بقلم: سعيد الشهابي عندما توقفت حرب الأيام الستة في العام 1967 اعتقد الكثيرون أن مشاريع السلام اللاحقة ستكون نهاية الأزمة الناجمة عن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وتفاعل الناس مع مشاريع التسوية التي طرحت ابتداءً بمشروع روجرز (نسبة لوزير الخارجية الأمريكي آنذاك ويليام روجرز) في العام 1970 الذي سبقته ثلاثة أعوام مما سمّي حرب الاستنزاف بين الفدائيين الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية. ولكن سرعان ما حدثت حرب 1973. ونجم عنها مبادرة سلام قام بها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات عندما فاجأ العالم بزيارة القدس في نوفمبر 1977. واعتقد الكثيرون أيضا أنها ستؤدي إلى نهاية الحرب بين العرب و إسرائيل ولكن ذلك لم يحدث. وتوالت الحروب والمبادرات بين الطرفين على مدى أكثر من نصف قرن. ولكن ما أشبه الليلة بالبارحة فكأن الزمن قد توقّف فالصراع اتخذ أشكالا شتى وكذلك مبادرات السلام. وبالنظر للسياسات الإسرائيلية خلال تلك الحقبة يتضح أن كيان الاحتلال لا يستطيع أن يبقى إلا في أجواء الصراع والحرب وأن مقولة السلام لا تحظى بأولوية لديه. لذلك تواصل الاحتقان واندلعت النزاعات المسلّحة وبقي القسم الأكبر من الفلسطينيين يتنقّلون بين المخيّمات بينما قضت أجيال منهم مشرّدة في أصقاع الأرض. ولا يمكن اعتبار مبادرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوقف حرب غزّة الفصل الأخير في هذا الصراع التاريخي برغم أنه بذل جهودا لتحقيقه ليس رغبة في تحقيق السلام الحقيقي بقدر ما هو محاولة يائسة للحصول على جائزة نوبل للسلام. وبعد قرار اللجنة المنظمة للجائزة بمنح جائزة السلام هذا العام لزعيمة المعارضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو تلاشت أحلام ترامب تماما. *عقود من الاحتلال على مدى ثلاثة أرباع القرن بقيت فلسطين رهينة بأيدي المحتلّين الذين لم يستوطنوها فحسب بل سعوا لمحو تاريخها تارة بالاستيطان الذي لم يتوقف وأخرى بطرد سكانها الأصليين وثالثة بمحو آثارها التاريخية خصوصا الإسلامية منها. وما يزال تدمير المسجد الأقصى هدفا للمشروع الصهيوني بانتظار التنفيذ في الوقت المناسب. وما أكثر الخطط التي طرحت منذ حريق الأقصى في العام 1969 لإزالة المسجد من أجل محو الهويّة الإسلامية للقدس بل أن التنقيب عن الآثار الذي تقوم به سلطات الاحتلال من أكبر الأخطار التي تهدد قواعد المسجد بالانهيار. وتعلم سلطات الاحتلال أنها مسؤولة عن الحفاظ على الآثار التاريخية والدينية للسكان الأصليين وأن استهداف تلك الآثار بالتدمير يدخل في سياق جرائم الحرب . فالحفاظ على المقدسات الدينية للبشر ضرورة لحماية السلم الاجتماعي وإظهار احترام عملي للتراث الإنساني الذي يعتبر ملكا للأجيال الحالية واللاحقة. وإذا كان العديد من المساجد والأضرحة والمقدسات الإسلامية قد أصيب بالدمار بسبب العدوان الإسرائيلي المتواصل فإن الحفاظ على ما بقي من ذلك التراث أصبح مسؤولية دولية تفرضها مشاعر الانتماء للإنسانية والرغبة في حماية السلم الأهلي. * دعاة محو هويّة فلسطين وشعبها من المؤكد أن وقف إطلاق النار في غزة ومحيطها تطوّر إيجابي وضرورة