عطاف يتلقى اتصالا هاتفيا من وزير خارجية سلطنة عمان    محمد لعقاب يدعو إلى تعزيز الإعلام الثقافي في كافة وسائل الإعلام    سعيدة: تشجيع ومرافقة أصحاب المستثمرات الفلاحية للانخراط ضمن مسعى تربية المائيات    المغرب: المخزن يستمر في الاعتقالات السياسية في خرق سافر لحقوق الانسان    منتدى الدوحة: إشادة واسعة بجهود الجزائر لنصرة القضية الفلسطينية    إبراز جهود الدولة في تسجيل عناصر ثقافية في قائمة الموروث الثقافي غير المادي باليونسكو    عطاف يدعو لتوجيه الجهود المشتركة نحو نصرة القضية الفلسطينية    قوجيل: مواقف الجزائر تجاه فلسطين "ثابتة" ومقارباتها تجاه قضايا الاستعمار "قطعية وشاملة"    وزير الداخلية يستقبل المدير العام للديوان الوطني للحماية التونسية    بورصة الجزائر: النظام الإلكتروني للتداول دخل مرحلة التجارب    كريكو تؤكد أن المرأة العاملة أثبتت جدارتها في قطاع السكك الحديدية    تيسمسيلت: إلتزام بدعم وتشجيع كل مبادرة شبانية ورياضية تهدف "لتعزيز قيم المواطنة والتضامن"    اتصالات الجزائر تضمن استمرارية خدماتها غدا تزامنا واليوم العالمي للعمال    جيدو/الجائزة الكبرى لدوشانبي: الجزائر تشارك بثلاثة مصارعين    سايحي يكشف عن بلوغ مجال رقمنة القطاع الصحي نسبة 90 بالمائة    حوادث المرور: وفاة 38 شخصا وإصابة 1690 آخرين خلال أسبوع    نجم المانيا السابق ماتيوس يؤكد أن بايرن ميونخ هو الأقرب للصعود إلى نهائي دوري الأبطال على حساب الريال    تندوف: شركات أجنبية تعاين موقع إنجاز محطة إنتاج الكهرباء بالطاقة الشمسية بقدرة 200 ميغاواط    عقب شبهات بعدم احترام الأخلاق الرياضية :غلق ملف مباراة اتحاد الكرمة - مديوني وهران    تاقجوت يدعو إلى تأسيس جبهة عمالية قوية    نظام إلكتروني جديد لتشفير بيانات طلبات الاستيراد    نحو إنشاء بنك إسلامي عمومي في الجزائر    هل تُنصف المحكمة الرياضية ممثل الكرة الجزائرية؟    طاقة ومناجم: عرقاب يستقبل المستشار الدبلوماسي لرئيسة الوزراء الإيطالية المكلف بخطة ماتي    مشعل الشهيد تحيي ذكرى وفاة المجاهد رابح بطاط    رئيس الجمهورية يُبرز الدور الريادي للجزائر    الجزائر معرضة ل18 نوعا من الأخطار الطبيعية    درك بئر مراد رايس يفكّك شبكة إجرامية دولية    ملتقى وطني عن القضية الفلسطينية    أوسرد تحتضن تظاهرات تضامنية مع الشعب الصحراوي بحضور وفود أجنبية    منح 152 رخصة بحث أثري في الجزائر    المغرب: مركز حقوقي يطالب بوقف سياسية "تكميم الأفواه" و قمع الحريات    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي/منافسة الأفلام القصيرة: أفكار الأفلام "جميلة وجديدة"    المجلس الأعلى للشباب/ يوم دراسي حول "ثقافة المناصرة" : الخروج بعدة توصيات لمحاربة ظاهرة العنف في الملاعب    حلف دول شمال إفريقيا..