توقع 46 شهيدا خلال 24 ساعة    رئيس الجمهورية يستقبل الرئيس الصحراوي    كأس الجمهورية: سحب قرعة المربع الذهبي ليلة هذا الأربعاء    في زيارة فجائية لمستشفى سدراتة بسوق أهراس : الوالي يطالب بتحسين الخدمات في المخبر والأشعة    خلال سنة 2023..حجز أزيد من 10 ملايين قرص مهلوس و29 طنا من الكيف المعالج    غرداية: تكثيف الجهود لتنظيم خطوط النقل البري لضمان راحة المسافرين    وضع حيز الخدمة مشروع خط السكة الحديدية خنشلة عين البيضاء قبل نهاية الشهر الجاري    بارا جيدو (العاب برالمبية- 2024): ارتقاء المصارع الجزائري عبد القادر بوعامر بعدة مراكز في طريق التأهل الى موعد باريس    سوناطراك توقع بروتوكول اتفاق مع الشركة السويدية تيثيس أويل إيه بي    قوجيل يشيد بالاستراتيجية المنتهجة في التكوين للجيش الوطني الشعبي    حوادث المرور: وفاة 47 شخصا وإصابة 2017 آخرين بجروح خلال أسبوع    توقيع اتفاقية شراكة بين الوكالة الوطنية للتسيير المدمج للموارد المائية وشركة سيال    بلمهدي يبرز أهمية هياكل القطاع كصمام أمان للمرجعية الدينية الوطنية    التقاطعات الخارجية والوقائع الغامضة في حرب السودان!    بمناسبة الاحتفالات المخلدة ليوم العلم بقسنطينة.. نقل مكتبة العلامة عبد الحميد بن باديس رسميا إلى جامع الجزائر    يعرض 7 أعمال سينمائية فلسطينية تباعا طيلة أيام التظاهرة .. "فيفا -تحيا- فلسطين" برنامج خاص في مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي    إنعقاد الدورة الأولى للمجلس الإستشاري لمعرض التجارة بين البلدان الإفريقية بالجزائر    العرباوي يستقبل سفير جمهورية البرتغال لدى الجزائر    إعادة اعتقال الأسرى الفلسطينيين المحررين : خرق صارخ لصفقات التبادل تغذيه نزعة انتقامية صهيونية    البرلمان العربي يطالب مجلس الأمن الدولي بضرورة توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني    كعباش يفوز بكأس تركيا لكرة اليد    رفضت تأهيل ملعب بكامبالا واللقاء في بلد محايد: الكاف تمنح الخضر امتيازا قبل مواجهة أوغندا    في وقت تضاربت الأسباب ما بين "إعفاء" وعقوبة: استبعاد دحان بيدة من إدارة لقاء سوسطارة ونهضة بركان    روسيا حريصة على تطوير شراكتها بالجزائر    الجزائر تحتضن المعرض الإفريقي للتجارة البينية    وليد يعرض بسويسرا جهود الجزائر    دعت إلى وضع حد لآلة القتل الهمجي للشعب الفلسطيني: الجزائر تحذر من اتخاذ الرد الإيراني ذريعة لاجتياح رفح    تنويه بدور الجزائر المحوري داخل مجلس الأمن    يخص المترشحين الأحرار في شهادتي البكالوريا والتعليم المتوسط: انطلاق الامتحان في مادة التربية البدنية والرياضية يوم 8 ماي    أي دور للجامعة في الفضاء الاجتماعي؟    في ذكرى يوم العلم..    "نوافذ على الآخر" كتابٌ جديد للدكتور أزراج عمر    وفق تقرير لجامعة هارفرد: الجزائري سليم بوقرموح ضمن أهم العلماء المساهمين في الطب    توقيف لص والقبض على عصابة اعتداء: وضع حد لعصابة سرقة المواشي بباتنة    عين عبيد: مطالب بالتهيئة والربط بالشبكات بقرية زهانة    وهران.. أكثر من 200 عارض منتظرون في الطبعة 26 للصالون الدولي للصحة    انطلاق عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان    انطلاق عملية حجز التّذاكر للحجّاج المسافرين    جهود لإبراز المقومات السياحية لعاصمة الصخرة السوداء    أوامر وتنبيهات إلهية تدلك على النجاة    تراجع مقلق في مستوى بكرار في الدوري الأمريكي    جوان حجام يتحدث عن علاقته مع بيتكوفيتش    لا سلام في الشرق الأوسط دون إقامة دولة فلسطين المستقلة    20 مليون يورو لمن يريد عمورة    المعتصم بالله واثق ميدني.. الطفل الذي أزهر عالم الأدب    ضبط 17كيسا من الفحم المهرب    استحضار الذكرى 26 لرحيل العقيد علي منجلي    إطلاق مسابقة حول التكنولوجيا الخضراء بجامعة قسنطينة(3)    إبراز المصطلح بين جهود القدماء والمحدثين    فرصة للاحتفاء بالموسيقى الكلاسيكية الجزائرية الأندلسية    عشر بشارات لأهل المساجد بعد انتهاء رمضان    تمكين الحجاج من السفر مع بعض في نفس الرحلة    وصايا للاستمرار في الطّاعة والعبادة بعد شهر الصّيام    مع تجسيد ثمرة دروس رمضان في سلوكهم: المسلمون مطالبون بالمحافظة على أخلاقيات الصيام    قوجيل يهنئ الشعب الجزائري بمناسبة عيد الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



« من يسبق الجراد إلى القمح؟ " لعبد الرحمن بوزربة
مرايا عاكسة
نشر في الجمهورية يوم 14 - 02 - 2022

الاستشهاد الإملائي بالشعر الوافد من المنجز الغربي، ليس حلا،وليس معيارا لتقييم الذائقة بالنظر إلى غياب أدوات القراءة المستقلة ، وإلى اكتفاء القارئ بالثقافة الشفهية التي تمّ تكريسها لاعتبارات غير أدبية. أجد في بعض الشعر العربي، وكثيرا مما كتب في الجزائر، هالات مرجعية، بعيدا عن السفسفة التي يتعرض لها هذا الجنس الذي يستدعي موهبة ونباهة، ومؤهلات تؤثث النص ببلاغة وأخيلة كافية لضمان قيمته.
ما يكتبه الشاعر عبد الرحمن بوزربة تتويج لوعي متقدم بمفهوم الكتابة الحرة، بمكوّنات القصيدة وجوهرها، بشعريتها وشاعريتها، بالكيفيات التي تضفي على النص قيمة مخصوصة، لأنها لا تؤسس على النقل ، أو على معاودة ما تمّ إنجازه في التجارب الغيرية، بقدر ما تبني على منظورات مستقلة وتحديث ذاتي، بمنأى عن الأشكال التابعة للجاهز، وعن المسوخ التي تبني على النقل واللصق.
وجدت في ديوان "من يسبق الجراد إلى القمح؟" ما لم أعثر عليه في كثير من الشعر الغربي الذي عادة ما نتخذه متكأ بتعليلات إملائية ، وسندا يقينيا في الخطابين الجامعي والنقدي، دون مسوّغات تجعله كذلك، باستثناء الموالاة التي عادة ما تنبذ القصيدة المحلية انطلاقا من مواقف نقلية امحت في المستورد، مع أنّ هناك أحكاما لم تبن على ضلالة بفعل الاختراقات التي تتعرض لها القصيدة من بعض المعتدين على حقل الشعر والمحسوبين عليه.
