يبدو ممّا هو معيش حتى الآن أن الحكومة لا تبحث عن مخارج حقيقية لإخراج البلاد بصور نهائية من وضعها الحرج والصعب الذي هي فيه جرّاء تهاوي سعر النفط ، بالرغم من أنها تتوفر على مقدرات هائلة ممّا تستوجبه التنمية الحقيقية المستدامة. ومن المجازفة بمكان أن تنصبّ جهود واجتهادات وزارة المالية على جانب الضرائب والاقتطاعات المالية من جيوب المواطنين، وعلى إطلاق العنان لرفع الأسعار، وتجميد التوظيف، وخفض قيمة الدينار، دون التفكير في وضع استراتيجية وطنية، تنبني على التوجهات الفعلية التي تحتاجها البلاد في تحقيق تنمية وطنية فعلية مستدامة. هذه التوجهات الفعلية الواجب اتّباعُها تتمثل أساسا في إقرار برامج ومخططات تنموية، والسهر عليها بالتجسيد والمتابعة والمرافقة، وحتى المحاسبة. ويرى الخبراء أن لا بديل عنها، وتستوجب الاهتمام وتتمثل أساسا في الفلاحة والصناعة الغذائية ضمانا للأمن الغذائي، والصيد البحري، والسياحة، والطاقات المتجددة غير القابلة للنفاد، والاستثمار في عقول البشر. ما هو غير مُبرر، وغير مفهوم أنّ تقهقر سعر النفط حرّك الحكومة ووزارة المالية نحو إثقال كاهل المواطنين بالضرائب المتنوعة، ولم يُحرّكها نحو البحث عن مخارج حقيقية دائمة لتفادي الأزمة، وإحداث تنمية وطنية حقيقية مستدامة، وهي موجودة وتزخر بها، ومن ثمّ فإن ما نراهُ مُلزما للدولة الجزائرية وحكومتها الحالية، أن يُشرع من الآن في مراجعة السياسة المُتّبعة في القطاع الفلاحي، بعيدا عن أي تسييس، وعن أي شعبوية دعائية، وأن يكون الاكتفاء الذاتي أول خطوة. ما هو أساسي ومُلحّ وطنيا، وغير قابل لأي تماطل أو تأجيل أن تضع الدولة الجزائرية الاكتفاء الغذائي الذاتي الهدف الأساس الواجب بلوغه في ظرف قياسي، وتحقيقُهُ ليس بالأمر المستحيل في حال توفّر النية الحسنة، والإرادة القوية عبر مكننة الزراعة، وتحديث أساليبها، واعتماد مستلزمات الوفرة والجودة. هذا القطاع الذي هو عصب حياة الشعب، والضامن لجزء هام من سيادته على نفسه، يستلزم بالضرورة استحداث صناعة غذائية متنوعة، يُشركُ فيها الخواص المؤهلون علميا وماليا. وما نقوله هنا على المنتجات الفلاحية ينطبق على موارد الصيد البحري أيضا. يُضاف إلى هذا قطاع السياحة الذي يُفترض في أن تكون موارده ضخمة على المدى المتوسط والطويل، وهو يستلزم الابتعاد عن التصريحات الشعبوية المُضلّلة، والسعي نحو إحداث نهضة حقيقية به، عبر إقرار استرتيجية دولة، واضحة المعالم والأهداف، تخضع في تطبيقها للمرافقة والمتابعة والدعم الخاص وللمحاسبة أيضا، وعلى أن تُحظى فيها هياكل الاستقبال بالأولوية القصوى، وأن تُرفق بالتكوين الجاد للطواقم البشرية المُسيّرة، وأن تُرفع البيروقراطية، ويحلّ محلّها الحسّ السياحي، الذي يجب أن يمسّ عمال القطاع، وجمارك الحدود، وأفراد الأمن، والمُستثمرين وكافة المواطنين. وما هو مطروح اليوم كبديل أمثل عن ثروة النفط الزائلة هو الطاقات المتجددة، أي الطاقة الشمسية، وبقية أنواع الطاقة المستخرجة من الرياح والمياه، وهو ما أطلق عليه الخبراء تسمية »العملاق النائم في الجزائر«، هو مخزون ربّاني طبيعي لا ينضب، حجمُهُ يساوي ثماني مرات احتياط حاسي الرمل، الذي ينتج سنويا أربعة آلاف مليار متر مكعب، وقُدّر إنتاج الطاقة الشمسية بألفين إلى ثلاث آلاف ساعة من إطلالة الشمس، وهو ما يساوي عشرُ مرّات الاستهلاك الطاقوي العالمي.. وأول خطوة مطلوبة من هذه الطاقات البديلة هي تحقيق الإنارة العمومية، وضمان تغطية منظومات الضخ لدى الفلاحين، وتوفير الكهرباء الصناعية في القرى والمناطق النائية، والعالم اليوم يتّجهُ إلى ما بعد البترول في آفاق 2040 . وما يُلامُ على الدولة الجزائرية أن الجزائر أُفرغت من محتواها البشري المنتج، ومسّتها في مقتل الهجرات المتتالية للأدمغة والعلماء، حيث ذكرت آخر الإحصائيات أن أزيد من 268 ألف إطار وعالم في كل التخصصات هاجروا نحو الخارج، 75 بالمائة منهم موجودون بفرنسا، و11 بالمائة في كندا، أعمارهم تتراوح بين 25 و 45 سنة، وهو ما يستلزم من الدولة الجزائرية البحث عن السبل الكفيلة بوقف هذا النزيف المتواصل، وطرح التشجيعات والتحفيزات لعودة هؤلاء، أو الاستفادة منهم تحت أي وضع كان، وقد كلّفت هجرتهم الجزائر أزيد من مائة بليون دولار ( بحرف الباء ) خلال الثلاثين سنة الأخيرة، وهؤلاء هم اليوم في خدمة الاقتصاديات الغربية ومجتمعاتها.