خنشلة..توقّع إنتاج مليون قنطار من الحبوب    باتنة..مجهودات كبيرة لرفع إنتاج شعبة الحبوب    رفيق قيطان يقرر الرحيل عن الدوري البرتغالي    لن نتنازل عن اللّقب.. ومواجهة المولودية ستكون مميّزة    "العميد" يواجه بارادو وعينه على الاقتراب من اللّقب    المدرب أرني سلوت مرشح بقوّة لخلافة كلوب    أمن دائرة عين الطويلة توقيف شخص متورط القذف عبر الفايسبوك    سيدي بلعباس : المصلحة الولائية للأمن العمومي إحصاء 1515 مخالفة مرورية خلال مارس    جامعة "عباس لغرور" بخنشلة: ملتقى وطني للمخطوطات في طبعته "الثالثة"    مدرب مولودية الجزائر باتريس يسلم    بطولة العالم للكامبو: الجزائر تحرز أربع ميداليات منها ذهبيتان في اليوم الأول    أحزاب نفتقدها حتى خارج السرب..!؟    ياسين وليد ينصب عشاشة مديرا لوكالة دعم المقاولاتية    هلاك 44 شخصا وإصابة 197 آخرين بجروح    حوالي 42 ألف مسجل للحصول على بطاقة المقاول الذاتي    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: حضور لافت في العرض الشرفي الأول للجمهور لفيلم "بن مهيدي"    مشروع "بلدنا" لإنتاج الحليب المجفف: المرحلة الأولى للإنتاج ستبدأ خلال 2026    حج 2024 :استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    المركز الوطني الجزائري للخدمات الرقمية: خطوة نحو تعزيز السيادة الرقمية تحقيقا للاستقلال التكنولوجي    الجزائر العاصمة.. انفجار للغاز بمسكن بحي المالحة يخلف 22 جريحا    الفريق أول السعيد شنقريحة يترأس أشغال الدورة ال17 للمجلس التوجيهي للمدرسة العليا الحربية    معسكر : "الأمير عبد القادر…العالم العارف" موضوع ملتقى وطني    من 15 ماي إلى 31 ديسمبر المقبل : الإعلان عن رزنامة المعارض الوطنية للكتاب    اجتماع لتقييم السنة الأولى من الاستثمار المحلي في إنتاج العلامات العالمية في مجال الملابس الجاهزة    المهرجان الوطني "سيرتا شو" تكريما للفنان عنتر هلال    جامعة بجاية، نموذج للنجاح    السيد مراد يشرف على افتتاح فعاليات مهرجان الجزائر للرياضات    بحث فرص التعاون بين سونلغاز والوكالة الفرنسية للتنمية    رئيس الجمهورية يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    السفير بن جامع بمجلس الأمن: مجموعة A3+ تعرب عن "انشغالها" إزاء الوضعية السائدة في سوريا    شهداء وجرحى مع استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزة لليوم ال 202 على التوالي    انطلاق الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر للرياضات    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: فيلم "بنك الأهداف" يفتتح العروض السينمائية لبرنامج "تحيا فلسطين"    إستفادة جميع ولايات الوطن من خمسة هياكل صحية على الأقل منذ سنة 2021    السيد بوغالي يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    حج 2024: آخر أجل لاستصدار التأشيرات سيكون في 29 أبريل الجاري    "الكاف" ينحاز لنهضة بركان ويعلن خسارة اتحاد العاصمة على البساط    رئيس الجمهورية يترأس مراسم تقديم أوراق اعتماد أربعة سفراء جدد    نحو إنشاء بوابة إلكترونية لقطاع النقل: الحكومة تدرس تمويل اقتناء