بقلم: سعيد الشهابي* فجأة استيقظ العالم على إيقاع معزوفة جديدة بعنوان (مكافحة الفساد) حتى ليبدو أن الظاهرة كانت مجهولة طوال التاريخ البشري الطويل. فما أكثر المحاكمات التي عقدت للأشخاص والشركات تحت هذا العنوان. ومع عدم الثقة بما يطلقه الساسة الأمريكيون فإن ما قاله جون كيلي الاسبوع الماضي يتميز بأنه يعكس جانبا من الحقيقة. فقد قال وزير الخارجية الأمريكي في قمة لندن حول هذه القضية أن (الفساد لا يقل خطرا عن الظواهر السلبية الأخرى ومنها الإرهاب). ولكن إذا كان (العالم الحر) قد عجز بعد أن شن أطول (حرب عالمية) في التاريخ الحديث عن هزيمة تلك الظاهرة (الإرهاب) فما الذي يضمن نجاح الجهود التي أطلقها رئيس الوزراء البريطاني لمكافحتها؟ وثمة تساؤلات عديدة منها: أولا: ما تعريف الفساد الذي قفز بشكل مفاجئ ليتصدر القضايا على الصعيد الدولي؟ ثانيا:ألم تكن الظاهرة منتشرة في العالم قبل ذلك؟ أم أن (أوراق بنما) هي التي خلقت المناخ للتطرق لها؟ ثالثا: هل حقا أن هناك نية أو خطة للتصدي لظاهرة الفساد؟ رابعا: هل هناك تشخيص حقيقي لمصادر هذا الفساد؟ خامسا: هل الغرب مستعد للقضاء على هذه الظاهرة بعد أن أصبح اقتصاده معتمدا بشكل كبير عليها؟ وأخيرا: هل ستكون قمة لندن حول الفساد الأولى أم الأخيرة في (المشروع الدولي) للتصدي لهذه الظاهرة؟ قد تكون هذه التساؤلات ترفا ذهنيا أو إثارات في غير وقتها ومكانها. ولكن أليس الفساد هو الآفة التاريخية لسقوط الأمم والحضارات؟ الأمر المؤكد أن هذه الظاهرة تفعل في المجتمع الإنساني ما يفعله مرض السرطان في الجسم البشري. الواضح أن ما يمكن تسميته (النظام السياسي الدولي) قد فشل حتى الآن في تحقيق مهماته الأساسية على صعدان شتى: أولها إحلال الأمن والسلام في العالم بعد التجارب المرة مع الحروب خصوصا الحربين العالميتين. ثانيها: فشل هذا العالم في إقامة منظومة سياسية واقتصادية عادلة خصوصا في العالم الثالث واستفاد الغرب من الظواهر السلبية المذكورة لتقوية نفسه وتصدير الأزمات لذلك العالم. ثالثها: أن ما يسمى (الحرب على الإرهاب) التي استمرت حتى الآن 15 عاما لم تفشل في القضاء على الظاهرة فحسب بل ربما أدت إلى تفاقمها وتوسع دائرتها. رابعها: إن هناك غيابا للقيادة السياسية الدولية القادرة على توجيه الطاقات للتصدي لهذه الظواهر الخطيرة برغم التقدم التكنولوجي والتجارب المريرة في المجالات الإنسانية والعلاقات الدولية. ما هو الفساد الذي بدأ قادة الغرب يتحدثون عنه فجأة؟ وثائق بنما التي تم تسريبها مؤخرا أزاحت الستار عن عالم سري لا يفقهه الكثيرون. وربما الجانب الأخطر أنه عالم يمارس الفساد على أوسع نطاق ولكن بدون أن يترك لمساته بشكل واضح أي أن الجريمة ترتكب عمدا مع سبق الإصرار والترصد ويصاحبها جهد كبير لإبقائها في عالم الكتمان الأمر الذي يجعلها أشد فتكا من أية ظاهرة اجتماعية أو سياسية أخرى. وثائق بنما كشفت جانبا صغيرا من النظام الفاسد الذي يحكم عالم اليوم ويوفر لنفسه القدرة على السلب والنهب وانتهاك القوانين وغسل الأموال. فإذا كان هناك ثمة اعتقاد بأن مصطلح (غسل الأموال) قد استحدث بهدف استئصال الفساد ومنع تهريب الأموال غير المشروعة فإن تلك الوثائق كشفت سذاجة ذلك الاعتقاد. تلك الوثائق لم تتطرق للأموال التي تكتسب من تجارة المخدرات أو التجارة غير المشروعة كتهريب السلاح أو المكتسبة من خلال الاحتيال بل كشفت مستويات أكبر من الفساد تساهم فيها الدول ويتم التلاعب فيها بنص القانون مع قتل روحه بالسماح