صرخة المجاهدة "جميلة بوحيرد" الأخيرة عبر جريدة "الشروق اليومي" آهة ألم وتقييم للتاريخ ورسالة إنذار للحكام والمحكومين، تأتي في سياق العزة الجزائرية المبالغ فيها هذه الأيام بعد الحرب والحرب المضادة في الإعلام بين مصر والجزائر، وبما أن الجزائريين قد استُفزّوا بعد سب وشتم بعض الصحافيين المصريين لشهداء الجزائر، فمن باب أولى أن يدافعوا عن الأحياء من أبناء هذا الشعب، خصوصا إذا كانوا في مكانة ودور المجاهدة جملية، ولا يكفي هنا أن يتحول الأمر إلى مجرد تعاون من المواطنين، وإنما هذه مسؤولية دولة سواء أحكمها الراشدون أم السفهاء، وبوضوح العبارة فجميلة لا تحتاج إلى دعم أو صدقة من أحد، لأنها رمز من رموز الدولة الجزائرية، فحين حكم عليها بالإعدام ونجاها الله منه، كانوا من هم في السلطة اليوم متّهمين في شرفهم الشخصي والنضالي، فكيف لنا جميعا أن نقبل بهذه المهانة، خصوصا ونحن نذّكر الشعب بأمجاده المزعومة التي حصلت عبر الكرة، ولولا جملية وأمثالها من الشهداء والمجاهدين لصرنا اليوم بقايا شعب على غرار ما حصل للهنود الحمر في الولاياتالمتحدةالأمريكية. لقد أثار انتباهي تفاعل القراء مع رسالتي بوحيرد إلى الرئيس بوتفليقه وإلى الشعب الجزائري لجهة استرجاع زمن التغيير حين تعلقت همة الإنسان الجزائري والعربي والمسلم بما وراء السماء فناله، فعادت بهم الذاكرة إلى الذكريات الجملية، وإن كانوا قد عبروا عن حيرة من أمرهم ضمن سؤال: نصه: أيعقل أن تكون هذه نهاية من يجاهد من أجل تحرير شعب بأكمله؟! المسألة هنا لا تتعلق بالبعد المادي النفعي فحسب، وإنما تتخطّاه إلى عالم القيم وهذا هو الأساس، بدليل أن الذين يعانون في العراق اليوم لم تلهيهم حربهم عن متابعة رسالة بوحيرد، لدرجة أنهم أبدوا استعدادهم للتكفل بعلاجها من منطلق أنها الأولى بالاهتمام لما قدمته للتاريخ العربي من عمل، وليس هذا دعاية، فالعراقيون كانوا على طول تاريخهم إلى جانب الجزائريين، حتى حين كانوا في أصعب الظروف، تماما مثل المصريين الذين نشكك اليوم فيما قدموا لثورتنا يوم أن كانت إذاعة صوت العرب وحدها تزلزل العروش وتدفع إلى قيام دول من العدم، ويدفع المواطن العادي الذي خرج لتوه من الحكم الملكي قوت يومه من أجل دعم قضايا التحرر، يوم أن كانت معظم الدول العربية (تونس وليبيا والمغرب بوجه خاص) قواعد خلفية لثورتنا ومواطن أخرى لأجيال تربت على العزة فذلت اليوم بعد أن تحررت، ولم يقابل جيراننا وإخواننا إلا بالجحود. حتى لا نغرق في العديد من المواضيع، التي تطرح جملة من القضايا، لنعد إلى موضوع جملية بوحيرد لجهة اعتبارها شهيدة حية كما جاء في أول رد عفوي قاطع أوراسي من الأخ "مدني عامر"، مفضلا البدء بالفعل على الدخول في لغو الكلام، أو كما جاء في الرد الأول من الشاعر "عياش يحياوي" للعلم هو ابن شهيد الذي قال لي ودمع العين يسبقه: "إنني تحت هول الصدمة مما يحدث لجميلة، على اعتبار أنها من القلة التي بقيت لنا لنقترب من روحها ومآثرها"، أو فيما عبرت عنه الكاتبة "شهرزاد العربي" برفضها أن تتحول جميلة في نهاية عمرها بعد عمر حافل بالمجد إلى خانة المحتاجين. وتتبرأ الدولة منها وتتخلى عن القيام بدورها.. لقد رأت أن ما وصلت إليه جملية يتطلب حربا ثانية