السكنات في الجنوب والهضاب    خلال اليوم الثاني من زيارته للناحية العسكرية الثالثة: الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي    السفير الفلسطيني بعد استقباله من طرف رئيس الجمهورية: فلسطين ستنال عضويتها الكاملة في الأمم المتحدة بفضل الجزائر    معرض "ويب إكسبو" : تطوير تطبيق للتواصل اجتماعي ومنصات للتجارة الإلكترونية    حلم "النهائي" يتبخر: السنافر تحت الصدمة    شلغوم العيد بميلة: حجز 635 كلغ من اللحوم الفاسدة وتوقيف 7 أشخاص    رئيس أمل سكيكدة لكرة اليد عليوط للنصر: حققنا الهدف وسنواجه الزمالك بنية الفوز    القيسي يثمّن موقف الجزائر تجاه القضية الفلسطينية    تسخير 12 طائرة تحسبا لمكافحة الحرائق    هزة أرضية بقوة 3.3 بولاية تيزي وزو    الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين الدوليين إلى تمويل "الأونروا"    العدالة الإسبانية تعيد فتح تحقيقاتها بعد الحصول على وثائق من فرنسا    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    "المتهم" أحسن عرض متكامل    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العولمة والأخلاق 2/2
نشر في الجزائر نيوز يوم 15 - 06 - 2012

..إن المبادئ والشعارات التي رفعتها العولمة ونادى بها النظام العالمي في مجملها أخلاقية سامية ومثلى، بحيث عرفها الإنسان منذ القديم واستحسنها العقل، وأيدتها جميع الديانات والشرائع السماوية وغيرها، وقامت عليها سائر النظم والقوانين التي عرفها الإنسان، كما تأسست عليها كافة الحضارات المتعاقبة عبر تاريخ الإنسانية الطويل..
إن الأزمة الأخلاقية التي يعاني منها الإنسان في العالم المعاصر ترتبت عن التناقض بين القول والفعل لدى دعاة العولمة ومنفذيها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، فممارساتها تتسم بالأخلاقية والإنسانية، فلا مراعاة لحقوق الإنسان الأساسية: حق الحياة والملكية والتعبير، ولا مراعاة لمصالح الشعوب الضعيفة اقتصاديا، ولا مراعاة لتحقيق العدالة وإعطاء الحقوق المغتصبة لأصحابها، ولما كانت هذه هي طبيعة ''الحال الواقعة'' للعولمة، فهي إذن ليست ''عولمة'' بمعنى الطابع الأخلاقي والإنساني الذي يروج له خطابها النظري ومن ثم فهو خطاب وهمي تنفيه وتنقضه الممارسات القائمة على أرض الواقع.
انتبه الكثير من المفكرين من العرب والغربيين الذين روجوا للعولمة إلى مخاطرها على العالم خاصة العالم المتخلف، وعلى حقوق الإنسان فيه، وأنها شكل من أشكال الإستعمار تفرض هيمنة القوى العظمى على العالم ولا تراعي سوى مصالحها، فقد صرح أحد المفكرين العرب، بأن العولمة ضرب من الاستعمار بعدما كان يرى بأنها سبيل لتوحيد الجنس البشري تحت راية واحدة هي الكوكبية، لكن منظوره للعولمة تبدل ''سرعان ما تبين له من خلال التعمق في قراءة الملامح الراهنة للنظام العالمي المتغير، أننا بصدد معارك كبرى إيديولوجية وسياسية واقتصادية وثقافية من الصعب التنبؤ بنتائجها النهائية لأن المسألة ستتوقف على قدرة نضال الشعوب على مواجهة العملية الكبرى التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية تحت شعار العولمة لإعادة إنتاج نظام الهيمنة القديم''.
