إنعقاد الدورة الأولى للمجلس الإستشاري لمعرض التجارة بين البلدان الإفريقية بالجزائر    في 49 مؤسسة تربوية: توسيع دائرة تدريس اللغة الأمازيغية بالبرج    بئر العاتر بتبسة: مشاريع لإنجاز ثانوية ومتوسطة ومجمّعات مدرسية    عملية الجني انطلقت جنوب ميلة: توقع مردود يفوق مليون و 630 ألف قنطار من الثوم    يُعتبر الأكبر وطنيا وتعليمات بالإسراع في الإنجاز: مصنع كربونات الكالسيوم بقسنطينة يبدأ الإنتاج بعد أسابيع    توقيف لص والقبض على عصابة اعتداء: وضع حد لعصابة سرقة المواشي بباتنة    عين عبيد: مطالب بالتهيئة والربط بالشبكات بقرية زهانة    انطلاق فعاليات أسبوع الوقاية: جمع 3790 كيس دم خلال شهر رمضان    وهران.. أكثر من 200 عارض منتظرون في الطبعة 26 للصالون الدولي للصحة    بعثة الجزائر لدى الأمم المتحدة تدعو إلى ضبط النفس وتجنب التصعيد    بعد العروض الإنجليزية..سانت جيلواز يحدد سعر التخلي عن عمورة    الجزائر – روسيا.. احترام وتنسيق سياسي كبير    القيادة الروسية ترغب في تطوير الشراكة الاستراتيجية مع الجزائر    البنك الإفريقي يشيد بإصلاحات الجزائر في عهد الرئيس تبون    إصلاحات عميقة في المدرسة والجامعة.. ورد اعتبار المعلم والأستاذ    تتضمن حوالي ألف كتاب في مختلف مجالات العلم.. المكتبة الشخصية للشيخ عبد الحميد بن باديس ستسلم لجامع الجزائر    معرض التجارة البينية الإفريقية بالجزائر.. تكامل واندماج اقتصادي    باتنة: توقيف شخص لقيامه بسرقة محل تجاري    تحقيقات ميدانية لمراقبة هيكلة أسعار المنتجات المستوردة    امتحان التّربية البدنية للمترشّحين الأحرار من 8 إلى 20 ماي    حجز 29 طنا من الكيف و10 ملايين قرص مهلوس    انطلاق عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان    انطلاق عملية حجز التّذاكر للحجّاج المسافرين    20 مليون يورو لمن يريد عمورة    تراجع مقلق في مستوى بكرار في الدوري الأمريكي    جوان حجام يتحدث عن علاقته مع بيتكوفيتش    عصرنة خدمات "بريد الجزائر" لرفع مستوى الخدمة العمومية    رفع الحصانة عن 7 نواب بالبرلمان    توثيق جريمة جديدة للاحتلال في مجمع "الشفاء" الطبي    انضمام الجزائر لمجلس الأمن قيمة مضافة لإحلال السلم والاستقرار    الصحراويون يعلقون آمالا كبيرة على دفع مسار التسوية الأممية    جهود لإبراز المقومات السياحية لعاصمة الصخرة السوداء    وفاة قرابة 3 آلاف جزائري في سنة واحدة    المستوطنون يصعّدون عربدتهم والفلسطينيون يتصدّون    لا سلام في الشرق الأوسط دون إقامة دولة فلسطين المستقلة    أوامر وتنبيهات إلهية تدلك على النجاة    وهران جاهزة لاحتضان البطولة الإفريقية للأندية الفائزة بالكؤوس    " العميد " يحجز مكانه في نصف النّهائي    ماذا قدم عبدالصمد بوناصر في هذا الموسم ؟ من الرابطة المحترفة الأولى .. موهبة جديدة لترميم دفاعات "محاربي الصحراء"    فرصة للاحتفاء بالموسيقى الكلاسيكية الجزائرية الأندلسية    المعتصم بالله واثق ميدني.. الطفل الذي أزهر عالم الأدب    المهرجان الوطني للمسرح الجامعي.. غدا    قسنطينة تستعيد أمجاد الإنتاج التلفزيوني الوطني    ضبط 17كيسا من الفحم المهرب    إطلاق مسابقة حول التكنولوجيا الخضراء بجامعة قسنطينة(3)    استحضار الذكرى 26 لرحيل العقيد علي منجلي    إبراز المصطلح بين جهود القدماء والمحدثين    روسيا تحدوها إرادة كبيرة في تطوير شراكتها الاستراتيجية مع الجزائر    عشر بشارات لأهل المساجد بعد انتهاء رمضان    تدشين مركز الإذاعة بالمنيعة    البطولة الجهوية لرابطة قسنطينة : صراع «الصعود» بسطيف و«النجاة» في جيجل    ستتم عبر المنصة الرقمية وتشمل 25 ولاية: نحو عرض 400 وعاء عقاري على حاملي المشاريع الاستثمارية    شهداء وجرحى في قصف الإحتلال الصهيوني مخيم النصيرات وسط قطاع غزة    التوظيف واقتناء الأدوية والعتاد الطبي تحت مجهر الوزارة    تمكين الحجاج من السفر مع بعض في نفس الرحلة    وصايا للاستمرار في الطّاعة والعبادة بعد شهر الصّيام    مع تجسيد ثمرة دروس رمضان في سلوكهم: المسلمون مطالبون بالمحافظة على أخلاقيات الصيام    قوجيل يهنئ الشعب الجزائري بمناسبة عيد الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أيام تونسية “تونس تبحث عن الحلم الذي وقع ولم ينكسر"
نشر في الجزائر نيوز يوم 17 - 02 - 2013

تونس ولاّدة أبو القاسم الشابي والطاهر حداد ومحمد الطاهر بن عاشور وهشام جعيط وغيرهم العشرات من المصلحين والمجددين الذين أثروا في الحياة الثقافية العربية، وخاصة المغاربية. لقد حصل ذلك بتفاوت في التأثير بين واحد وآخر ومن مرحلة إلى أخرى. فتونس الولادة ها هي تعدنا بمخاضات جديدة وبالتالي بولادات منها ولادات تتجدد وتتصالح مع المستقبل.
تدخل إلى العاصمة تونس من مطار قرطاج. العاصمة جميلة كجمال فتياتها، ورائحتها كذلك. شوارعها الرئيسية نظيفة، لم نشاهد متسولين في شوارعها، بل شاهدنا في مقاهيها مئات من الرواد المثقفين الشعراء والقصاصين والروائيين وغيرهم من الأدباء وبعضهم من المبدعين الذين يتركون بصماتهم الفكرية والأدبية.. تشعر وأنت تدخل إلى أحد المقاهي بأن جل الأعمال الأدبية من شعر وقصة ورواية تكتب في هذه المقاهي، قال أحدهم، بأن عدد الشعراء الذين تلتقيهم في هذه المقاهي يقل قليلا عن عدد الكراسي فيها. أبنية تونس جميلة، خاصة الأبنية التقليدية الريفية.
- مشاهدات وانطباعات
هي تونس، مدينة للمستقبل.. لم نر محجبات أو منقبات أو أشخاصا ملتحين.. تونس مفتوحة على الطبيعة، شوارعها واسعة، مزروعة بالأشجار المعمّرة. تشطرها خطوط الترمواي من هنا وهناك، أناسها منفتحين على الحياة، مسالمين وغير عدوانيين، متسامحين.. حين يفتح الحديث عن الثورة التونسية يقولون لك بأنه لا عودة إلى الوراء.. التجربة البورقيبية حاضرة بقوة، الكثير من المثقفين يعودون إليها في أحاديثهم الطويلة. بورقيبة أسس لليبرالية منفتحة، محاورة ولتعليم استفادت منه جل الشرائح المجتمعية. لقد عرف التوانسة خلال حكمه مرحلة من التطور والرقي. أما مرحلة بن علي فهي استثنائية، وستزول مسبباتها. أما الحديث عن حركة النهضة، فحديث عن واقع افتراضي أكثر مما هو حديث عن حاضر ومستقبل وأهل تونس كلهم مسلمون لله، ولا من يزايد على الآخر.. إنها مرحلة تجربة واختبار وقد تكون مؤقتة كما يقولون.. الحاضر الغائب في تونس، والأكثر احتراما هو قائد الجيش بن عمار، الذي انحاز مباشرة إلى صفوف الشعب.. وإن كان من انتخابات وقرر أن يترشح، فأغلبية الشعب يؤيدونه.. هذ ما تسمعه من القسم الغالب ممن تلتقيهم.