اللافت في هذه النصوص هويتها الشعرية التي تلازمها كمأثرة، موضوعا وأسلوبا ومعجما وتفصيلا ورؤية، وتلك ميزة تمنحها بطاقة ثبوتية مخصوصة، بمنأى عن التلوث الذي يجعل الابداع تركيبا هجينا لمنظورات وإحالات متشظية، غير ضرورية، لا هي لأصحابها ولا هي لصاحبها. هناك حضور بيّن للشاعر في الجزئيات الدالة على تحديث لا يحاكي التقنيات والأفكار التي تستورد من مؤسسات إبداعية غيرية لها سياقات إنتاجها. عبد الرحمن ينطلق من الذات، من خياله، ومن ثقافته كمجرى، لذلك كان التركيز على ما يراه من أشياء وظواهر بعقل راجح، وليس على ما يراه غيره من الشعراء الاتباعيون.
إننا أمام منظومة من العلامات المتشبعة بأفكار أصيلة لا تستورد أو تختزل ما كُتب تكريسا للحفظ، منظومة تبدو بسيطة في تجلياتها ، لكنها مشحوذة، ومفتوحة على ممكنات تأويلية لا تحصر القارئ في معنى مغلق، أو ضابط للفهم الأحادي. هذه النصوص، على تباينها وثرائها المعرفي ومستوياتها، تجربة شخصية قائمة على بصيرة الرائي الملتزم بخط مُستقل عبارة عن رؤية قائمة بذاتها ، وعلى تمثل عميق للموضوعات " الصغيرة "، على قيمتها الكبرى في تأثيث الكتابة بجزئيات دالة ، وبزاد رؤيوي مغاير للمتواتر من الفهم، وضروري في تمثل الكون وغناه وتشكلاته المركبة ، كما قال الفيلسوف ان مي – تي ولا تسو في تثمين التفصيل الذي قد يصبح قيمة قاعدية. لقد ورد الجزئي كقيمة، وكموضوعة ذات اعتبار جوهري.
الشعر، كما يمكن أن نستنتج من هذه القصائد، لا ينحصر في محاكاة الموضوعات المشتركة والأيديولوجيات الكبرى وتكريسها إبداعيا، أو في التعقيد والتركيب والنسخ والرصف وصناعة اللبس تعميما للعمى، إنه آلاف الأعين والمشاعر المستقلة عن النمط ، تلك التي تهتم بالحفريات. ذاك ما تكشف عنه قصائد عبد الرحمن بوزربة الذي ظلّ وفيا لخط كتاباته، ومتجددا في إطار المسار نفسه، بتنويعات موضوعاتية ورؤيوية دالة على التجاوز الواعي لمنجزه في إطار علاقة وصلية لا تمحو، بقدر ما تضيف إلى الرصيد السابق. هناك بحث مستمرّ عن جنة الأخيلة، وعن سماوات جديدة لاستثمار الكلمة بتجاوز دلالاتها الوضعية.
الحقول المعجمية تفادت، بذكاء العارف، كثيرا من الكلمات والمواصفات التي تنقل الحالات بتحديدات ضابطة لها، بالكلمة أو النعت، دافعة التقنين إلى الدرجة صفر : الجرح، النواح ، الدموع ، القلب، الألم، المخاض، المرض، البكاء، الآهات. لقد حلّ السرد الحيادي محلها لينقلها في قالب حكائي يوحي أكثر مما يصرح ، إذ عادة ما يضع الشاعر مسافة بينه وبينها، ومن ثم تفادي تثبيتها نصيا. لذا تصبح القصيدة مجموعة من الحالات المفتوحة التي تترك للمتلقي باب وضع النعت أو الكلمة الشارحة وفق مستوى تلقيه، دون توجيه من الشاعر الذي يلعب وظيفة العارض في أغلب الأحيان، أو دور المتفرج الذي لا يتدخل في تنميط الموقف وضبط الحالة.