الأمر الذي جعل بعض المفكرين يربطون العولمة بالزمن ويعتبرونها مجرد مرحلة تاريخية أو حقبة يعرفها العالم وتمضي كغيرها من الحقب التاريخية، على عكس ما ذهب فيه دعاتها من كونها تنتصر على الجميع وتمثل نهاية التاريخ، كما تمثل المدخل إلى ما بعد التاريخ وإلى ما بعد العولمة، فهي ''حقبة تاريخية محددة أكثر منها ظاهرة اجتماعية أو إطارا نظريا وهي في نظرهم تبدأ بشكل عام منذ بداية ما عرف بسياسة الوفاق التي سادت في الستينيات بين القطبين المتصارعين في النظام الدولي آنذاك إلى أن انتهى هذا الصراع والذي يرمز له بانهيار حائط برلين الشهير ونهاية الحرب الباردة وهذا التعريف يقوم على الزمن باعتباره العنصر الحاسم.. فالعولمة في نظر أصحاب هذا الرأي، هي المرحلة التي تعقب الحرب الباردة من الناحية التاريخية ومصطلح العولمة مثله مثل مصطلح الحرب الباردة الذي سبقه يؤدي دوره كحد زمني لوصف سياق تحدث فيه الأحداث كأن يقال مثلا أننا نعيش في عصر العولمة لتبرير أو فهم سياسات معينة اقتصادية أو سياسية أو ثقافية.. وهي وفق هذا التعريف يمكن اعتبارها حقبة تاريخية بالمعنى الذي سبق أن وصفت به الفاشية باعتبارها حقبة تاريخية أكثر منها نظاما سياسيا''.
هذا الوصف يُفقد العولمة الشرعية الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، ويعتبرها مجرد حقبة زمنية تُنعت بما يُنعت به الاستعمار الحديث وجرائمه، وتوصف بما توصف به النازية أو الفاشية أو أي حقبة تاريخية عرفها الإنسان وشهدت أشكال الظلم والعدوان التي مارسها الإنسان ضد أخيه الإنسان، لا لسبب سوى لكونه قويا وفي مركز الغلبة والمنعة والآخر في مركز الضعف والهوان، ورغبة في التسلط وابتغاء الهيمنة.
*إن الأزمات التي أفرزتها العولمة وممارسات الدول ذات الأنظمة الطاغية والمتجبرة التي لا تعير أدنى اهتمام لمكارم الأخلاق ولا للقيم الدينية التي ترعى المصلحة العامة، زادت القوى المهيمنة المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الذين ''سيتشبثون بكل قوة بما حققوه من منجزات علمية وثقافية ومن هيمنة على رأس المال وهيمنة على وسائل الإتصال العظيمة والإشراف المباشر على جميع المؤسسات الدولية ما وصلوا إليه من هيمنة على إدارة الاقتصاد الكوني والتي سيستخدمونها في تحقيق أهدافهم الإستراتيجية في الهيمنة على العالم، وهم مستعدون للدفاع عن المكاسب التي حققوها خلال العقود الماضية، بكل الوسائل وهم مستعدون لاستخدام القوة العسكرية وحتى أسلحة الدمار الشامل من أجل الحفاظ على المكانة القيادية التي يتمتعون بها منذ الحرب العالمية الثانية، وبنفس الوقت فهم لا يكترثون بقتل ملايين من البشر من أجل الحفاظ على مكاسبهم المادية، هذه هي طبيعة المنظومة الرأسمالية وهذا هو جوهرها''.
المنظومة الرأسمالية العلمانية المبعدة لكل ماهو مقدس أخلاقي أو ديني، وحتى القيم العلمية والتكنولوجية والاجتماعية في روحها وجوهرها أخلاقية، لأن قيم الحداثة خارج الإيديولوجية الغربية تنفع الجميع وصالحة في الزمان والمكان، أما في سياق الإيديولوجية الغربية والأمريكية فهي صالحة في الغرب الأوربي والأمريكي فقط، وقوى المركز تحتكر قيم الحداثة وبأن أي نظرة موضوعية لطبيعة التناقضات القائمة الاقتصادية والسياسية والحضارية على الساحة الكونية تنبأنا بتفاقم هذه التناقضات بالشكل والكيفية والمستوى الذي يجعل من وقوع حرب كونية وارد في الحسابات، بعد تفهم عميق لطبيعة تكوين النظام الرأسمالي الذي تقوده أمريكا والصهيونية العالمية، خاصة إذا شعرت أمريكا بأن خطر انهيارها أصبح وشيكا وأنّ حل أزماتها لا يمكن أن يتم إلا من خلال تصدير هذه الأزمة إلى خارج حدودها.. بالإضافة إلى ذلك، ولكون العولمة لها مخاطر وتحديات ليس على المستوى الاقتصادي فحسب وإنما على المستوى العلمي والثقافي والتقني والحضاري، فهي تحتوي على تحديات شمولية ومعقدة التركيب وانطلاقا من المبادئ القومية والإنسانية تم طرح مشروع إنشاء تجمع مؤسسي يشمل جميع الدول النامية الراغبة في المشاركة بهذا التجمع الاقتصادي الهدف منه هو مواجهة العولمة الأمريكية هذه العولمة التي تحاول غزو العالم بجميع الوسائل حتى العسكرية من أجل تعميم نمط الحياة الأمريكية على الكوكب''. فالحاجة إلى التكتل الإقليمي والدولي في العالم المتخلف صارت أكثر من ضرورة، نظرا لما تقوم به الأمركة والصهيونية من ممارسات يندى لها الجبين في فلسطين والعراق وأفغانستان وفي غيرها من مناطق العالم، سواء في انتهاك حقوق الإنسان المدنية والسياسية وعلى حق الحياة بالذات، أو نهب ثرواته واستغلال طاقاته إلى أبعد الحدود.