في تونس، سائقو التاكسي يعاملونك باحترام، وقد لا يتعدى ما تدفعه إلى سائق التاكسي من مطار قرطاج إلى العاصمة أو بالعكس الثلاث دولارات. المناقشات الدائرة هنا وهناك تتفاوت اهتمامات أصحابها، وإن كان الشأن الداخلي الجاذب الأكبر. أن تتحدث إلى أية فتاة، فهذا شيء طبيعي، كذلك أن تتغزّل بها.. تونس ألوان الفصول فيها تبشر بالخصب، وربيعها كذلك.
شوارعها غير الرئيسية ليست كما الشوارع الرئيسية، قيل لي إن هذا الأمر طارئ وآني. خطوط المواصلات مفتوحة على شرايين الجسد المتعدد الجهات، براً وجواً، بالقطارات السريعة والباصات كذلك بسيارات الأجرة، وقد تكون الحمير وسيلة نقل موجودة في بعض القرى الريفية.
الحوارات مع النخب التونسية مفتوحة ليس من خطوط حمر، الشأن الداخلي في الصميم، وحزب النهضة المطارد أيام حكم بن علي، موجود على صعيد النخبة والإعلام، كذلك السلفيين، إذ لن ترى نقاشات نخبوية تفتح لك صفحات الماضي أو الصراعات القديمة، أو تحاول أدلجة الواقع بسياسات من فوق واقعية. محاولات النهضة والسلفيين تصطدم بواقع مغاير لأيديولوجيتهما.. كيف يمكن المصالحة بين هذه النخب والواقع هذا ما يمكن انتظاره، والانتظار قد يطول؟ الغلبة في الشارع للحضور النسائي، حيث ترى ظلال المرأة في كل المشهد التونسي، الحوار بين مكونات الجماعة السياسية خاصة الإسلامية منها لا يمكن أن يتجاهل هذا الحضور.
مؤشرات بوصلة الداخل السياسة لا يمكن رصدها أو ملامستها على حقيقتها. ومن يراهنون على خلق مؤثرات في الواقع، مدفوعة الثمن، سينتظرون طويلا وقد يكون انتظارهم مكلف ودون نتيجة.
تونس موصولة بالشرق، خصوصياتها مغاربية، ولكن حضور الهموم السياسة الشرقية خاصة فلسطين، والعراق وما يحصل في سوريا والمقاومة في صلب اهتمامات النخب التونسية. ورغم تحفظك كشرقي من فتح نقاشات حول هكذا موضوعات، إلا أنك تجد نفسك أمام سيل من الأسئلة حول مسائل لم تكن تنتظرها.
* مؤتمر يستحضر أبو القاسم الشابي
في المؤتمر الذي دعت إليه جمعية مهرجان الشعر العربي الحديث بالجريد - الدورة (32)، الذي عقد في توزو - المدينة التي ولد فيها الشابي. شارك فيه حوالي الستين أديبا، فبالإضافة إلى الأدباء التونسيين حضرت نخب من المغرب والجزائر وليبيا ومصر وفلسطين والعراق ولبنان.
