«شرعنا في التحضيرات لذكرى هجوم 20 أوت التاريخي. ولا بد أن نعد ملفا في مستوى الحدث الذي يحمل قيمة للذاكرة الجماعية الواجب حمايتها مهما كانت الظروف. اتكل عليك لمساعدتنا في هذا العمل مثلما جرت العادة». هذا آخر ما تفوّه به الفقيد المجاهد عبد الملك محيوس لي بحي 720 صباح الثلاثاء الماضي قبل أن تغيبه الموت عنا فجأة. كلمات لا زالت تزن في أذني أحمل نغمتها ودلالتها وحرارة مدلولها من رجل لا يمكن لأحد نسيان خصائله واستقامته وسلوك أخلاقه إلى يوم الدين. وأنا واحد من هؤلاء الذين يبقى المجاهد محيوس الأخ والصديق في نفس الوقت حيا في ضمير لا يمحوه الزمن الغادر. كان نعم الرجل، الأخ، الأب والصديق الذي يرافقك ويحدثك في كل شيء سياسي، اقتصادي وتاريخي يخص البلد الذي يواجه بعناد تقلبات الظرف واضطرابات المرحلة، ليكون أكثر قوة ومتانة في محيط جيو استراتيجي دائم التغيير. احتفظ للراحل عبد المالك الأمين الولائي لمنظمة المجاهدين للعاصمة، بشاشته المعهودة ورؤيته الاستشرافية تجاه أحداث الوطن وما يجب أن يكون عليه وما ينعم به من استقرار ورفاهية وأمن مثلما نهض من أجله الثوار في حرب تحريرية مفتوحة، كان هدفها في آخر المطاف الحفاظ على أمانة وصية الشهيد ورسالته المقدسة: أن يعيش الجزائريون أحرارا وينعمون بنشوة الحرية والسعادة .لا أحد يتسلط على الآخر ويحرمه من تقاسم الثروة والعيش الرغيد». حوّل الفقيد منزله إلى مكتب يشتغل به بلا انقطاع في إعداد الملفات التي لا تنتهي حول الأحداث التاريخية التي عرفتها الجزائر خلال الثورة التحريرية وقبلها، اعتقادا راسخا منه أن فهم ما جرى في البلد يستدعي العودة إلى جذورها وتتبع صيرورتها دون انقطاع. وأن أي قفز على حدث ما وانقاص منه يعني اسقاط أوراق من ذاكرة أمة لم تقبل يوما الرضوخ تحت نير الاحتلال. وتقاوم بلا توقف من أجل إعلاء صوتها وكرامتها بين الأمم. بهذه الطريقة ظل محيوس عبد المالك يعمل يجمع الوثائق ويؤلف كتب، يلقي محاضرات عن التاريخ الوطنيو مقتنعا إلى حد الثمالة أن الماضي صانع الحاضر والمستقبل. وأن أي إخفاق وخلل لا بد من الاتخاذ منه عبرة ودرسا في التقييم والتقويم بعيدا عن الهروب والنزوح. عشت معه أدق التفاصيل وأقوى المحطات في منزله مساعدا له إلى جانب ابن أخته مراد وأبنائه وبناته في تحضير مواضيع عن أحداث تاريخية حرص دوما على تخليدها وتسليط الضوء عليها لاطلاع جيل الاستقلال على كل جوانب تخص بلده. عشت معه أدق التفاصيل في لقاءات بمقر جمعية 11 ديسمبر التاريخية والثقافية، التي أسسها إلى جانب ثلة من المجاهدين وإطارات الثورة التحريرية. عشت أدق التفاصيل في لقاءات وندوات نشطها باتقان من أجل إيصال الرسالة الكاملة والحقيقة. مسار الفقيد الذي غادرنا بلا رجعة فجأة، تترجمه كتابات ألفها، وأقراص مضغوطة تؤرخ لحقب الجزائر وتاريخها، حيث يقول دوما «لا مستقبل لشعب ليس له تاريخ. ولا غد مشرق دون ماض تليد». وأكبر إنجاز لفقيد الأسرة الثورية والمجاهدين الذي وري جثمانه بمقبرة سيدي الطيب بالحراش يوم الخميس، وسط موكب جنائزي مهيب، حضره وزير المجاهدين ورفقاء الدرب، قاموس بأسماء شهداء الثورة التحريرية لولاية الجزائر، الذي أعده بعد سنوات من جمع المعلومات والوثائق وفحصها، وأعطى الفقيد محيوس عبد المالك رقما بإحصاء 2500 شهيد بولاية الجزائر و ذكر أن الرقم مرشح للارتفاع بإضافة قائمة شهداء منطقة الدويرة. الإنجاز مرجع للمؤرخين والطلبة لمعرفة أدق التفاصيل اعتمادا على شهادات من صنعوا الثورة الجزائرية. أمام هذا المصاب الجلل نجد أنفسنا عاجزين عن تتبع خطواتك ورصد مسارك الثري والغني. وداعا أيها الأخ الصديق سي عبد المالك فاللسان يعجز عن التعبير في مثل هذه الظروف العصيبة. والكلمات مهما قيلت واختارت لن تفيك حقك من التعابير والقيمة فانت أعلى الحروف وأغلى المعاني وأكثرها دلالة وقيمة. وداعا أيها المجاهد الطيب إلى أن نلتقي في يوم موعود.