العمل يهزم الشعارات    منتجات البنوك في الجزائر تتطابق مع مبادئ الشريعة الإسلامية    سياسة الاحتلال الصهيوني الأخطر في تاريخ الحركة الأسيرة    بهدف القيام بحفريات معمقة لاستكشاف التراث الثقافي للجزائر: مولوجي:منحنا 152 رخصة بحث أثري على المستوى الوطني    هذه الأمور تصيب القلب بالقسوة    الاحتلال يفشل في تشويه "الأونروا"    "حماس" ترد على مقترح إسرائيل بوقف إطلاق النار 40 يوما    محرز يقود ثورة للإطاحة بمدربه في الأهلي السعودي    اتفاق على ضرورة تغيير طريقة سرد المقاومة    إبراز أهمية إعادة تنظيم المخازن بالمتاحف الوطنية    بلومي يُشعل الصراع بين أندية الدوري البرتغالي    شباب بلوزداد يستنكر أحداث مباراة مولودية وهران    الشرطة تواصل مكافحة الإجرام    لا أملك سرا للإبداع    مصادرة 100 قنطار من أغذية تسمين الدجاج    إخماد حريق شب في منزل    الجزائر تتحول إلى مصدّر للأنسولين    استئناف حجز التذاكر للحجاج عبر مطار بأدرار    ذِكر الله له فوائد ومنافع عظيمة    دورة تدريبية خاصة بالحج في العاصمة    عون أشرف على العملية من مصنع "نوفونورديسك" ببوفاريك: الجزائر تشرع في تصدير الأنسولين إلى السعودية    نطق الشهادتين في أحد مساجد العاصمة: بسبب فلسطين.. مدرب مولودية الجزائر يعلن اعتناقه الإسلام    لو عرفوه ما أساؤوا إليه..!؟    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة المرأة حيزية عند الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة
نشر في الحوار يوم 09 - 03 - 2018


بقلم د- وليد بوعديلة
(حيزية)، هو اسم امرأة جزائرية، سجلت الذاكرة الشعبية قصتها التي وقعت في القرن التاسع عشر، وهي حسب قصة رواها الشاعر الشعبي ابن قيطون، وهي قصة تدور حول حب (السعيد) لحيزية، وتقدم مشاهد رومانسية حالمة بين أشجار نخيل الواحات، إلى أن تتوفى حيزية بمرض خطير في رحلة بسكرة وسطيف، وقد حزن (السعيد) كثيرًا وطلب من ابن قيطون أن يكتب قصيدة شعبية تصور حزنه وتفجعه.
وقد تفاعل الكثير من الأدباء الجزائريين مع قصتها، مثل عز الدين ميهوبي وعبد الغني خشة ومحمد جربوعة، واطلع الشاعر الفلسطيني الذي عاش في الجزائر، عز الدين المناصرة، على القصة، وكتب ديوانا كاملا عنوانه "حيزية عاشقة من رذاذ الواحات -1999″، ولكنّه يبتدع قصته الخاصة وطريقة سرد مختلفة يقول عنها:(إن قصة حيزية قصة شعبية جزائرية مشهورة، ففي القرن التاسع عشر، كانت هناك فتاة تدعى حيزية تقابل عاشقها في واحة النخل، وذات مرة حضرت وهي ملثمة الوجه تمامًا، فظن العاشق المنتظر أنها العذول الواشي، فأطلق النار عليها وماتت… وقد زرتُ قبر حيزية في قرية قرب مدينة بسكرة، وتأثرتُ بالقصة، أما ما قدمته فهو نص حداثي من نوع السهل الممتنع، وهو قراءة على قراءة ابن قيطون الشعبية). وبسبب هذا التفاعل النصي بين المناصرة ونص ابن قيطون، فقد اهتم البحث النقدي بهما، وأبرز الحوارية في مستويات بنيوية- دلالية مختلفة.