غالبية الحضور من الشعراء، الذي استحضروا فيما قدموه سيرة الشابي والتعريف به. لقد قدم كل من د. علي خفيف من جامعة عنابة(الجزائر)، وفرحان صالح من بيروت، مداخلتين تناولا فيهما سيرة الشابي الأدبية فعلي خفيف اعتبر بأن الشابي هو ناقد كما هو شاعر، وكونه ناقداً لا يقلل مما قدمه من أعمال شعرية، وإن كانت حياته القصيرة 1909 - 1935 لم تساعده على استكمال مشروعه في مستوييه النقدي والشعري، فبالإضافة إلى كتبه الشعرية، خاصة ديوانه أناشيد الحياة. فله كتاب تناول فيه شعراء المغرب، كذلك كتاب آخر تناول فيه الخيال الشعري عند العرب بالإضافة إلى خواطر أدبية واجتماعية.
أما فرحان صالح، فأشار إلى أن الشابي الذي حمل هموم وطنه، كان أيضاً يحمل هموم جسده، وبسبب مرضه وتحذير الأطباء له من الزواج فقد تعامل مع موضوع المرأة بحذر شديد، وربما كان زواجه سببا من الأسباب التي أدت إلى موته السريع.. لذا، فإن المتابع لسيرته يرى بأنه تعرّف بما يكفي على والدته، وحينما حاول أن يتعرف على شريكة حياته كان الموت بانتظاره..
لقد استشرف الشابي المستقبل، وكانت الأحداث التي مرت في الثلث الأول من القرن العشرين مرجعية له ولغيره من الأدباء والمفكرين العرب. وفيما بعد فقد كانت بصمات الطاهر حداد في منتصف الثلاثينيات، وبعد وفاة الشابي قد أسست وجذّرت لثقافة معاصرة هي تلك التي سادت في الخمسينيات وفي حقبة بورقيبة الذي كان، كما يرى العديد من المثقفين، عنوان لليبرالية المنفتحة التي لم يستطع الكثير من المعنيين في الشأن السياسي في تونس اليوم تجاهلها أو القفز فوقها، وإن كان هناك من يعود إليها لنقدها والبناء عليها.
كما ذكرنا، لقد شارك في المؤتمر نخبة من الشعراء العرب منهم الشاعر الفلسطيني خالد شوملي والشاعر الأردني الكبير جميل صبيح والشاعر المغربي عبد الله التقي والشاعر خير الدين الشابي والشاعر محمد صالح الفريسي والشاعرة جميلة الشابي وعواطف كريمة وفضيلة مسعى، ومديحة جمال ووفاء عبد الرزاق وسمر الجبوري والأديب عبد السلام الفزازي ومحمد رؤوف بلحسن والشريف محمد الأمين والشابي بلقاسم وهالة فهمي من مصر ولطيفة الشابي وبسمة البوعبيدي والسيدة بصرى وغيرهم.
كما كان لنا لقاء مع الدكتور محمد بدوي، أمين عام اتحاد الكتاب في تونس، وقد تشعر وأنت في بيت الثقافة التونسي باتحاد الكتاب بأنه كخلية نحل، حيث يرتاده المثقفون من العاصمة والولايات التونسية المتعددة.. هذا الاتحاد بشخص رئيسه مثال ونموذج للحياة الثقافية العربية. فيه وعبره ترسم تونس شخصيتها المستقبلية، وللمثقفين دورٌ في خيارات تونس، فهم ذخيرة وحاجة للمستقبل.
لقد كان للشاعر محمد شكري دوره الريادي والفاعل في تنظيم وتحقيق هذا الحلم وبالتالي في إنجاز هذا اللقاء، كما كان للأستاذ محمد الأمين الشريف رئيس جمعية الشعر الحديث، دوراً من تفعيل هذا اللقاء الذي يرغب خاصة من شارك فيه إلى استمراريته وتفعيله.. فالشعراء استفادوا من تجارب بعضهم، فبعض من العائلة الثقافية العربية التقت وتحاورت في توزر - تونس وهذا ما قد تحقق، فشكرا لمنظمي اللقاء وشكرا لتونس.
- تونس بين الإسلام التقليدي
واليسار الشعبي
«من لم ينتخب حزب النهضة فقد ارتكب الكبيرة"، و«من يختار حزب النهضة فقد اختار الإسلام"، و«العلمانية كفر والنهضة تمثل الإسلام".
