رئيس الجمهورية يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    السفير بن جامع بمجلس الأمن: مجموعة A3+ تعرب عن "انشغالها" إزاء الوضعية السائدة في سوريا    شهداء وجرحى مع استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزة لليوم ال 202 على التوالي    محروقات : سوناطراك توقع مذكرة تعاون مع الشركة العمانية أوكيو للاستكشاف والانتاج    انطلاق الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر للرياضات    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: فيلم "بنك الأهداف" يفتتح العروض السينمائية لبرنامج "تحيا فلسطين"    ورقلة /شهر التراث : إبراز أهمية تثمين التراث المعماري لكل من القصر العتيق ومدينة سدراتة الأثرية    إستفادة جميع ولايات الوطن من خمسة هياكل صحية على الأقل منذ سنة 2021    السيد دربال يتباحث مع نظيره التونسي فرص تعزيز التعاون والشراكة    الشمول المالي: الجزائر حققت "نتائج مشجعة" في مجال الخدمات المالية والتغطية البنكية    "الأمير عبد القادر...العالم العارف" موضوع ملتقى وطني    وزير النقل يؤكد على وجود برنامج شامل لعصرنة وتطوير شبكات السكك الحديدية    السيد بوغالي يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    حج 2024: آخر أجل لاستصدار التأشيرات سيكون في 29 أبريل الجاري    حلم "النهائي" يتبخر: السنافر تحت الصدمة    رئيس أمل سكيكدة لكرة اليد عليوط للنصر: حققنا الهدف وسنواجه الزمالك بنية الفوز    رابطة قسنطينة: «لوناب» و «الصاص» بنفس الريتم    "الكاف" ينحاز لنهضة بركان ويعلن خسارة اتحاد العاصمة على البساط    خلال اليوم الثاني من زيارته للناحية العسكرية الثالثة: الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي    شلغوم العيد بميلة: حجز 635 كلغ من اللحوم الفاسدة وتوقيف 7 أشخاص    ميلة: عمليتان لدعم تزويد بوفوح وأولاد بوحامة بالمياه    تجديد 209 كلم من شبكة المياه بالأحياء    قالمة.. إصابة 7 أشخاص في حادث مرور بقلعة بوصبع    بقيمة تتجاوز أكثر من 3,5 مليار دولار : اتفاقية جزائرية قطرية لإنجاز مشروع لإنتاج الحليب واللحوم بالجنوب    رئيس الجمهورية يترأس مراسم تقديم أوراق اعتماد أربعة سفراء جدد    نحو إنشاء بوابة إلكترونية لقطاع النقل: الحكومة تدرس تمويل اقتناء السكنات في الجنوب والهضاب    رئيسة مؤسسة عبد الكريم دالي وهيبة دالي للنصر: الملتقى الدولي الأول للشيخ رد على محاولات سرقة موروثنا الثقافي    قراءة حداثية للقرآن وتكييف زماني للتفاسير: هكذا وظفت جمعية العلماء التعليم المسجدي لتهذيب المجتمع    السفير الفلسطيني بعد استقباله من طرف رئيس الجمهورية: فلسطين ستنال عضويتها الكاملة في الأمم المتحدة بفضل الجزائر    معرض "ويب إكسبو" : تطوير تطبيق للتواصل اجتماعي ومنصات للتجارة الإلكترونية    تسخير 12 طائرة تحسبا لمكافحة الحرائق    بطولة وطنية لنصف الماراطون    مشروع جزائري قطري ضخم لإنتاج الحليب المجفف    القيسي يثمّن موقف الجزائر تجاه القضية الفلسطينية    ش.بلوزداد يتجاوز إ.الجزائر بركلات الترجيح ويرافق م.الجزائر إلى النهائي    هزة أرضية بقوة 3.3 بولاية تيزي وزو    تمرين تكتيكي بالرمايات الحقيقية.. احترافية ودقة عالية    العدالة الإسبانية تعيد فتح تحقيقاتها بعد الحصول على وثائق من فرنسا    إجراءات استباقية لإنجاح موسم اصطياف 2024    عائلة زروال بسدراتة تطالب بالتحقيق ومحاسبة المتسبب    معركة البقاء تحتدم ومواجهة صعبة للرائد    اتحادية ألعاب القوى تضبط سفريات المتأهلين نحو الخارج    إنجاز ملجأ لخياطة وتركيب شباك الصيادين    ارتفاع رأسمال بورصة الجزائر إلى حدود 4 مليار دولار    جعل المسرح الجامعي أداة لصناعة الثقافة    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    "المتهم" أحسن عرض متكامل    دعوة لدعم الجهود الرسمية في إقراء "الصحيح"    جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس الأمة    الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين الدوليين إلى تمويل "الأونروا"    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقاصد سورة الحِجْر
نشر في الجزائر نيوز يوم 08 - 01 - 2013

اسم السورة (سورة الحِجْر) مكية بالإجماع، وآياتها تسع وتسعون آية على عدد الأسماء الحسنى. وليس لها غير هذا الاسم فيما نعلم. و(الحجر) بتثليث الحاء: المنع. و(الحِجْرُ) و(الحُجْرُ): لغتانِ في معنى (الحرام)، ولذا كانت العرب تحتمي من بأس بعضها في الأشهر الحُرُم.