تحرر الجزائر مما آلت إليه، أو ما جاء في كتابات كثير من الصحافيين والكتاب العرب الذين أبدوا استعدادهم للتضحية من أجلها بعد نشر رسالتها في الشروق. لنكن صرحاء في الجزائر ونعيد تقييم توزيع الثروة في بلادنا، ومجالات إنفاقها، بل نعيد النظر في توزيع الوظائف وسلم الأجور.. لقد بدأت الحملة ضد المجاهدين وأبناء الشهداء وأزواجهم بعد أن زاد عدد المجاهدين في بلادنا، فنحن الدولة الوحيدة التي زاد فيها عدد المحاربين بعد الانتصار، وكلما تقدم عمر الدولة زاد عدد المنتفعين الجدد من الثورة والمستثمرين في التاريخ عبر تزوير الوثائق وطغيان أهل الزيف، وبغض النظر عن الأسباب فإن النتيجة التي وصلنا إليها اليوم كانت منظرة ومبدأ من أين لك هذا؟ يجب أن يطبق بالأساس على الذين هم في السلطة اليوم، ولا يكفي العويل والبكاء، إنما بات علينا القيام بفعل تغيير يعيد لنا القيم التي ضاعت منا أو أجبرونا على تركها. المشهد الحالي للجزائر ليس متطابقا مع صورتها الجميلة سنوات الثورة، لدرجة أن بعض السياسيين الجزائريين يشكّكون في أهمية جملية بوحيرد ويعتبرونها ظاهرة إعلامية أنتجتها مصر أو بالأحرى نظام الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر"، وإن كان لا ينفي دور القاهرة في الاهتمام الإعلامي بجميلة إلا جاحد، لكن ذلك جاء نتيجة لعظمة دورها وجهاد أبناء الشعب الجزائري، الذين فرضوا وجودهم على العالم كله من خلال حرب ضروس دامت سبع سنوات ونصف السنة، ومع ذلك فما هو تفسير بعضهم لاهتمام الإيرانيين مثلا بجهاد الجميلات الثلاث "جميلة بوحيرد" و"جميلة أوباشا" و"جميلة أبو عزة" على حد ما صرح لي به حجة الإسلام على أصغر محتشمي، وأشارت إليه في مقالات سابقة. إذا كانت جميلة بوحيرد تطرح قضيتها المتعلقة بالعلاج، وهو حق لكل مواطن، والعيش في حدود الكرامة الإنسانية الدّنيا بعد أن أعادت لنا القضية الوطنية، فإن هذا دليل إدانة لكل الجزائريين بدءاً من الرئيس وليس انتهاء بالمثقفين، ولنخرج من مرحلة العار هذه علينا أن نقتدي بغيرنا وأذكر مثالا هنا للتدليل عن أهمية جملية القضية والتاريخ والرمز، وهو من مصر نحتاج إليه اليوم في ظل التردي الذي وصلنا إليه. أعتقد أن كثيرا من الجزائريين شاهدوا فيلم جميلة الذي قامت ببطولته الفنانة القديرة "ماجدة الصباحي"، لكن الذي يجهلونه أن ماجدة قامت بإنتاجه بقرض من البنك بعد أن باعت أراضي عائلتها وأصرت على أن يؤلف سيناريو الفيلم أهم الكتاب في ذلك الوقت أمثال "نحيب محفوظ" و"إحسان عبد القدوس" وغيرهما، وقدمته في أحسن حلّة هزت عواصم العالم من بكين إلى باريس، وهاجمتها الصحف الفرنسية في ذلك الوقت، خصوصا جريدة "لوموند" الفرنسية. لقد عادت جميلة اليوم في صرختها لتعيدنا إلى عمق الثورة، ولتطالبنا بالشهادة، ولا يقبل أن تعدم اليوم بأيدينا، ونتركها فريسة للمرض والفقر والحاجة، ودولتنا تنفق الملايين يوميا على مظاهر ديكور لفئة من الجزائريين أحلونا دار البوار وجعلوا أعزة القوم منّا أذلة، ويبدو أنهم على استعداد أن يفعلوا في المستقبل ما هو أكثر من ذلك.. لقد تمنّينا ردا عاجلا من المسؤولين، لكن أخذتهم العزة بالإثم، وعليه فلينتظروا النتائج المرتقبة على الصعيد المحلي، وما هي على الظالمين ببعيد.