لم أكن لأزعج هدوءه، وأربك رغبته، لولا أنني رأيت القوم يحتفون بمئوية ألبير كامو، وهو من هو، ويمرون مرور الكرام، على مئويته هو، وهو من هو.. لم أشأ أن أكون صاحب التذكير، لكن قدرا ما جعلني كذلك، فلم أتنصل من مسؤوليتي تجاهه، وهو الكاتب الذي أسرني أسلوبه، وملأني شغفا، كتابة هي الحياة نفسها، وحياة هي الكتابة ذاتها، وها محبتي المعلنة لرواياته ومجموعته القصصية، كلها مكتوبة بلغة فرنسية آسرة، ترجمت منها روايتان (شحاذون ومعتزون) و(السخرية والعنف)، وما تزال البقية تنتظر التفاتة ما، لتقديمها ناصعة، سلسلة، أبية مثل كاتبها، إلى قراء الضاد. بطاقة هوية: ولد ألبير قصيري في القاهرة يوم 3 نوفمبر 1913، منحدرا من عالة غنية نسبيا، ذات أصل إغريقي أرثوذوكسي من قرية القصير بالقرب من حمص السورية، وقد استقرت عائلته في القاهرة في نهاية القرن 19، لتتخذ لها لقبا جديدا مستوحى من بلدتها الأصل، فأصبحت تسمى عالة قصيري. تابع ألبير دراسته في مؤسسات مسيحية في القاهرة، ومنذ سن العاشرة شرع في الكتابة، وحينما بلغ 17 سنة بدأ في نشر قصص قصيرة في مجلات قاهرية. في سنة 1938 انضم ألبير إلى مجموعة (الفن والحرية)، والتي كانت أول مجموعة سوريالية في العالم العربي، بيد أن لقاء قصيري بالكاتب العالمي هنري ميلر كان حاسما بالنسبة له، حيث نشر مجموعته القصصية الأولى (الرجال الذين نسيهم الرب) عام 1940، والتي ترجمها ميلر نفسه إلى الإنجليزية، مقدما الكاتب كاكتشاف مميز بالنسبة له، وللقارئ الأنجلوفوني، وقد لعب ألبير كامو أيضا دورا في حياة الكاتب حيث قام بنصح إدموند شارلو بقراءة هذا الكاتب، لينبهر شارلو ويسهم في التعريف بألبير، كما أن الصحفية والناشرة جويل لوسفيلد أعادت بعثه من النسيان مرة أخرى، بحوار طويل في ثمانينيات القرن الماضي، لتتبعه بإعادة طبع كل أعماله التي هي المجموعة القصصية التي سبق ذكرها، وسبع روايات هي: (منزل الموت الأكيد) 1942، (كسالى الغابة المثمرة) 1948، (شحاذون ومعتزون) 1955، (العنف والسخرية) 1964، (مؤامرة المشعوذين) 1975، (رغبة في الصحراء) 1990، (ألوان المجاعة) 1999، وكانت سنة 1999 هي العام الأخير في الألفية الماضية، وهي التي قرر فيها قصيري أن يتوقف عن الكتابة، لأنه وصل إلى قناعة مفادها أنه قد قال كل شيء. تحصّل قصيري عام 2005 على جائزة بونستون من شركة (ناس الأدب) على مجموع أعماله وأيضا على الجائزة الكبرى للفرانكفونية، كما تم اقتباس فيلم من روايته (شحاذون ومعتزون) من قِبل المخرجة أسماء البكري، وكان من بطولة صلاح السعدني ومحمود الجندي وأحمد آدم وآخرين. توفي ألبير قصيري يوم 22 جوان 2008، في غرفته في نزل (لا لويزيان) في سانت جرمان دي بري، الغرفة التي اتخذها مسكنا له مدة ستين عاما. فلسفة قصيري: يعدّ قصيري أحد الكتاب الكبار الذين يحترمون الكتابة، لا يكتب