سفيان شايب يدعو طلبة الجالية بجنوب أوروبا إلى التكتل في جمعيات وهياكل تنظيمية    انطلاق فعاليات معرض ومؤتمر "ناباك 2025" بوهران بمشاركة أكثر من 500 عارض من 60 دولة    النص الكامل لبيان اجتماع مجلس الوزراء    مهرجان الجزائر الدولي للفيلم يفتح باب التسجيل للمشاركة في أول دورة من "سوق AIFF" المخصص للسينمائيين    رئيس المجلس الإسلامي الأعلى يبحث مع رئيس مهرجان لحويطات سبل تعزيز التعاون الديني والثقافي    جلاوي، يترأس جلسة عمل وتقييم مع إطارات القطاع    فلسطين : 6 شهداء برصاص وقصف الاحتلال    غوستافو بيترو : "حانت ساعة الحياة أو الموت"    قسنطينة : حجز وإتلاف مواد غذائية غير مطابقة    وفرنا أكثر من 385 ألف منصبا تكوينيا عبر مختلف المؤسسات    سكيكدة : حجز 630 قرص مهلوس    التكوين المهني دعامة أساسية لنهضة الجزائر الجديدة    أحمد طالب الإبراهيمي في ذمة الله    غزّة.. إلى أين؟    الجزائر تعيش على وقع شراكات هامّة    هذا جديد البحث العلمي    انطلاق الموسم الفلاحي الجديد    توقيف شخص بتهمة نشر الكراهية عبر تيك توك    ربع مليون شهيد وجريح ومفقود فلسطيني    66 عاماً على اشتباك الحي الأسود بثنية الحد    الأدب ليس وسيلة للمتعة فحسب بل أداة للتربية والإصلاح    هدفنا تحقيق انسيابية تجارية أكبر نحو إفريقيا    معالجة مليون حاوية بميناء الجزائر منذ بداية 2025    الجزائر و7 دول أخرى تقر رفعًا تدريجيًا للإنتاج النفطي    مجالس الأقسام للفصل في التماسات إعادة الإدماج    تدابير جديدة لإعادة إدماج المحبوسين اجتماعيا ومرافقتهم    سنواصل في تحسين الظروف المهنية والاجتماعية للأساتذة    بوقرة يطلق خطة التتويج العربي وإصابة وناس تُخلط أوراقه    تعزيز ثقافة التطوع والمشاركة    انطلاق الجائزة الكبرى لتسلق الجبل بالدراجات الهوائية    تميّز سياحي وكنوز قلّ نظيرها    انتقادات ألمانية لعمورة وانقسام بخصوص مستواه    المغرب على صفيح ساخن    جمعية ترفض أي اتفاق يشمل ثروات الصحراء الغربية    غويري يريح بيتكوفيتش قبل مبارتي الصومال وأوغندا    الأغواط.. مقوّمات سياحية تفتح آفاقا استثمارية واعدة    رئيس مجلس الأمة : التكوين المهني فضاء لبناء الكفاءات وصناعة المستقبل    إبراهيم بوغالي يعزي في رحيل أحمد طالب الإبراهيمي : الجزائر تودّع رمزًا كرّس حياته لخدمة الوطن    محمد صغير سعداوي : مواصلة تحسين الظروف المهنية والاجتماعية للأستاذ    فتاوى : إنشاء صور لذوات الأرواح بالذكاء الاصطناعي    سر عظيم لاستجابة الدعاء الخارق    تفاصيل عملية تسليم فضل شاكر نفسه إلى السلطات اللبنانية    للمانغا الجزائرية هوية وخصوصيات    دعما لفلسطين.. إيقاف مباراة في إسبانيا    إبراز أهمية إدارة وثائق البنوك والمؤسسات المالية    الفاف تُحذّر    قفزة نوعية مُنتظرة بالعاصمة    تحسبا لمباراتي الصومال وأوغندا.. مفاجآت وأسماء جديدة في قائمة "الخضر"    قائمة المنتخب الوطني للاعبين المحليين : غياب مبولحي ومحيوص وعودة سعيود وبولبينة    إيلان قبال يوجه رسالة حماسية للحارس لوكا زيدان    عرض تجربة "كناص" في الابتكار بمنتدى كوالالمبور    هذه مخاطر داء الغيبة..    إلتزام الجزائر بترسيخ البعد الإفريقي في سياستها الصحية    ضبط نشاط شركات التنظيف في المستشفيات    أم البواقي : تنصيب أزيد من 100 مستخدم شبه طبي بالمؤسسات الصحية العمومية    الحكمة بين اللين والشدة    فتح التسجيلات في القوائم الاحتياطية للتكوين شبه الطبي    التعارف في سورة الحجرات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل الهندسة الاجتماعية؟
نشر في الحياة العربية يوم 04 - 10 - 2025

شكَّل الذكاء الاصطناعي تحوّلاً جذرياً في مفهوم الهندسة الاجتماعية، إذ نقلها من كونها ممارسة فردية تعتمد على الحنكة، مهارة الإقناع، واستغلال الثغرات النفسية، إلى صناعة هجومية مؤتمتة ذات طابع منظّم وقابلية للتوسع على نطاق غير مسبوق.