هذه بعض الشعارات التي قيلت في الانتخابات الأخيرة في تونس، وكانت جزءا من عدة “حزب النهضة" لجذب المنتخبين إليه، وتحريضهم أيضا ضد المناوئين لسياسته.
إن ما تحاول هذه الحركة وغيرها من حركات سفلية، أن تؤسس عليه، هو هذه الثقافة التي تثير الغرائز ولا تحرك العقول، أو أن تغذي لمناخات تؤسس لحوار وليس لصراعات غير مبررة. هذه الشعارات التي لا مبرر لها، كانت النهضة تستغلها ساعية لتوطين ثقافة عدائية مغلقة وتعميمها خصوصا بين الشرائح الفقيرة وشبه الأمية. وتونس مثلها مثل غيرها من أقطار عربية لم تسمح الأنظمة السابقة أو تساهم ببلورة وجه سياسي أو حياة سياسية يمكن البناء عليها.
هذا الوجه الذي يتشكل اليوم، هو ما تحاول هكذا سياسات تشويه ذاكرته. ولكن تونس والتي لا يتجاوز عدد الأمية في مجتمعها خمسة في المئة، تسعى أجيالها الجديدة لمستقبل مختلف، إلى مساواة ترتكز على الكفاءة بدءا وعلى التمييز بين من يعطي ويقدم لبلده عن غيره. هذا هو الامتحان الذي يمكن منه التأسيس لحياة جديدة. أما المنظمات التي تريد أسلمة المجتمع، فالكل مسلمون، ومن يشكك بالآخر هو ذاته يشكك بنفسه ويعمل من دون أن يدري، لوضع عراقيل أمام الارتقاء الاجتماعي الذي يعمل له هذا الشعب العظيم.
إن ما تحاول أن تؤسس عليه هذه الحركات السياسية الإسلامية هو ثقافة شعبية متجلببة بالدين وبخرافات كثيرة وبحقائق معدومة، والتوانسة بمعظم تنوعاتهم الطبقية، اختاروا الإسلام الذي يعتقدون أن العودة إليه عودة لتوطين قيم العصر وليس العودة إلى عصر الاستبداد والظلم السابقين.
إن الإرث السلبي الذي تركه العهد السابق ثقيل وكبير، ولكن ممارسات القوى السياسية التي سيطرت على مقاليد الأمور، تحمل الكثير من اللامبالاة في معالجتها للشأن الاجتماعي.. إذ إن حزب النهضة وتوأمه من الحركات السلفية يهملان هذا الجانب. الذي يهم خاصة الشرائح الشابة والفتية. وهاتان الحركتان لا يطرح أيّ منهما برامج لمواجهة البطالة، وحيث تتجاوز نسبة البطالة 20 في المئة، كما لم يرَ التونسيون في برامج هذه الحركات معالجة للمشكلات التربوية والصحية ورعاية الشيخوخة، في حين أن كلا منهما يفتح يوميا جمعيات خيرية هي ذاتها التي كانت يوما ما السائدة في العصور الوسطى الإقطاعية.
إن من أولويات ما كان على “حركة النهضة" البدء منه والتأسيس عليه، هو عقد اجتماعي منه تتوطد القيم الإنسانية الاجتماعية والثقافية والسياسية التي توصلت إليها المجتمعات الإنسانية. هذا ما يحتاجه ليس المجتمع التونسي فقط، إنما المجتمعات المغاربية العربية التي عليها أن تؤسس لشراكة حياة وفي جميع المجالات.