قال الشنقيطي: “والحجر كل مادته تدور على الإحكام والقوة، ف (الحَجَر) لقوته. و(الحُجرة) لإحكام ما فيها. والعقل سمي (حِجراً) بكسر الحاء، لأنه يحجر صاحبه عما لا يليق. و(المحجور عليه)، لمنعه من تصرفه، وإحكام أمره".
سبب التسمية: اختير اسم السورة من الآية الثمانين، في قوله تعالى: “ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين"، فقد ذكرت الآية قوم صالح بأصحاب الحِجْر، وتناولت السورة الحديث عنهم في خمس آيات، وهي السورة الوحيدة في القرآن التي ذكرتهم بهذه التسمية. و(أصحاب الحِجر) هي منازل ثمود ونبيهم صالح عليه السلام، ومساكنهم موجودة إلى اليوم تحت مسمى مدائن صالح في الأردن.
ما ورد فيها: روى البزار عن أبي هريرة أبي سعيد رضي الله عنهما: قالا: جاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجلا يقرأ سورة الحجر وسورة الكهف، فسكت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم). وروى الطبراني عن أبي موسى رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتمع أهل النار في النار، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار للمسلمين، ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى. قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم، وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأُخذنا بها. فسمع الله ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأُخرجوا. فلما رأى ذلك من بقي من الكفار في النار، قالوا: يا ليتنا كنا مسلمين، فنخرج كما خرجوا). قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين * ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين" (الحجر: 1-2). وروى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “ما هلك قوم لوط إلا في الأذان، ولا تقوم القيامة إلا في الأذان". قال الطبري: معناه عندي: “في وقت أذان الفجر، وهو وقت الاستغفار والدعاء".
مقاصد السورة: لم تشذ سورة الحِجر في سياقها ومضمونها عن السور المكية السابقة لها، فإن السور المكية تشتمل على جمل من أصول الدين كالتوحيد والمعاد، وإنذار المشركين والعاصين والظالمين، إضافة إلى ما يحمله تاريخ الأقوام السالفة من دروس العبرة والموعظة. ويمكننا تلخيص المقاصد التي تضمنتها هذه السورة، ودارت حولها وفق التالي: * أن طبيعة هذا الكتاب الذي يكذب به المشركون والجاحدون أنه كتاب مبين، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فمن أخذ بما فيه فاز ونجا، ومن أعرض عنه فقد ضل وغوى. * الحث على انتهاز فرصة الالتحاق بقافلة الإسلام والنجاة قبل أن تضيع، ويأتي اليوم الذي يود فيه المعرضون لو كانوا مسلمين، فما ينفعهم يومئذ ذلك، ولن يغني عنهم من عذاب الله من شيء. * تصور السورة الأمل الملهي بصورة إنسانية حية، فالأمل البراق ما يزال يخايل لهذا الإنسان، وهو يجري وراءه، وينشغل به، ويغتر فيه، حتى يجاوز المنطقة المأمونة، وحتى يغفل عن الله، وعن القدر، وعن الأجل، وحتى ينسى أن هنالك واجبا، وأن هنالك محظورا، بل حتى لينسى أن هناك إلها، وأن هناك موتاً، وأن هناك نشوراً. * بينت السورة أن سنن الله ماضية لا تتخلف، وأن هلاك الأمم مرهون بأجلها الذي قدره الله لها، ومترتب على سلوكها الذي تنفذ به سنة الله ومشيئته: “وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم"، وذلك