حيزية ودلالات الحياة:
عندما نبحث في الانتقال بالشخصيات من المستوى العادي إلى المستوى الأسطوري، تصادفنا حيزية، فماهي تجلّيات أسطرتها؟، وماهي المعاني التي أشار إليها المناصرة من خلالها؟، وماهي الأساطير التي حضرت معها؟، وماهي الرؤى/ الإيديولوجية التي خفقت بها هذه الشخصية؟… يكتب المناصرة قصيدة (حيزية عاشقة من رذاذ الواحات)، ليلقي بإشعاعات على جدلية المرأة- الطبيعة من البدء الشعري، فحيزية عاشقة تأتينا من وهج القصة الشعبية ممتلئة بكل قطرات المطر وروائح الأشجار، وينطلق الشعر في كشف علاقة أنا المتكلم بهذه المرأة/ الأسطورة:
أحسد الواحة الدموية هذا المساء
أحسد الأصدقاء
أحسد المتفرج والطاولات العتاق الإماء
الأكفَّ التي صفقت راعفة
القوارير أحسدها
والخلاخيلَ ذاهبة آيبة
أحسد العاصفة
في حنايا الفضاء
أحسد الخمر منسابة، وعراجينُها في ارتخاء
وابن قيطون أحسده عاشقًا طاف في زرعها
يتكرر فعل (الحسد) عبر أجزاء كبيرة من القصيدة (46 مرة)، وكأن الشاعر يهيئ الأجواء النفسية والفكرية للقارئ، قصد مسكه من يده وإدخاله في العوالم الأسطورية لهذه المرأة، فتكون مشاعر الحسد من مختلف الشخصيات، بل حتى من الزمكان والموجودات، آلية يتداخل فيها النفسي بالفكري والفني بالمعنوي، قبل أن يدهش القارئ بالمرأة/ الأسطورة، وينسنى ما عرفه عن المرأة/ الموروث الشعبي. يريد المناصرة أن يمتلك حيزية له فقط من دون كل الناس والأزمنة والأمكنة والأشياء، لذلك يبدأ سفر البحث عن سرها وسحرها، و(البحث عن حيزية الرمز يترجم رغبة الأنا في الخروج من الفضاء النفسي المأزوم، فضاء سلبي وجامد امتلأت أجزاؤه باليأس والإحباط والغرابة والتساؤل، أنا المتكلم تعيش أزمة نفسية حادة تفصح عن مستواها ودرجاتها الصرفات اللامتناهية للماضي بكل أبعاده ومكوناته عبر حيزية الرمز) ، لكن الشاعر لم يكتف بحيزية القصة الشعيية، وإنما تألق إلى مستوى حيزية الأسطورة، وأبدع في تقديم إشارات أسطورية جديدة، يمكن القبض على مرجعيتها بالتعمق الدلالي والانفتاح القرائي. إنّ جعل حيزية تتماهى في العناصر الطبيعية، هو أول ارتقاء بها في المستوى الأسطوري:
أحسد النجم حين غفى هائمًا
فوق معصمها ثم نامْ
أحسد الكوكبين الذين أماطا اللثامْ
أحسد الليل فوق زنود الرخامْ
أحسد الزنبق الوثني، وسرب القطا،
ثم سرب العصافير، جيش اليمام
يمتزج الشاعر في الطبيعة كي يقترب من (حيزية)، بل كي يستطيع أن يبتعد بها عن كل الاقترابات التعبيرية أو التصويرية البشرية، وإذا كانت كل التجارب الإنسانية في الواقع هي صدى للتجارب النفسية والفكرية التي تمر بالإنسان، فإن الإبداع يستشعرها ويعيشها، والشعر ينقل الحياة من العدم ليجعل الكون والإنسان فيها أكثر إشراقًا وجمالاً، وتكون صورة المرأة –هكذا- أكثر ارتباطًا بمستويات التصوير الجمالي الناضج وبتفاعلات المرأة بالطبيعة وفضاءاتها الساحرة. ويبدو أن المناصرة قد دخل في علاقة تجاذبية ساحرة مع حيزية، فمنحها الأسطرة، بعد أن اعترف بالحسد المختلج في صدره، ومنحته الحياة لنصه ولقلبه..فكانت هي الكون الذي يضيء طريق الشاعر ويرتقي بموسيقاه. إن النجوم تريد الاقتراب من هذه المرأة/ الأسطورة، وكذلك تجري الكواكب نحوها، وكأنّ حيزية هي (الثريا) التي عبدها العرب قبل الإسلام، واعتقدوا أنها واهبة الغيث، وانطلاقًا من هذا النقل الأسطوري تواصل العناصر الطبيعية رحلتها إلى (حيزية)، ويكشف المناصرة حسده لليل، الزنبق، القطا، وتبقى القائمة مفتوحة، ويظل الشاعر يطمح إلى أن يكون المتعبد الوحيد لحيزية/ الثريا.
وتبدأ حيزية -من هنا- تقترب من عوالم الآلهة، فما هي الآلهة التي ستتماهى فيها؟، وماهي تجليات التوظيف الأسطوري الذي سينفتح عليه وعي القارئ؟، هذا القارئ ينطلق من معرفة متعددة حول توظيف المرأة في الحضارة والثقافة، وقد حضرت المرأة في التراث الفكري- الفني الإنساني، كما وظفتها الأعمال الأدبية، فهي تتخذ أبعادًا واقعية وأخرى متخيّلة، كما تقوم بدور الملهمة لكل فعل إبداعي، مع تسجيل اختلافات إيديولوجية وجمالية بين المبدعين أثناء توظيفهم للمرأة، وذلك باختلاف المنطلقات الفكرية والمرجعيات الاجتماعية- الثقافية.