لم تعد المسألة مقتصرة على رسائل تصيّد بدائية يمكن تمييزها بسهولة، بل أصبحنا أمام جيل جديد من الهجمات القادرة على إنتاج محتوى مُقنع ومُفصّل بدقة لكل ضحية على حدة، مستندة إلى تحليل معمّق لبياناتها الشخصية، سجلّاتها الرقمية، وسلوكها النفسي على المنصات الاجتماعية ومحركات البحث.
يتميّز هذا التحوّل بخاصية التخصيص الذكي Intelligent Personalization، حيث تستطيع الأنظمة المدعومة بالتعلّم العميق تحليل كمّ هائل من البيانات السلوكية والنفسية للضحايا، بما في ذلك سجلّ التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي، أنماط الشراء، وتفضيلات المحتوى، لتوليد رسائل وصور ومقاطع صوتية وفيديوهات مُصمّمة خصيصاً للتأثير على دوافع الضحية ونقاط ضعفها العاطفية وحتى توقيت استجابتها. هذا التخصيص لا يرفع فقط احتمالية نجاح الهجمات، بل يحوّلها إلى عمليات استهداف دقيقة تشبه حملات تسويق متقدمة لكن بنوايا خبيثة، حيث يتم اختبار الرسائل على نطاق واسع ثم تحسينها في الزمن الحقيقي لتحقيق أقصى تأثير. الأخطر أن هذه الأنظمة تمتلك قدرة على التعلّم التكيفي، إذ تستفيد من كل تفاعل—سواء كان استجابة ناجحة أو مقاومة—لتعديل خوارزمياتها وتحسين أساليب الإقناع بشكل تراكمي، ما يجعلها أكثر إتقاناً ودهاءً مع مرور الوقت. وبهذه الطريقة تتحول الهجمات إلى عملية ديناميكية متواصلة، تشبه سباق تسلح رقمي يتطور مع كل محاولة، ويجعل من الصعب على الأفراد أو المؤسسات مجاراة سرعة التكيف التي تتمتع بها هذه الأنظمة.
لقد تحوّلت الهندسة الاجتماعية، بفضل الذكاء الاصطناعي، إلى بيئة هجومية ديناميكية تستغل علم النفس السلوكي وعلم البيانات الضخمة معاً، لتصنع واقعاً جديداً من الحرب الإدراكية Cognitive Warfare، حيث يتم استهداف العقل البشري مباشرةً، وإعادة تشكيل قراراته وخياراته دون وعي منه. وهذا يفتح الباب أمام تهديدات تتجاوز السرقة المالية أو اختراق الحسابات، لتصل إلى التأثير على الرأي العام، التلاعب بالانتخابات، وإثارة الأزمات الاجتماعية. بكلمات أخرى، نحن أمام عصر لم يعد فيه أمن المعلومات قضية تقنية فحسب، بل قضية أمن وطني ومجتمعي، تتطلب استراتيجيات دفاعية جديدة تدمج التكنولوجيا بالتربية الرقمية والتوعية النفسية.
كما أضاف الذكاء الاصطناعي بعداً منهجياً متقدماً للهندسة الاجتماعية عبر جميع مراحل الهجوم السيبراني. ففي مرحلة الاستطلاع، لم يعد المهاجم في حاجة إلى جهد يدوي لجمع معلومات عن الهدف، إذ تقوم الخوارزميات بتمشيط منصات التواصل الاجتماعي وقواعد البيانات العامة لاستخلاص أنماط الاهتمامات والعلاقات والسلوك الرقمي. وفي مرحلة الاستهداف، يتم توليد رسائل أو محتوى مزيف يراعي شخصية الضحية ونبرة تواصلها المعتادة، ما يقلل من احتمالية الشك.
أما مرحلة التنفيذ فتشهد سرعة غير مسبوقة، حيث يمكن إرسال آلاف الرسائل أو إجراء مئات المكالمات الصوتية المزيفة في وقت قصير، مع القدرة على تعديل التكتيكات فوراً بناءً على استجابات الضحايا. وحتى بعد التنفيذ، تحتفظ الأنظمة الذكية بسجلات تفصيلية لتحليل الأداء وتحسين الحملات المستقبلية، ما يجعلها أقرب إلى مختبرات تعلم مستمر تديرها الخوارزميات.