الكتاب المعلوم والأجل المقسوم، يمنحه الله للقرى والأمم لتعمل، وعلى حسب العمل يكون المصير. فإذا هي آمنت وأحسنت وأصلحت وعدلت، مد الله في أجلها، حتى تنحرف عن هذه الأسس كلها، ولا تبقى فيها بقية من خير يرجى، عندئذ تبلغ أجلها، وينتهي وجودها، إما نهائيا بالهلاك والدثور، وإما وقتيا بالضعف والفتور. * أن القرآن الكريم محفوظ بحفظ الله له، ونصوصه باقية كما أنزلها الله، وهي حجة على كل محرف وكل مؤول، وحجة باقية كذلك على ربانية هذا الكتاب المحفوظ. * بينت السورة نموذج الإنسان حين تفسد فطرته، وتستغلق بصيرته، وتتعطل فيه أجهزة الاستقبال والتلقي، وينقطع عن الوجود الحي من حوله، وعن إيقاعاته وإيحاءاته، قال تعالى: “ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون" (الحجر: 14-15). * أن الجمال غاية مقصودة في خلق هذا الكون، وهو الذي ينتظم مظاهر الكون جميعا، وينشأ من تناسقها جميعا. وأن هذا الجمال الباهر فيها محفوظ، لا يناله دنس ولا رجس، ولا يعبث فيه شيطان، إلا طورد وحيل بينه وبين ما يريد. * أن أرزاق العباد -ككل شيء- مقدرة في علم الله، تابعة لأمره ومشيئته، يصرفها حيث يشاء وكما يريد، في الوقت الذي يريد، حسب سنته التي ارتضاها، وأجراها في الناس والأرزاق، “وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين * وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم" (الحجر: 20-21) فما من مخلوق يقدر على شيء، أو يملك شيئا، إنما خزائن كل شيء عند الله. ينزله على الخلق “بقدر معلوم"، فليس من شيء ينزل جزافا، وليس من شيء يتم اعتباطا. * أن الحياة والموت بيد الله وحده، وأن الله هو الوارث بعد الحياة. وأنه سبحانه يعلم من كتب عليهم أن يَستقدِموا فيتوفوا، ومن كتب عليهم أن يؤجلوا فيستأخروا في الوفاة. وأنه هو الذي يحشرهم في النهاية، وإليه المصير. * أن أصل الإنسان وأصل الحياة كلها من طين هذه الأرض، ومن عناصره الرئيسة التي تتمثل بذاتها في تركيب الإنسان الجسدي، وتركيب الأحياء أجمعين. وأن هنالك أطواراً بين الطين والإنسان. * أن المعركة الخالدة والمصيرية بين الشيطان والإنسان في هذه الأرض، تنطلق ابتداء من استدراج الشيطان للإنسان بعيداً عن منهج الله، والتزيين له فيما عداه، استدراجه إلى الخروج من الدينونة له في كل ما شرع من عقيدة وتصور، وشعيرة ونسك، وشريعة ونظام. * أن الذين يدينون لله وحده، ويخلصون له في عبادتهم، ليس للشيطان عليهم من سبيل، لأنهم يعلقون أبصارهم بالله، ويدركون ناموسه بفطرتهم الواصلة إلى الله. وإنما سبيل الشيطان على الغاوين والضالين عن منهج الله وطريقه القويم. * أن المتقين هم الذين يراقبون الله في جميع تصرفاتهم وحركاتهم وسكناتهم، ويقون أنفسهم وأهليهم عذابه وأسبابه، وهؤلاء في جنات النعيم، لا يمسهم فيها نصب، ولا يمسهم فيها لغوب، ولا يخافون منها خروجاً، جزاء ما خافوا في الأرض واتقوا، فاستحقوا المقام المطمئن الآمن في جوار الله الكريم. * قدمت السورة المباركة نماذج من رحمة الله وعذابه، ممثلة في قصص إبراهيم عليه السلام وبشارته على الكبر بغلام عليم، ولوط ونجاته وأهله إلا امرأته من القوم الظالمين، وأصحاب الأيكة، وأصحاب الحجر، وما حل بهم من عذاب أليم. * أكدت السورة على طبيعة خلق السماوات والأرض وما بينهما. وطبيعة الساعة الآتية لا ريب فيها. وطبيعة