لقد اختار المناصرة أن يكون منصفًا لحيزية القصة ومفتونًا بها، فاقترب بها من المشاهد الأسطورية، ومنحها الدلالات الجديدة:
آه يا امرأة من رذاذ السماء
آه يا شجر الغابة الماطرة
أحسد الجذع: زيتونةٌ مرجحتْ ساعدينْ
أحسد النبع، مركز عشب القبيلة خلف الأفق
تعانق الشخصية الشعبية هنا ملامح البطل المؤلّه في الملاحم والأساطير، فهي قادمة من السماء وموغلة في أعماق جذوع الأشجار وفي مراكز الماء في الأرض، وهذه الإيحاءات تحيلنا على مشاهد احتفالية أسطورية خاصة بتقديس الأشجار، والمناصرة الشاعر الكنعاني يعرف جيدا خلفيات الأساطير الكنعانية، حيث (كان الكنعانيون يهرقون الخمرة عند منابت الأشجار ويقتربون إليها بالقرابين، وكانوا يقيمون المذابح تحت منابت الأشجار الخضراء، ولا يعتبر المذبح تام البناء، ما لم تنصب بإزائه (أشيرة)، والأشيرة إما شجرة أو جذع يابس).
ولذلك حقق الشاعر الاقتراب بين المرأة والشجرة. لقد كانت الأشجار معبودة ومقدسة، وما ينجزه المناصرة من أسطرة لحيزية ليس إلاّ محاولة لكتابة حيزية/ القداسة، ونسيان دلالة حيزية المألوفة، فهي الجذع/النبع الذي يمنح الخصب للقبيلة، وبه يتم الانتقال من يوميات الثبات والجمود إلى يوميات الحركة والتحوّل، وكأنّ عشتار تعود إلى الأرض من سفر العالم السفلي، وتلتقي بحيزية لتمنحها (رذاذ السماء)، وتطلب منها أن تعطي الخصب والنماء للأرض.
وتتحول حيزية إلى (إزيس) الآلهة المصرية، وهي العظيمة سيدة الآلهة، سيدة السحر، في يديها الشفاء، وبكلماتها ينمحي الألم وبقوتها تعيد الحياة إلى من مات، لنقرأ شعرية حيزية- إزيس في شعر المناصرة، كيف تسمو في معراج أسطوري مدهش:
القتيلة زيتونة
أم رماح المقابر قد غرست في السؤال
القتيلة رمل على البحر
أم ذهب الأضرحة
فلنقل: عاشقة
في ليالي الصبيب
ولنقل: عندليب
ولنقل حين أغوت في اللهيب
ولنقل ساحرة
تمنح الآلهة المصرية (إزيس) الحياة والشفاء من الأمراض، وهذه القتيلة تتوحّد في الزيتون والأضرحة ورمل البحر، فهي حيزية الأرض- الأم، يريد لها المناصرة أن تتفاعل مع جوهر الأرض وبعدها الوجودي المفتوح على الأسطوري والديني، باعتبارها مصدر الحياة وواهبة أدوات البقاء، وفكرة الأرض تمتد بين الأساطير والنصوص الدينية، وتحضر (في شكل الأرض- الأم المعطاء التي تغدق النعَم على الإنسان وتراها في شكل ملكه الآلهة وسيدة الجبال، غير أنّ الأرض أيضًا مصدر المياه واهبة الحياة).
وفي سياقات شعرية أخرى إنها المرأة- الإنسان/ الإله، وهي الدلالة الأسطورية للنخلة، فقد أعطتها الثقافة الشعبية والقصص الأسطورية امتزاجًا بين أبعاد إنسانية وأخرى ألوهية، ف (إن النساء في العراق كنّ يجزعن عندما تقطع نخلة، ويعتقدن أنها تبكي عندما يصدر صرير عن قطعها، وفي مصر القديمة كان يعتقد أن إلهة الشجرة تقوم بعملية الرضاعة حتى بعد الموت، ففي قبر تحوتمس الثالث يشاهد ثدي تحمله يد ممتدة من شجرة مقدسة لتغذية الملك)، وهو شأن حيزية التي حزنت الطبيعة لموتها واحترقت العيون دمعًا بعد فراقها، ولكنها – مع ذلك- ظلّت قصتها خالدة، وامتد حضورها المدهش في ذاكرة الإبداع، ليستقر في شعر المناصرة، لكي يتجدد في دلالاته ويشرق في تشكيله، وتتجلى عبره قيم المحبة والانتماء والحسن. تتحول حيزية إلى نخلة الأساطير، وهي المسافرة نحو غابات ممطرة، تخفق بأشواق الجمال والسعادة والوجود، بل هي- كذلك- كرمة تدفع بالعنب للإنسان ليزداد حياةً وإشعاعًا في حراكه اليومي، وإنّ القارئ يتأمل (أبو نيسوس) إله الخمرة في الأساطير اليونانية.