- حول مدونة الأسرة
شكل قانون الأسرة، أو مدوّنة الأسرة، علامة فارقة في تاريخ تونس الحديث، وبالتالي في تاريخ الدول المغاربية. هذا القانون الذي أسس له الطاهر حداد، في الثلاثينيات من القرن المنصرم، هو ذاته الذي أخذت به التشريعات التونسية، حيث المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، فالقانون هذا يتماثل مع مدونة الأسرة في فرنسا. لقد شكلت هذه المدونة العلامة الفارقة في تاريخ التشريعات العربية، والمدونة ذاتها من تريد الحركات السلفية والإسلامية إعادة النظر فيها. فالمرأة، ومن أجل اللعب على الألفاظ، مكملة للرجل وليست مساوية له، هي ملحق وليست ندا. هذا ما تفتقت به أذهان المشرّعين (النهضويين) المسلمين.. وها هي المرأة التي صارعت من أجل تحقيق قوانين عصرية وأكثر إنسانية والتي تسعى إلى مكاسب أخرى، هي ذاتها مكاسب للمجتمع التونسي، تناضل من أجل تطوير هذه التشريعات، أيضاً للمزيد من المكاسب. في حين، تواجه المنظمات السلفية الحركة النسائية بطرح إلزامية ارتداء الحجاب، وهي دعوة مصطنعة ومشبوهة في مجتمع يسعى إلى عصرنة عاداته وتقاليده، فتونس لا تجد في مجتمعها منقّبات إلا ما ندر، أما انتشار النقاب هذا، فقد بدأ بعد الثورة، وهو مستجلب من بعض دول الخليج، إنها بعض العادات المستهجنة والمغالية في تمسكها بما لم يكن موجوداً سوى في العصور الإسلامية المظلمة.. فالمرأة في تونس، مثلها مثل المرأة في أي قطر عربي، تضع غطاء خفيفا على رأسها، وهناك أغلبية من النساء الذين تخلوا عن ذلك.
إن التركيز على نشر هكذا تقاليد، سيؤدي إلى انتشار ثقافة تنظر إلى المرأة بدونية، وبالتالي سيؤدي ذلك إلى إعادة الاعتبار إلى رواسب ثقافية وقد انتشرت في أسوأ أنواع أنظمة الحكم الاستبدادية، هذه العادات هي ذاتها ليست دخيلة ومشبوهة في خيارات الشعوب العربية، خصوصا خيارات الشعب التونسي، فقط، إنما هي حصان طروادة ضد كل مساواة بين الرجل والمرأة أيضا.
لذا، فإن نزعة التمرد عند المرأة العربية عامة، والتونسية خصوصا، هي نزعة عالية جدا، والمرأة ذاتها تشكل في تونس النواة الأساسية للمعارضة الحقيقية في الحياة السياسية.
في تونس، محاولة لإعادة النظر في المكتسبات التي حققها الشعب التونسي من مكاسب حققتها الحركة النسائية، وأخرى حققتها الحركة العمالية، هذه الحركة التي تخوض صراعا شرسا من أجل تحقيق عقد اجتماعي يحفظ حقوقها، وتدشن منه ما يمكن أن يخدم تطلعاتها المستقبلية.
إن ظاهرة التدين وفق معناها المتعالي والمغالي، ظاهرة خجولة، ونحن هنا نتحدث عن سلوكيات مجتمع، وليس عن ممارسات أفراد، فتلك السلوكيات المنهجية ليست أصيلة، كما أنه ليس من انقسام مجتمعي، سوى هذا المفتعل الذي تأتي به مثل هذه الأفكار التي تبثها هكذا حركات تدعي الإسلام. لكن المتابع للحوارات اليومية بين مكونات المجتمع، يلحظ هذا التسامح الذي هو عليه هذا الشعب التونسي، إذ ليس من عدوانية بالمطلق في الحوارات الجارية بين مكوناته، تلك الحوارات التي تبدأ أحيانا بالشارع، ولكنها تنتقل كي تأخذ أشكالا من الحوارات المسؤولة والإيجابية ضمن مؤسسات المجتمع. هذه المؤسسات التي لا بد أن تحتضن كل ما يمكن أن يحمي مستقبل فقراء تونس، وبالتالي مستقبل الشعب هناك.