الدعوة التي يحملها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد حملها الرسل قبله، وأن ذلك الحق متلبس بالخلق، صادر عن أن الله هو الخالق لهذا الوجود: “إن ربك هو الخلاق العليم" (الحجر: 86). فسنة الله ماضية في طريقها لا تتخلف. والحق الأكبر من ورائها متلبس بالدعوة، وبالساعة، وبخلق السماوات والأرض، وبكل ما في الوجود الصادر عن الخلاق العليم. * بينت السورة أن الحق عميق في تصميم هذا الوجود، عميق في تكوينه، عميق في تدبيره، عميق في مصيره، وما فيه ومن فيه. فكل نتيجة تتم وفق تلك النواميس الثابتة العادلة، وكل تغيير يقع في السماوات والأرض وما بينهما يتم بالحق وللحق. * أن القرآن الكريم من عناصر ذلك الحق، وهو يكشف سنن الخالق، ويوجه القلوب إليها، ويكشف آياته في الأنفس والآفاق، ويستجيش القلوب لإدراكها، ويكشف أسباب الهدى والضلال، ومصير الحق والباطل، والخير والشر، والصلاح والفساد، فهو من مادة ذلك الحق، ومن وسائل كشفه وتبيانه، وهو أصيل أصالة ذلك الحق الذي خلقت به السماوات والأرض، ثابت ثبوت نواميس الوجود، مرتبط بتلك النواميس. * دعت السورة رسول هذه الأمة صلى الله عليه وسلم ألا يحفل بذلك المتاع الذي آتاه الله لبعض الناس رجالاً ونساء، امتحاناً وابتلاء، وألا يلقي إليه نظرة اهتمام، أو نظرة استجمال، أو نظرة تمنٍ، فهو شيء زائل، وزخرف باطل، وأن ما معه من المثاني والقرآن العظيم هو الحق الباقي. * خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمضي في طريقه، يجهر بما أمره الله أن يبلغه للناس، لا يقعده عن الجهر بدعوته شرك مشرك، فسوف يعلم المشركون عاقبة أمرهم، ولا يصده عن المضي إلى ما هو بسبيله استهزاء مستهزئ، فقد كفاه الله شر المستهزئين. وهذا الذي يجب على أصحاب الدعوة الإسلامية، أن يصدعوا بحقيقة هذه الدعوة، لا يخفوا منها شيئا، وأن يصروا عليها مهما لاقوا من بطش الطواغيت، وتململ الجماهير، “والله متم نوره ولو كره الكافرون" (الصف: 8). * خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسبح بحمد ربه ويعبده، ويلوذ بالتسبيح والحمد والعبادة من سوء ما يسمع من قومه، ولا يفتر عن التسبيح بحمد ربه طوال الحياة، حتى يأتيه الأجل، فيمضي إلى جوار ربه الكريم آمنا مطمئنا.
توجه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثلاثة آلاف من المسلمين إلى بني قريظة، وهم طائفة من اليهود كغيرهم ممن نقضوا العهود، وتآمروا مع الأحزاب، غير مكترثين بما اتفقوا عليه مع المسلمين .. فالغدر ونقض العهود خُلق نشأ عليه اليهود، فلا يستطيعون فراقه.. ولذلك فرض النبي صلى الله عليه وسلم عليهم الحصار، فقال لهم زعيمهم كعب بن أسد: “والله، لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم".. ثم عرض عليهم ثلاث خصال: إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد صلى الله عليه وسلم في دينه، فيأمنوا على دمائهم وأموالهم وأبنائهم ونسائهم، وإما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم بأيديهم، ويخرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالسيوف يقاتلونه حتى يظفروا بهم أو يُقتلوا عن آخرهم، وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم السبت، لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه.. فأبوا أن يجيبوه إلى واحدة من هذه الخصال الثلاث..