حيزية والأساطير:
يأخذ حيزية من (سيدي خالد) ويواصل انتقاله في العالم، حاملاً الخمرة والكرمة، وتتحول حيزية إلى حورية البحر، إنها (أشيرة) الآلهة الكنعانية زوجة (إيل)، وهي (أفروديت) الآلهة الإغريقية التي خرجت من البحر ترقص على الأمواج، ويبقى الشاعر المناصرة في بحث متواصل عن تشكيل أسطورته الخاصة، وهي القابعة في التراث الشعبي والواقع اليومي تنتظر مبدع الأساطير كي يصيغها برؤى الأرض والزيتون والكرمة والنخلة، ويسعفها بإشارات جديدة ومتنوعة فيها روائح الهوية، الملحمة، الأسطورة والدين…. وكل ما يصنع التميّز الإنساني. وقد تكون حيزية المؤسطرة، هي (أندروميدا) الأنثى اليونانية التي ربطت إلى الصخور، والمرأة التي يكاشفها المناصرة قد ظهرت من البحر ومن صخور الجزر، وهي ذات ضفائر سوداء ملساء، وهنا يزداد توهجها الأسطوري، لأن هذا الشاعر مسافر بين الأساطير ليمنح شخصيته الشعبية ملامح من آلهة الشرق وأخرى من آلهة الإغريق لتكون الواحدة المتعددة أو الفرد- الجمع، وهي البطل المؤلّه الذي يعانق الإلهي وينفلت من الإنساني، وهكذا (تظهر حيزية ابن قيطون على مستوى شعرية المناصرة كفضاء دلالي وشعري وشاعري جلّي، وكأفق وجداني سيريالي صوفي، في لغة شاعرية صارخة بموال أحمر يعبر عن الغربة والضياع، وتأخذ تجليات رمزية أخرى)، لعل أهمها هي الرحلة المتواصلة قصد الوصول إلى فضاء الجمال، الخصب، الهوية، الأرض والحياة… يفتح المناصرة ذاكرته الأسطورية، ويبحث عن كل عنصر أو قصة تناسب حيزية، فماذا بقي من أساطير يمكن أن تعبّر عن مشاعر وأفكار الشاعر الفلسطيني؟، وإلى أين يسير بلذة الأسطرة؟، ومتى سيتوقف هذا الطريق الغرائبي في تشكيل حيزية؟. في هذا السفر الأسطوري يجد المناصرة عنصر النار، فيحمله ويشكل نصه الشعري:
ولنقل: غجرٌ لملموا نارهم
حول تلك الضفاف
ونسوا جمرة عُلِّقت في ذوائبها البائنة
كما يجد نرجسة الأسطورة الإغريقية، فيستعين بها، وهو يتأمل امرأة القصة الشعبية:
ربما لم تكن من دم، إنما نرجسة
سافرت حول مرآتها
و أراهن ما عشقت أحدًا
إنّما عشقت ذاتها
قرب واحات (أولاد جلال) في الفلوات
بعد دلالات الخصب يتوقف المناصرة عند دلالات الانبعاث، وهو ما تحيل عليه لفظة (الجمرة) وقد خلفها الغجر الذين أخذوا معهم النار بعد أن أشعلوها على ضفاف الماء (بحر، نهر، واحة…)، فهل بقاء هذه الجمرة تأكيد لإرادة الاستمرار والديمومة؟، أم هل هي إحالة على أسطورة العنقاء؟، هل نحن أمام حيزية-العنقاء؟. إن من يعرف توظيف الشاعر للنخلة -في سياق أسطرة الشخصية الشعبية- سينجز عملية دمج بين الحقيقي والإبداعي أو بين الشعبي والأسطوري، وفي الأساطير المصرية كان النسر رمزًا للإله الشمس وقد كان يُحرق حيًا مع سعف النخيل، بعد أن تتم الشمس دورتها الكبرى ويعود نسر الشمس إلى العش لكي يحتفل بجيل عنقاء جديد، ومن رماد العنقاء المحترقة تولد عنقاء جديدة.
