هل يمكن لنا أن نتخيل شخصيات الرواية دون مكان تتحرك فيه أو تتغذى منه وتستلذ أو تتحسر فيه على ذكرياتها التي لا يمكن أن تمحى؟ سؤال لم يجبنا عليه الروائيان اللبنانيان محمد أبو سمرا وحسن داود في الندوة التي نشطاها أول أمس بسيلا ,2011 تحت عنوان: ''غرائبية حميمية المكان في الرواية الجزائرية''. وقي هذا السياق، أشار الكاتب اللبناني حسن داود إلى أنّ عنوان هذه الندوة استفزه إلى درجة جعلته يدخل في هذيان أدبي أعاده إلى بيته القديم الذي عاش فيه طفولته ومراهقته، ذاك الفضاء الذي احتمى فيه من حرّ الحياة وقرّ ظروفها، فحلم في ليلة دون قمر أنه عاد إلى بيته القديم الذي يقع في الطابق الأرضي من مدينة الصنائع (بيروت) أو كما سماه بمنزل الحنين الأول مثلما يقول ابن تمام، وهناك تعرّف على شرفة واسعة أو التقى بحديقة كبيرة قاحلة؟ وأضاف داود أنه لا يعرف تمام المعرفة بمن التقى وبمن تعرّف، فهو يدرك أن عقله لم يستوعب وجود شرفة ولا حتى حديقة، لكن مخيلته الواسعة أخذته إلى عوالم كثيرة هي حقا واقعية لأن الكتب تطرقت إليها والكتب لا تكذب أبدا. العودة إلى البيت القديم الذي لم يغادر مخيلة حسن لم يكن بالأمر السهل، خاصة أنه تم بعد خمس وعشرين سنة من تركه، كما أن الأمكنة هذه لم تعد نفسها فقد تغيرت، ليس بفعل العمران الجديد ولا من طرف الناس بل بفعل الحروب، يقول حسن مضيفا أن الحرب الأهلية التي عاشتها لبنان غيرّت من دواخل بيوتها قبل أن تفعل أفاعيلها في خوارجها. وتناول حسن داود روايته ''غناء البطريق'' فقال إنه كتب فيها عن مبنى تحيط به الرمال، كناية عن مبنى كان يسكن فيه رفيقان له، وقد صنع في روايته هذه شخصية شاب مشوه الشكل وقد كان في الحقيقة أخا لصديقيه الساكنين في المبنى وقد تمكن هذا الشاب أن ينقل غرائبيته إلى المبنى بأكمله؛ بالمقابل، تساءل داود كيف استطاع الكاتب كفكا أن يتناول مباني الولاياتالمتحدةالأمريكية في كتابه بنفس العنوان وهو الذي لم تطأ قدماه هذه البلاد؟ ليجيب عن السؤال بقوله إن الكاتب عندما يضيف مشاهد مرئية إلى العالم الحقيقي من خلال كتاباته، فإنه يقول الحقيقة. من جهته، تناول الكاتب اللبناني محمد أبي سمرا، مقتطفات من رواياته الثلاث وهي ''بولين وأطيافها'' و''الرجل السابق'' و''سكان الصور''، حيث تطرق فيها إلى تعامله مع عامل ''المكان'' الذي اعتبره ضرورة لا مناص منها في عالم الرواية. وفي هذا الصدد، أكد محمد إن المكان عامل أساسي في صنع الرواية، فهو ضرورة مثله مثل الشخصيات والزمن وغيرها، مضيفا أن الشخصيات لا يمكن أن تتحدد ملامحها دون أن تتحرك ولا يمكن أن تتحرك دون أمكنة محددة، كما أنها حتما تفقد روحها دون هذه الأمكنة الأساسية في العمل الروائي. واستطرد محمد قائلا إن الكاتب يجب أن تكون له مخيلة ثقافية واسعة تنسج شخصيات تتحرك في أمكنة مختلفة، مضيفا أنه من الضرورة أن يتم تناول المكان بكل عمق، خاصة وأنه يشكل فضاء يحفظ آثار الأشخاص وأفعالهم بيد أنه لو تم تناول المكان هذا بسطحية والاكتفاء بذكر أسمائه مثل مقهى أو غير ذلك، فإنه سيتحول إلى مقتنيات مقدسة مثل المتاحف لا غير. وتطرق محمد إلى أعماله الثلاثة في عالم الرواية، فقال إن عمله الأول ''بولين وأطيافها'' كتبه في فرنسا حينما هاجر إليها هربا من الحرب الأهلية، فجاء فيها الحنين إلى المنطقة الجبلية التي ينحدر منها، أما روايته الثانية ''الرجل السابق'' فجاء فيها حادثة عودته إلى بلده بعد قطيعة دامت سبعة عشر سنة، وهناك كتب بأسف شديد عن كل التغيرات التي شهدتها منطقته وفي مقدمتها تغير الناس، فكتب عن غرائبية هذا المكان بعد أن تطرق إلى حميميته في روايته الأولى. للإشارة، فإن حسن داود هو رئيس تحرير الملحق الثقافي ''نوافذ'' بصحيفة المستقبل اللبنانية، صدرت له العديد من الأعمال الأدبية مثل ''بناية ماتيلد'' (رواية)، ''تحت شرفة أنجي'' (مجموعة قصصية)، كما فازت روايته ''مائة وثمانون غروبا'' بجائزة المتوسط .2009 اما محمد ابي سمرا، فله العديد من الروايات، كما كتب دراسة عن عاصي الرحباني، أحد أعمدة الموسيقى والأغنية اللبنانية تحت عنوان ''حنين الجبل إلى نفسه''، بالإضافة إلى نشره لتحقيق ميداني باللغة الفرنسية عن غزو إسرائيل لجنوب لبنان نشر سنة ,1982 في مجلة الدراسات الفلسطينية وغيرها من الأعمال الأدبية.