يرى المتابع الجوّاني للحركة التحديثية التونسية، بأن تلك الحركة تملك أدوات صناعة القرار، لكنها لا تملك القرار، هذا القرار الذي تحاول بعض القوى الإبقاء على التقليدي منه، وإبعاد كل ما قد يخدم الأجيال الجديدة. هذه القوى العمالية منها - وبالأخص المنظمات النسائية، تعمل من أجل تحقيق نمط حياتي اجتماعي وثقافي وتربوي وسياسي متقدم - تؤمن وتعمل من أجل تفعيل مسارات الحرية الفردية، تلك الحرية التي تعمل القوى الناهضة من أجل إعادة الزخم إليها.
إن تونس الضعيفة في مواردها الزراعية والصناعية، هي ذاتها الغنية بإرادة أبنائها، إذ تبلغ مساحة تونس 160 ألف كلم، لكن ليس من خامات موعودة في بيئتها، وإن كانت تونس تحصل على الغاز الجزائري دون مقابل بسبب مرور خط أنابيب الغاز الجزائري في أراضيها. لذا، فإن المطلوب في الخطط التنموية إعطاء الأولوية لتأمين الحاجات الغذائية من القطاع الزراعي لشعب تجاوز عدد سكانه العشرة ملايين مواطن.
إن التنمية الزراعية منها يمكن التأسيس للتصنيع ولمواجهة التردي في الحياة الاجتماعية، وبالتالي لإيجاد تراتبية اجتماعية مبنية على انتماء اجتماعي يعزز الثقافة المنتجة، ويؤسس لمواجهة الثقافة الاستهلاكية التي تؤدي إلى التردي في العائد المادي للقوى العاملة، والتي لا يتجاوز الحد الأدنى للأجور 300 دينار تونسي، ما يوازي 200 دولار أمريكي. إن هكذا مخططات تنموية ستؤدي إلى دينامية مختلقة للمواطن ولحركته وشهيته للعمل.
أما عن القطاع السياحي، فتونس تعتمد بنسبة كبيرة على هذا القطاع، إذ يتجاوز عدد السائحين الذين يأتون إليها سنوياً خمسة ملايين سائح. في حين أن المؤسسات التي تهتم بهذا القطاع مؤسسات شبه تقليدية، إذ لم يصر إلى تحديثها وتحديث خدماتها على ما قال البعض، فالخدمات السياحية مقبولة، وتونس مدينة ليست مرتفعة في أسعارها، كما أن مطاعمها عادية، وإن كانت في معظمها، متوسطة في خدماتها. وقد لا توحي لك بما فيها من المظاهر إلا بما يعرض داخلها من خدمات ومأكولات.
أخيراً، في تونس الخضراء طبقة الفقراء ومتوسطو الحال واسعة جدا، وإن كنت لا ترى متسولين إلا ما ندر، بينما طبقة الأثرياء “الحيتان" الذين كونوا ثرواتهم خلال الحكم الاستبدادي السابق، فهم بالمئات، وهم الذين يستحوذون على القسم الأكبر من الثروة الوطنية. إن هذه الطبقة التي أثرت على حساب الشعب التونسي ما زالت تتحكم بالحياة السياسية والاقتصادية، وإن كان يتبدى هذا التحكم في الارتباك في سياسات السلطة.
لم تستطع الجماعات الإسلامية في سياساتها الخجولة أن تعد التونسيين بحياة أفضل مما كانت عليه حياتهم السابقة، خصوصا أن هناك أحاديث حول غلاء المعيشة الذي يتبدى في ارتفاع أسعار الكثير من الحاجيات الغذائية وغيرها.
تونس العاصمة المبعثرة في أحيائها، يبدو أن الجامع لهذا التبعثر في الماضي القريب لم يكن إلا شارع الحبيب بورقيبة، هذا الشارع التاريخي هو ذاته الذي كانت تصبّ فيه كل الروافد والمصالح المتعددة للشعب التونسي.
العاصمة تونس، تبحث عن رموز جديدة قد تجدها في مؤسسات المجتمع أو في أحياء تونس الفقيرة إلا من طموحات وأحلام وإرادة أهلها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.