إضافة إلى تحرير القارئ من ضغط النعت والتحديدات المنتهية للحالات الشعورية، وللموقف، تأتي اللغة مساوية لنفسها، للرؤى والمواد الشعرية والسردية المنقولة باتزان، بعيدا عن الجعجعة اللفظية التي تتبوأ النص، على حساب المعنى، مانحة الأولوية لتركيم الألفاظ التي تسهم في التقليل من شأن الأفكار. هذا الفهم للغة وتأثيراتها جعل نصوص "من يسبق الجراد إلى القمح ؟« عوالم منسجمة مع الأشكال المعبرة عنها، وتحديدا ما تعلق بطبيعة المعجم الذي يمكن التفاعل معه بيسر ووضوح، دون تعقيدات وتراكيب وتوظيفات وتهويمات لا مسوّغ لها من الناحية الدلالية، إذ عادة ما ترد هذه الأخيرة لتعكس فقر الخيال إلى الفكرة.
هناك في الديوان، كملاحظة أخرى، ما يتقاطع بوضوح مع الحكمة الخالدة التي انتقلت إلى المتلقي من المنجز الانساني، مع تراجعها في أغلب الشعر الذي اهتم بتغليب الحسّ والانطباع على اختزال الأفكار والتجارب في مقاطع محدودة لمقاصد عينية، للتعليم أو الوعظ. عبد الرحمن بوزربة يمرر في بعض النصوص تجربة أعوام من الملاحظات والمعايشات، دون تبذير للكلمات، وبأقل تكلفة تواصلية، كما فعل الشعر العربي القديم الذي خلّف مآثر غدت مرجعيات لافتة، وحاضرة باستمرار كشواهد تيسر التبيين.
مطلع المؤلف تكثيف للدلالات في قالب حكمي، أو ما يشبه وصايا العارف الذي شحذه الوقت فاختصر الخطاب في نصوص قصيرة، لكنها لا تخلّ بالتواصل، بقدر ما تعكس الفهم المتقدم لروح البلاغة. إنها أفكار مبتكرة، مدروسة بإتقان الرائي، وقابلة لأن تصبح شواهد في ظلّ ابتعاد كثير من الشعر عن الاختزال، وعن نقل التأملات والمواقف في أبيات مؤهلة لأن تكون مآثر قابلة للحفظ، ومن ثمّ اتخاذها دعائم. ذاك ما فعله المعري وأبو نواس والمتنبي، وغيرهم من الشعراء المكرسين الذين لم يغفلوا هذا الجانب الذي أصبح غرضا شعريا اعتبر من أهمّ ما قدمته القصيدة العربية.
في ديوان " من يسبق الجراد إلى القمح؟" تشدك نباهة الاستعارات الحية والتشبيهات المفارقة للمعيار، على قلتها، لكنها لافتة لأن الشاعر اشتغل عليها بروية من يدرك قيمتها، إن لم يصبح ذلك جزء طبيعيا من مداركه الإبداعية في فهم القصيدة وسُبل ترقية المعنى باستغلال الآليات التعبيرية التي لا تعيد إنتاج الفظ، بالمفهوم الأسلوبي، أو لا تقوم على المستهلك الذي لا يضيف شيئا للمتلقي. لقد تفادى الشاعر الدلالات المكررة، بمفهوم هيجل، مكتفيا بما يمكن أن يقدم من زاد إضافي لا يركز على تنويعات على الأصل ذاته، كما يقول أدونيس.
وهذي عينة تمثيلية كقفلة لعرض موجز يستدعي اهتماما أوسع بطاقة شعرية مهمة، ومثيرة في المنجز الجزائري المعاصر الذي يحتاج إلى قراءات متخصصة بالنظر إلى قيمته الكبرى: "تكلم/ لكي لا تموت هنا/ مرتين/ تكلم../ولو قطعوا شفتيك/ ولو جعلوا مكانهما/ جمرتين../ فأنت الرماد إذا ما سكت/ وأنت البلاد/ إذا ما تكلمت/ فاختر مصيرك/ في كلمتين".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.