إلا عندما تمسه حاجة للكتابة، ولا يقول أكثر مما يحتاجه، بطيء يرى أن الرواية يجب أن تكون بطيئة وأن تبني بناء سميكا يقويه الزمن، وإنه بالتالي يضم رأيه لرأي القائلين إن “ما يدعو إلى الدهشة حقا، أن يذهب الروائي إلى نصه، بعدة قديمة، متجاهلا سطوة الآن، فهو ينظر إلى نفسه في المرآة كل يوم، ثم يكتب سيرة أخرى، يتلقى بريده الإلكتروني من قارة أخرى، ويكتفي بما يشاهده من نافذته المواربة وشارعه الضيق”. وبالتالي فقد كان قصيري يعتبر روايته (فكرا) لا دخل للخيال فيه، وكان يحرص على أن يوصف بالكاتب لا بالروائي لأنه رجل يكتب ما يفكر فيه فعلا، ولأنه أيضا منسجم مع أفكاره، حيث نستطيع أن نتلمس بسهولة ملامح ألبير قصيري، بين ملامح أستاذ الفلسفة الذي ترك مهمته كمدرس في الجامعة ليصبح متسولا في حارات القاهرة، ذائبا وسط البسطاء، مستطعما سعادة العيش بينهم، ف(ألبير) يشبه (جوهر) بطل (شحاذون ومعتزون)، إلى حد كبير، لأن (ألبير) نفسه ترك كل عمل، ليتفرغ للعيش، والاستمتاع بدقائقه ولحظاته حد النخاع، لم يكن يعمل، وكان يعيش من عائدات كتبه، وبعض اللوحات التي يهديها له أصدقاؤه، فيبيعها وقت الحاجة. من ناحية أخرى بما أن قصيري يرى في الرواية وسيلته المثلى لتمرير أفكاره، فقد جعل من ست (أمينة) امرأة متمردة على الرجل، مديرة بيت مواعيد، تتحكم في أهواء الرجال وشهواتهم، على عكس نظيرتها ست (أمينة) عند نجيب محفوظ التي هي امرأة خاضعة، تنفذ بلا احتجاج يذكر أوامر سي السيد، ومن هنا فإن قصيري أراد أن يمنح للمرأة حرية ما، ويعطيها دورا وصوتا، مثلما أراد أن يحرر (جوهر) من رق الوظيفة ووهم المكانة الاجتماعية، وإذا كانت كل رواية “تحكي من خلال حبكتها قصة إبداعها الخاص، قصتها الخاصة”، فإن روايات ألبير قصيري تحكي قصة واحدة، هي قصة المهمشين، المنسيين، الذين ليس لهم صوت مسموع، والذين يهمسون في زوايا الحارات، تحاول كل رواياته أن تمدّ هؤلاء بصوت ما، وأن تحكي قصصهم، وتتنفس أجواءهم، وتتلمس مواطن ألمهم، بسخرية أقرب للألم، وبألم أقرب للسخرية، فكتابة قصيري الفذّة قادرة على ذلك، وهذا ما أثار دهشة كتاب كبار مثل (هنري ميلر) و(ألبير كامو)، والشيء المدهش حقا هو أن ألبير قصيري لا يكتب إلا ما يؤمن به ويعتقده بل ويعيشه، ولا ينفصل عن كتابته أبدا، ولا يستعجل نتائجها، ولا يلهث وراء جائزة أو اعتراف ما من أحد، يكفيه فقط اعتراف الحياة نفسها، ويا له من اعتراف. وخلاصة فلسفة ألبير قصيري أن الذي لا يملك شيئا هو السعيد، لأنه ليس لديه ما يضيعه، أو يفقده فيحزن عليه، عدم الملكية هي الحكمة، لقد كان يكره أن يكون محاطا بالأشياء، ولذا فإنه لم يسع إلى تملّك شيء ما، لا منزل، ولا سيارة، ولا غيرها، لقد عاش في غرفة فندق (لا لويزيان) مدة ستين عاما، ومات هناك، دون تركة غير كتبه، ورواياته الرائعة التي تركها لنا.