وهاهي حيزية تتماهى في نرجس الذي عشق ذاته، وإذا كانت حيزية القص الشعبي قد أحبت الصحراوي الشاب (سعيد)، فإنّ المناصرة يُحوّر القصة ويجعلها تحب ذاتها في فلوات الصحراء الجزائرية (أولاد جلال)، وكأنها أنثى أخرى جديدة تلغي صورة الأنثى الأصلية المعروفة- القديمة، وتعلي من تفردها بخصائص أسطورية، تجعلها المرأة الإلهة لا المرأة الإنسانة، وهنا نكاد نستحضر صوت المناصرة يدافع عن روايته وسرديته الخاصة، وهو يريدها خاصة مختلفة تقترب من ابن قيطون في حدود حيزية الإنسانة، لترتقي بالشاعر الفلسطيني في أفق حيزية المؤسْطرة. ويختار الشاعر مع دلالة الموت أن يراوغ القصة الشعبية ويحوّر فعل الموت وخلفيته الشعبية، ويمنحها مشهدًا فجائعيًا مغايرًا، فبعدما تفاعل مع موضوعات المرأة والرحلة واصل تفاعله النصّي مع النص الشعبي، وأحالنا نحو أجواء موضوعة الموت..
يغير المناصرة القصة الشعبية، كما يحوّر- في العمق النصي- الملحمة الإغريقية لأن حيزية القصة الشعبية قد ماتت أثناء الرحلة بعد المرض، و(بنيلوب) النص الإغريقي لم تمت، بل إنها حققت حلم لقائها بزوجها البطل الأسطوري (أوديسوس)، وهكذا فبدل أن يعطي المناصرة لحيزية وردة جميلة في مشهد رومانسي يتعانق فيه الحب والواحة والسماء، أعطاها خنجرًا غادرًا في مشهد مأساوي يتعانق فيه الألم الداخلي بالحزن الطبيعي لموت (جبين الندى وغزال الحقول).
عندما نقرأ هذا المشهد تتحرك مخيلتنا بين جملة من المرجعيات الشعبية- الأسطورية، ترحل بنا من فلسطين إلى الجزائر، ومن الزمن الإغريقي إلى الزمن الشرقي، ومن اليونان إلى فلسطين، وهو ما تنجزه اللّغة الشعرية، وهي (مأوى وامتداد للمكان المسروق، مع الإبقاء على المسافة اللازمة جماليًا، وارتداد إلى الرحم- الأم بوصفه اغتذاء وماء وروحًا وتمايزًا عن الآخر الإسرائيلي المقيم غصبًا على أرض فلسطين التاريخية).
* في الختام
لقد أراد المناصرة لنهاية حيزية أن تكون خاصة، يؤسِّسها بوعيه وقراءته للموروث الشعبي، دون النقل المباشر والسطحي، وعبر التحوير وإدخال التشويه على القصة الأصلية، فكانت الشخصية أسطورية تنفتح يومياتها على الدهشة، وتتحاور جماليتها مع جماليات آلهة الأساطير، من دون قيد معرفي أثناء التجوال بين رمزيات الجمال والخصب عند الأمم القديمة وفي مختلف الحضارات، بل إنّ (استيحاء التراثات الإنسانية من أساطير وآداب وديانات عامل بالغ الفائدة والمتعة في مساعدة الشاعر على إغناء تجربته وتخصيبها، وتحديد دلالاتها وتأثير مراياها، لتكون تجربة مراوغة للقراء ومتحدّية لوعيهم النقدي، لذا وجب أن يكون قارئ المناصرة متعدّد المرجعيات، مؤمناً بالتجريب على المستويات الشكلية والدلالية، لأنّه سيصادف شاعرًا لا يتوقف عند القواعد التقليدية، وإنّما يسير نحو الحداثة الشعرية، ومن ورائه وهجه الكنعاني وزاده الأكاديمي.
ملاحظة: للدراسة مراجع
د-وليد بوعديلة جامعة 20 أوت 1955- سكيكدة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.