*إنّ الأخلاق التي يركز عليها النظام العالمي وتستند إليها العولمة كما أرادتها الأمركة الصهيونية تنبذ الآخر الذي لا يملك التقدم العلمي والتكنولوجي الذي جعل العالم المتقدم بقيادة أمريكا على ماهو عليه، مثل الشعوب الغابرة التي عرفت حضارات راقية نمت وازدهرت ثم توقفت وانتهى أمرها، مثل الحضارات الشرقية القديمة والحضارة اليونانية والحضارة الإسلامية وغيرها، وهي حضارات -كما هو ثابت في التاريخ- قامت على العالمية ومن منطلق الأخذ والعطاء والتبادل الثقافي والعلمي، لا من منطلق الهيمنة وسحق الآخر ثقافيا اقتصاديا وعسكريا، لا لسبب سوى لكونه ضعيفا ولرغبة القوي في التسلط وممارسة القهر، إنّ النظام العالمي ''نظام معاد للإنسان. إن دعوة النظام العالمي الجديد لنشر الديمقراطية في أرجاء العالم لا تهدف إلى تمكين الجماهير من التحكم في مصيرها وإنما هي أداته في فتح الحدود وإضعاف الدول القومية، حتى يتسنى له ترشيد البشر. ولكن هذه الدعوة كانت لا تزال ليخفي بها مخططات بسط السيطرة على الشعوب والإستيلاء على ثرواتها. ومن جهة أخرى، تصور الديمقراطية التي تسوق لها أمريكا من سوق حرة، تصور ''دينا'' جديدا لا يمكن للإنسان أن يجد حقوقه خارجها.. فالغرب يصفنا بالتخلف فيما هو يريد لنا أن نبقى كذلك، أو يتهمنا بالإرهاب ولكنه لا يحملنا إلا على ممارسته. إنه يخلق مجتمعات غير متكافئة، يقصد من خلالها الطرف الأقوى إخضاع الآخر إلى تبعية اقتصادية وسياسية وعلمية وفكرية وثقافية، ويحوله إلى موضوع حمّال لكل مظاهر النقص والقصور والتخلف، وبذلك يمهد لتبعية لا محدودة''.
إنّه النظام الذي يشل الشعوب عن التنمية لفرض التبعية، ويزرع فيها الخذلان والعجز عن استعمال إمكانياتها الذاتية والموضوعية، من منطلق إيديولوجي سفيه يجردها تماما من النضج الحضاري ويتهمها بالشر والإرهاب، ويربطها بالطبيعة البدائية المتوحشة، ويطبق عليها قانون الغاب ويضربها بقوة في حالة العصيان والتمرد، إن الإرهاب الذي ينسبه النظام العالمي للشعوب المستضعفة في العالم الثالث والعالم العربي والإسلامي بصفة خاصة ''قد مارسه الغرب على نحو أكثر فظاعة كما تشهد موجات الإبادة الجماعية ضد السكان الأصليين ''الهنود''، والحروب العالمية. صحيح أن الغرب ينظر إلى نفسه بوصفه أقوى لأقوياء الغاب أو بوصفه مصدر المعرفة ونموذج الحضارة، فيما هو يعاملنا بوصفنا مجرد مستهلكين لسلعه وأدواته. وبذلك يخفي الوجه الآخر لحقيقته: كونه يمارس الإرهاب بتهديداته وحروبه وتدخلاته ومفاضلاته العنصرية، وكونه قد حقق تقدمه وإنجازاته، بقدر ما استخدمنا أو احتاج إلينا كأسواق''.