لم يبق لبني قريظة بعد رد هذه الاقتراحات من زعيمهم، إلا أن يستسلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم أرادوا أن يتكلموا مع أحد من المسلمين، لعلهم يعرفون ماذا سيحل بهم إذا استسلموا.. - فبعثوا إليه صلى الله عليه وسلم أن أرسِل إلينا أبا لُبَابة نستشيره، وكان حليفا لهم، وكانت أمواله وولده في منطقتهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجَهَشَ النساء والصبيان يبكون في وجهه، فَرَقَّ لهم، وقالوا: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟، قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، يقول: إنه الذبح (أي ستذبحون)، ثم علم من فوره أنه خان الله ورسوله فمضي على وجهه، ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المسجد النبوي بالمدينة، فربط نفسه بسارية (أسطوانة) المسجد، وحلف ألا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبدا. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وكان قد استبطأه، قال: “أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه".
وبرغم ما أشار إليه أبو لبابة لبني قريظة فقد قرروا النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد كان باستطاعتهم أن يتحملوا الحصار الطويل، لتوفر المواد الغذائية والمياه والآبار ومناعة الحصون، ولأن المسلمين كانوا يقاسون البرد والجوع الشديد وهم في العراء، مع شدة التعب الذي اعتراهم لمواصلة الأعمال الحربية من قبل بداية معركة الأحزاب، إلا أن الله قد قذف في قلوبهم الرعب، وأخذت معنوياتهم تنهار، حتى بادروا إلى النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم- .. فحَّكَّم فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه وهو من كبار الخزرج الذي كانوا حلفاء لبني قريظة، فأصدر حكمه بأن يقتل الرجال، وتسبى النساء، وتقسم الأموال، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : “لقد حكمت فيهم بحكم الله" (البخاري)..
قال ابن هشام في سيرته والبيهقي في سننه: “.. أقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال تأتيه امرأته في كل وقت صلاة فتحله للصلاة ثم يعود فيرتبط بالجذع". وقد قال أبو لبابة: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليَّ مما صنعت.. قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السَحَر وهو يضحك، فقلت: مم تضحك يا رسول الله أضحك الله سنك ؟، قال: “تيب على أبي لبابة، قلت: أفلا أبشره يا رسول الله؟ قال: بلى إن شئت"، فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، فقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك.. قالت: فثار الناس ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده.. فلما مر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه..
كان أبو لبابة يستطيع أن يخفي ما فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يطلع عليه أحد من المسلمين، وأن يستكتم اليهود أمره، ولكنه تذكر رقابة الله عليه، وعلمه بما يسر ويعلن، وتذكر حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه، وهو الذي ائتمنه على ذلك السر، ففزع لهذه الزلة فزعا عظيما، وأقر بذنبه واعترف به، وبادر إلى الصدق والتوبة فكانت نجاته، إنها صورة تطبيقية لقوله تعالى: “إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً" (النساء: 17)..
وقد أنزل الله تعالى في أبي لبابة رضي الله عنه قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" (الأنفال: 27). قال ابن كثير: “.. قال عبد الله بن أبي قتادة والزهري: أنزلت في أبي لُبابة بن عبد المنذر، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قُرَيْظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم .." .. ونزل في توبته قوله تعالى: “وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (التوبة: 102).. قال ابن كثير: “.. وهذه الآية - وإن كانت نزلت في أناس معينين - إلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلصين..، وقد قال مجاهد: إنها نزلت في أبي لُبَابة لما قال لبني قريظة: إنه الذبح، وأشار بيده إلى حلقه..".
وفي قصة أبي لبابة ظهر حب الصحابة رضوان الله عليهم لبعضهم، وعِظم مقام التوبة والفرح بها، إذ التوبة تعني عودة العبد إلى الدخول تحت رضوان الله تعالى، وهو أعلى هدف ينشده المسلم في حياته.. ومن ثم فقد فرح النبي - صلى الله عليه وسلم والصحابة بتوبة الله على أبي لبابة، وبادرت أم المؤمنين أم سلمة بتهنئته، فبشرته بقبول الله توبته..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.