ويكمن الخطر الأكبر في البعد النفسي لهذه الهجمات، إذ يستطيع الذكاء الاصطناعي استنباط الحالة العاطفية للضحية وتوليد رسائل تستثير الخوف أو الإلحاح أو الفضول في اللحظة الحرجة، بما يقلّص مساحة التفكير العقلاني ويزيد من فرص الانقياد للهجوم. ومع صعود تقنيات التزييف العميق، بات بالإمكان إنتاج مقاطع صوتية ومرئية تحاكي شخصيات حقيقية، ما يجعل الخداع أكثر إقناعاً ويعقّد مهمة التحقق حتى على الفرق الأمنية المدربة. وهكذا تتحول المعركة من مواجهة تقنية إلى صراع على الوعي والإدراك، حيث يصبح الإنسان ذاته هدفاً للهجوم وأداةً لتنفيذه في الوقت نفسه. هذا التحول يفرض على المؤسسات أن تتعامل مع الأمن السيبراني ليس بوصفه قضية تقنية فحسب، بل باعتباره تحدياً سلوكياً ونفسياً يستدعي تعزيز وعي العاملين وإكسابهم مهارات التفكير النقدي.
لا تقتصر تداعيات هذه الهجمات على الأفراد، بل تمتد إلى البنى التحتية الحيوية التي تعتمد على العنصر البشري كحلقة وصل أساسية. خطأ واحد من موظف غير مدرّب قد يؤدي إلى تعطيل أنظمة طاقة أو العبث بشبكات النقل أو تهديد بيانات صحية حساسة، وهو ما ينعكس مباشرة على الاقتصاد والأمن القومي والاستقرار الاجتماعي. ولهذا تغدو الحوكمة الأمنية مسؤولية استراتيجية شاملة، تبدأ بصياغة سياسات واضحة ومحدثة، وتستمر ببناء ثقافة أمنية راسخة، وتوفير برامج تدريب ومحاكاة منتظمة للعاملين، وتبني أنظمة رصد وتحليل سلوكيات قادرة على كشف أي نشاط شاذ قبل أن يتحول إلى خرق واسع النطاق.
وفي مواجهة هذا التصعيد النوعي، لم تعد الدفاعات التقليدية كافية. أصبح تبنّي نموذج «الثقة الصفرية» ضرورة استراتيجية لا يمكن تأجيلها، وهو نموذج يقوم على افتراض أن كل محاولة وصول قد تمثل تهديداً محتملاً حتى يثبت العكس. يعتمد هذا النهج على التحقق المستمر من الهوية والسياق، وتقييد الصلاحيات إلى الحد الأدنى الممكن، ومراقبة السلوك حتى بعد منح الوصول. كما أصبح الاعتماد على الذكاء الاصطناعي الدفاعي جزءاً لا يتجزأ من استراتيجيات الحماية الحديثة، لتحليل الأنماط ورصد الشذوذ والتنبؤ بالهجمات قبل وقوعها. لكن المعركة تبقى مفتوحة؛ فكلما تطورت أدوات الحماية، طوّر المهاجمون بدورهم أساليب التفاف جديدة، في سباق تسلح مستمر يفرض مراجعة دورية للسياسات والتقنيات وتحديثها بوتيرة عالية.
هذا الواقع يضع الدول أمام معضلة تشريعية وتنظيمية معقدة، إذ يتعين عليها تحقيق توازن دقيق بين تعزيز الأمن السيبراني وحماية الحقوق الأساسية مثل الخصوصية وحرية التعبير، مع تطوير أطر قانونية قادرة على مواجهة التزييف العميق والانتحال الرقمي والجرائم العابرة للحدود. ومع تطور قدرات الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الضخمة والتعلّم التنبؤي، ستزداد هذه الهجمات تعقيداً ودقة، ما يستدعي انتقال الدول إلى نهج ردع شامل يقوم على تعاون غير مسبوق بين القطاعين العام والخاص، وتفعيل قنوات استخبارات سيبرانية قادرة على رصد الحملات قبل تنفيذها، وبناء شبكات إنذار مبكر ومنصات محاكاة للهجمات لتعزيز الجاهزية، إلى جانب إدماج التربية الرقمية في التعليم لرفع مناعة المجتمع ضد أساليب الهندسة الاجتماعية والتضليل.
تأسيسًا على ما تقدم، لم تعد مواجهة تهديدات الهندسة الاجتماعية المعززة بالذكاء الاصطناعي مجرد تحدٍّ تقني، بل تحوّلت إلى معضلة استراتيجية شاملة تمسّ صميم الأمن الوطني والاستقرار المجتمعي. فالتصدي الفعّال لهذه التهديدات يتطلّب نهجاً متكاملاً يجمع بين تطوير البنى التحتية التكنولوجية المتقدمة، ووضع سياسات أمنية مرنة وقابلة للتطور، وبناء وعي مجتمعي راسخ يقاوم محاولات التلاعب والخداع. كما يفرض هذا المشهد ضرورة تعاون غير مسبوق على المستويين الوطني والدولي، وتبادل المعرفة والخبرات، واستباق التطوّرات التقنية من خلال البحث المستمر والابتكار في آليات الحماية. فبدون هذا النهج الشامل، ستظلّ الفجوة بين قدرات المهاجمين والمدافعين تتسع، مما يهدد بانهيار الثقة الرقمية التي تُعدّ حجر الأساس لعالمٍ أكثر رقمنة وترابطاً.
القدس العربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.