لا يتمتع النظام العالمي بالمصداقية، لا في عقلانيته ولا في واقعه وممارسات القائمين عليه، فطلب الديمقراطية وباقي حقوق الإنسان والتطلع إلى السلام العالمي لا يكون بالقوة العسكرية، بقدر ما يكون بقوة الانفتاح والحوار والتعاون بين الشعوب، أما واقع الحال يكشف عن الإفراط في استعمال القوة العسكرية ضد الشعوب والحركات المناهضة لتوجه العولمة والأمركة والصهيونية، ولصالح الأمن والسلام في دولة الولايات المتحدة الأمريكية في الدول المتحالفة معها، وفي غياب تام للاعتبارات الأخلاقية والدينية والعلمية، الأهم في الأمر بقاء الولايات المتحدة على قمّة هرم العالم تفعل فيه ما تشاء وكيفما تشاء وساعة تشاء من دون حسيب أو رقيب.
*إذا كان في الغرب من المفكرين أمثال ''فوكوياما'' و''هانتنغتون'' و''مينك'' وغيرهم ممن صفقوا للعولمة، ورقصوا للنظام العالمي، وصاغوا البيان النظري والسياسي للكوكبية والأمركة المتصهينة، فإنّ الغرب لم ينجب مثل هؤلاء فقط، بل أنجب الكثيرمن المعتدلين والموضوعيين من أهل الحق والخير والجمالوخصوم قهر العولمة وظلم وعدوان النظام العالمي، مثلما هو الحال في العالم الإسلامي وفي غيره نجد فقهاء الرحمان وأتباعهم في مواجهة فقهاء السلطان وأزلامه، والمفكر الغربي المسلم ''روجيه غارودي'' أو''رجاء'' واحدا ممن وقفوا في وجه تيار العولمة الجارف بالتحليل النقدي الفاحص والنظرة الموضوعية العميقة في كتابه ''كيف نصنع المستقبل''، فيكشف عن خيوط أزمة العولمة وعن جذورها وهي جذور أخلاقية وعقائدية وليست اقتصادية أو سياسية كما يعتقد البعض، إن الهيمنة الغربية والأمريكية اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وإعلاميا وعسكريا لها صورا سلبية بشعة، تدل على ضعف وانحطاط الحضارة المعاصرة روحيا وأخلاقيا -على الرغم من تطورها علميا وماديا وتكنولوجيا- وعلى مصيرها الأسود المظلم، وعلامات انحطاطها عند ''روجيه غارودي'' وعلى حد قوله: ''إن رأس المال الذي تمّ تجميعه خلال خمسة قرون بالنهب الاستعماري والمحدود بعد ذلك بالإستثمارات في البلاد الصناعية الكبرى في أوروبا العجوز والذي يخلق حاجات اصطناعية ومؤذية عبر الإعلان والتسويق، رأس المال هذا الذي أصوله بالإستثمار في مؤسسات الإنتاج والخدمات الواقعية. أصبح رأسمال مضاربة أي أصبح طفيليا خالصا. النقود لم تعد تخلق السلع ولكن تخلق النقود. إنّ ''عمل الخلاّق لم يعد يفيد في تنمية الإنسان(أي كل البشر) ولكن في تضخيم فقاعة مالية لأقلية ضئيلة ليس لها من الغاية سوى تكبير هذه الفقاعة وبذلك لم تعد مشكلات معنى العمل والإبداع والحياة تطرح للبحث. إن معنى الكلمات نفسه قد تشوّه فنستمر في أن نطلق كلمة ''تقدما على انحراف أعمى يؤدي إلى تدمير الإنسان والطبيعة ونطلق كلمة ''ديمقراطية'' على أشنع قطيعة عرفها بين من يملكون ومن لا يملكون ونطلق كلمة ''حرية'' على نظام يسمح بذريعة التبادل وحرية السوق لأولئك الأكثر قوة أن يفرضوا الديكتاتورية عديمة الإنسانية تلك التي تسمح بابتلاع الضعفاء ونطلق كلمة ''عولمة'' لا على حركة تؤدي إلى وحدة متآلفة الأنغام للعالم عن طريف اشتراك كل الثقافات ولكن بالعكس على انقسام يتنامى بين الشمال والجنوب نابع من وحدة امبريالية وطبقية.. ونطلق كلمة ''تنمية'' على نمو اقتصادي بلا غاية ينتج بإيقاع متسارع أي شيء سواء كان مفيدا أو غير مفيد مؤذيا أو حتى مميتا كالأسلحة وليس تنمية الإمكانيات البشرية الخلاقة''.