طويلا لشركات الاوفشور المسجلة بدول تتساهل مع الأموال وتغض الطرف عن مصادرها وتتجاوز النظام الضريبي. ولطالما تحدث (فقهاء القانون) عن وجود ثغرات قانونية أو تفسيرات أخرى للنص ولكن عالم اليوم تجاهل البعد الاخلاقي للقانون وسمح لنفسه بتجاوز روحه. أي أن تقديم المصلحة الشخصية على المصالح العامة يؤدي إلى إلغاء أثر القانون لأنه يتحول إلى أداة بأيدي ذوي النزعات الشيطانية. ينطبق ذلك على كافة القوانين حتى الشرائع السماوية التي يسعى فقه الحيل الشرعية لتجاوزها وإضعاف عمقها الأخلاقي. وفي ما عدا رئيس وزراء ايسلاندا الذي استقال من منصبه بعد أن كشفت وثائق بنما جانبا من ممارساته التجارية وتهربه من دفع الضرائب لم تحدث أزمات سياسية أو اقتصادية ولم تكن لها تبعات قانونية ولم يعتقل أحد من الذين وردت أسماؤهم في تلك الوثائق أو يوضع اسمه على قوائم الأنتربول. إذا كان الإرهاب يمارس من قبل أفراد مغفلين يستدرجون إلى عالم الجريمة تحت غطاء ديني أو إيديولوجي فإن الفساد تمارسه الطبقة المتنفذة التي تملك المال والسلطة والإعلام وبالتالي فهي قادرة على تجميد عمل القوانين من جهة وتجاوز عيون (الساهرين على الأمن) من جهة أخرى. بل يتم تحييد السياسة والقضاء في هذه اللعبة القذرة التي تؤدي إلى تداعي اقتصادات العالم وتوسع الفجوة بين القلة التي تملك كل شيء والكثرة التي لا تملك شيئا. هذه هي القوى التي تصنع الأجهزة الدولية لمطاردة الضعفاء دفاعا عن مصالحهم وفسادهم. فالحدود محمية بقوانين وادوات تستهدف المغفلين الصغار بجرائم تافهة فتعتقلهم وتنكل بهم بينما يبقى المجرمون الكبار بمنأى عنها. فالرشوة والاحتيال والتهرب من دفع الضرائب والاستغلال والتحايل وتبييض الأموال كل ذلك من مصاديق الفساد الذي يئن العالم تحت وطأته. وفي الأسبوع الماضي قال صندوق النقد الدولي: إن الفساد بالقطاع العام يكبد الاقتصاد العالمي خسائر 1.5 تريليون إلى تريليوني دولار سنويا في صورة رشى ويضعف النمو الاقتصادي ويتسبب في استمرار الفقر. وتقول مديرة الصندوق كريستين لاغارد: (في حين أن التكلفة الاقتصادية المباشرة للفساد معروفة جيدا فإن التكلفة غير المباشرة ربما تكون أكبر وأكثر استنزافا). وأوضحت: إن الفساد له أيضا تأثير ضار أوسع نطاقا على المجتمع إذ يقوض الثقة في الحكومة ويضعف المعايير الأخلاقية لدى المواطنين. هذا الاهتمام بملف الفساد الدولي اصبح هما يشغل الرأي العام بعد ان تفاقمت ظاهرة الفقر غير المباشر بمستويات غير مسبوقة. فحين يعجز المواطن عن اقتناء منزل يؤوي عائلته بينما ترتفع المباني وناطحات السحاب في عواصم العالم يبرز التساؤل: من يملك هذه المباني؟ ومن أين له المال؟ فالشركات العملاقة تتحاشى دفع الضرائب بالمستويات المأمولة منها كما فعلت غوغل في بريطانيا في الشهور الأخيرة وكما تفعل شركات أخرى مثل امازون وماكدونالدز وشركات الكومبيوتر وسواها. بينما لا يستطيع المواطن العادي إيداع 5000 دولار في حسابه بدون أن يتعرض لتساؤلات تستبطن الشكوك والظنون والاتهام. وبرغم اهتمام المنظمات المهتمة بمكافحة الفساد بتنامي الظاهرة والسعي لكشف المتورطين فيها إلا أن إمكاناتها وخضوعها لقوانين الدول التي تعمل فيها تحول دون القدرة على التصدي الفاعل للمشكلة. فمنظمة (ترانسبيرنسي أنترناشيونال أي الشفافية الدولية) تعمل في مجال مكافحة الفساد والسعي للكشف عن الممارسات التي لا تنسجم مع روح القانون ولكن تداخل النظام العالمي خصوصا في شبكاته القانونية والفنية يحول دون إنهاء الفساد.