إنسانية. ولا يضير المظلومين شيئا أن يحصل من يسعى لتخفيف ظلمهم على مكافأة مادّيّة. ولكن في الوقت نفسه لا يرغب الضحايا ان تُستغل قضيتهم لإظهار بطولات شخصية أو التباهي بتحقيق إنجازات غير معتادة. فهؤلاء الضحايا بلغوا من الرفعة والكرامة بسبب معاناتهم وصمودهم ما يجعلهم يترفّعون على المادّة ويتطلّعون لأن تكون قضيتهم سلّما للوصول إلى إنسانية رفيعة وقيم عالية. هؤلاء الأشاوس لم ينحنوا يوما لمحتلّ أو ظالم أو انتهازي بل كانوا أوفياء للمباديء الإنسانية والدينية وعلى رأسها الحرّيّة والكرامة والثبات. وقد قدّموا على مدى ثلاثة أرباع القرن شهادة للتاريخ بأنهم الشعب الذي خذله العالم ولكنّه أبى الاستسلام ورفض التنازل عن شبر من أرضه فتحمّل القتل والسجن والتنكيل والتشريد والتجويع وكذلك سياسات الإبادة. أمّا محتلو أرضه فلم يستطيعوا هزيمته برغم ما لديهم من عدد وعدّة ودعم غربي بلا حدود. ويكفي أن هؤلاء المحتلّين حصلوا من أمريكا في العامين الماضيين (أي منذ حوادث 7 أكتوبر 2023) أكثر من 21 مليار دولار ومع ذلك لم يستطيعوا حسم الموقف لصالحهم. وبقي العالم يهتف باسم فلسطين ويندّد بالاحتلال ويشجب السياسات الأمريكية التي أصرّت على دعم الاحتلال وموّلته وبعثت أساطيلها للدفاع عنه والتصدّي لرافضيه. بينما أصرّ أحرار العالم على تقديم ما يستطيعون من عون ولو كان رمزيّا. فما عسى ان تفعله قافلة من القوارب الصغيرة لا يتجاوز عددها 21 قاربا التي تحدّت التهديدات وتوجّهت إلى غزّة لكسر الحصار عن أهلها قبل أن تباغتهم قوات العدو البحريّة وتعتقل جميع المشاركين فيها. ولكن برغم تواضع حجم القافلة وحمولتها من الغذاء والدواء فقد أقضّت مضاجع الإسرائيليين وداعميهم ولم يستطيعوا أن يلوذوا بالصمت ويبلغوا كبرياءهم فشنّوا عدوانهم وأنهوا المبادرة. ولكن من قال أن أحرار العالم سيتراجعون عن دعم فلسطين وأهلها؟ فمع ما يمثله الدعم الغربي للاحتلال من تراجع قيمي وانحدار أخلاقي فإنه عجز عن تحمّل موقف دولي متماسك يرفض الحصار ويتصدّى عمليا لكسره. *زوبعة إنسانية في عالم يجد نفسه في زوبعة إنسانية أمام امتحان أخلاقي لم يعد أمامه سوى الصمود والصبر والمثابرة حتى يستطيع إطعام البطون الجائعة ويكسر شوكة شياطين الموت الذين يجدون لذّتهم في معاناة الآخرين ويرتاحون حين يسمعون استغاثات الجياع والمشرّدين والمضطهدين وراء القضبان. إنه العالم الذي تسعى أمريكا لتطويعه لإرادتها وسياساتها وتجبره على قبول كيان احتلال مارق لا يخفي تمرده على القانون الدولي خصوصا بعد أن أفصح زعماؤه عن نيتهم لاستخدام الغذاء والدواء سلاحا في ما يعتبرونه حربا وجودية ومواجهة حتميّة ليس مع أهل الأرض الأصليين فحسب بل مع المجتمع الدولي الذي رفض الاحتلال ورأى في الترسانة الإسرائيلية تهديدا لأمن العالم. هذه الدائرة المفرغة من العنف والعنف المضاد لا تخدم الحفاظ على أمن العالم وسلامته بل تضاعف التوتر وتوسّع الخلاف. وهذا نابع من ثقافة تقوم على مقولة الاستئصال التي تقضي بإفراغ الأراضي المحتلّة من سكانها الأصليين وفتح باب الاستيطان على مصراعيه بدون توقف. وهذه سياسة ثابتة لدى قادة إسرائيل الذين لم يستجيبوا يوما لدعوات وقف بناء المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة بل أنهم مستمرون في ذلك خصوصا في غياب الردع الدولي الفاعل. فالاحتلال الإسرائيلي ليس سياسة عابرة بل هو تجسيد لمشروع غربي قديم-جديد يهدف لتحقيق السيطرة الغربية على المنطقة. لذلك فمنذ قيام كيان الاحتلال لم يغيّر الغربيون سياساتهم الداعمة ل إسرائيل بل التزموا بمبدأ ضمان تفوقها العسكري على الجانب العربي ووفروا لها حماية دائمة في نظرهم. لكنهم لم يستطيعوا كبح جماح شعب يعشق الحريّة ويرفض الاحتلال والاستعباد. لذلك استمرت الأزمة واستعصت على محاولات الاحتواء والترقيع. *اختبار تاريخي وهكذا أصبحت قضية غزّة عنوانا لاختبار تاريخي يهدف لكشف حقيقة دول العالم الحر الذي ينظر زعماؤه لغيرهم بازدراء واستصغار ولا يحترمون قيمة أرواح البشر. وتكفي الإشارة إلى صمت العالم إزاء سياسة الانتقام الإسرائيلية التي سمحت للقوات الإسرائيلية بقتل قرابة 70 شخصا فلسطينيا في مقابل كل شخص قتله الفلسطينيون. إن هذه المفارقة لم تكن يوما موضع نقاش عالمي حقيقي حول النسبة والتناسب في الحروب بل فضّل الكثيرون تجاوزها لكي لا يتحمّلوا مسؤولية السعي لتغيير هذا الواقع غير الإنساني. ونتيجة المواقف السلبية والّلامبالاة استمرت الولاياتالمتحدةالأمريكية في سياسة الدعم المطلق للاحتلال بينما لاذت الدول الأوروبية بالصمت وبقيت غزّة في محنة سياسية ومعيشية حتى انتشرت منذ مطلع العام الحالي تقارير تؤكد وجود حالات من المجاعة خصوصا بين الأطفال. ولكن المجاعة ليست الظاهرة الوحيد. بل أن أعدادا كبيرة منهم تواجه صدمات نفسية شديدة وإصابات جسدية تتطلب علاجا طويل الأمد نتيجة ويلات الحرب التي عايشوها بما في ذلك بتر الأطراف والحروق. كما تظهر على الأطفال أعراض مثل الكوابيس والخوف من الأصوات العالية والسلوك العدواني. وبعد الاتفاق على وقف إطلاق النار تفاقمت الأعباء على العائلات. فلم تفقد منازلها فحسب بل أن من بقي من أبنائها أصبح يعاني المشاكل المذكورة. ليس معلوما بعد مدى استمرار حالة الهدنة التي بدأت الأسبوع الماضي خصوصا بعد شعور الرئيس الأمريكي بالإحباط لعدم حصوله جائزة نوبل للسلام فقد ادّعى بأنه أوقف سبع حروب بما فيها الحرب في غزّة وأنه بذلك يستحق الجائزة. لذلك لا يُستبعد أن يغض الطرف عما يحدث في غزّة ويترك الأمر لتقديرات الإسرائيليين وقراراتهم. هؤلاء القادة أصبحوا مطالبين من قبل عائلات المحتجزين الإسرائيليين بتبرير الحرب وما نجم عنها من ضحايا وخسائر. وبذلك تبدأ مرحلة تتميز ب الّلاحرب والّلاسلم ويتم تأجيل الاهتمام بإعادة إعمار غزّة مما لحق بها من دمار مادي هائل يثقل كاهل أكثر من مليوني إنسان أصبحوا مشرّدين في العراء. وسوف تكشف الفترة المقبلة مدى قناعة حكّام أمريكا بتقليم أظافر قادة إسرائيل ومنعهم من شنّ العدوان مرّة أخرى. وهكذا يبدو مستقبل أهل غزة مرتهنا لدى عشاق الحرب في تل أبيب ودعاة محو هويّة فلسطين وشعبها وكذلك بقرارات البيت الأبيض برئاسة دونالد ترامب الذي يشعر بالإحباط وقد يدفعه ذلك للاتّجار بأرواح أهل غزّة انتقاما وتشفّيا. إنه صراع بين الإنسانية وأعدائها بين قرارات الدولة ورغبات سياسييها وبين عشّاق السلام والمستخفّين وهواة الحرب والموت الأسود.