وفي معرض تحليله ونقده للنظام العالمي الذي يفتقد تماما لأي مشروعية أخلاقية ويتجه في اتجاه واحد لا غير حسب ''روجيه غارودي'' هو حماية السوق الأمريكية وفتح أسواق العالم كلها أمامها.. خالقة بذلك مجالا مشوها مكونا من بعض مئات المختارين ومليارات المستعبدين وبين الاثنين كتلة بلا قوام من أولئك المحكوم عليهم بعمل يفتقر إلى المعنى كي يحصلوا عبر زيادة كمية الاستهلاك على سعادة السوبر ماركت كبديل لحياة حقيقية، حياة منذ الآن فصاعدا بلا هدف''.
أمام هذه الأزمة الأخلاقية العميقة التي ترتبت عن توجهات العولمة والأمركة والصهيونية العالمية، وعن الممارسات اللاأخلاقية من قبل الأقوياء ضد المقهورين في العالم، يكشف ''غارودي'' عن منفذ النجدة ومخرج الطوارئ وسبيل تخطي الأزمة، وهو ''إعادة تأسيس النظم السياسية والتعليمية والاقتصادية والدولية لتكون في مصلحة الإنسان كإنسان بصرف النظر عن لونه أو ثقافته المحلية أو دينه الخاص أو مقدار ثرائه أو انتمائه العرقي. وبالطبع فهي رؤية يوتوبية جديدة لعالم يمكن أن يولد غدا أو بعد قرن أو بعد قرون، لكن السؤال الذي ألح على طوال قراءتي للكتاب الذي هو موجه بالأساس للإنسان الغربي: أيمكن أن يثق ''غارودي'' في أن هذا الإنسان الغربي الذي قاد ولا يزال يقود العالم إلى المزيد من الدمار والظلم هو الذي يقود هذا التحول اليوتوبي''.
*يفرض السؤال -الذي طرحه المفكر علي حرب سابقا-نفسه وغيره من الأسئلةفي العالم العربي الراهن بعد الثورات التي شهدها ويشهدها، وأمامالعولمة المضادةللثورات الشعبية وأمام التدخلات الأجنبية، هل يمكن لمن صنع الاستبداد والتبعية والعمالة والخيانة والتنكر لقيم الوطنوالأمة والإنسانية العليا أن يقود في أمان واطمئنان الثورة نحو النجاح وفي اتجاه أهدافها المنصبة على التغيير وقلب الأوضاعصوب الحرية والديمقراطية والعدالة والأمن والاستقرار والرفاه المادي والحياة الكريمة للجميع؟، وما الذي يضمن بأن الثورات العربية الراهنة في جو العولمة والعولمة المضادة للثورات الجارية ستنتج قوى استبدادية وأنظمة شمولية تُفقد الثورة تماما كل قيم وأهداف الثورة بالمعنى المعهود؟، وهل يمكن للقوى الثورية في العالم العربي الراهن أن تثق في القوى والأنظمة المُثار عليها، وأن تثق في القوى الأجنبية وفي العولمة بأنها تساعد الثورة لعنفوانها أو لجمال معانيها وقيمها وأهدافها أو لوجه الله لا غير؟.
للموضوع إحالات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.