الصحفي،محمد مرزوقي،في ذمة الله    اجتماع للحكومة يتعلق بمحاربة المضاربة والوقاية من وضعية الهيمنة    سونلغاز توقع اتفاق مع المجمع الأمريكي "جنرال إلكتريك"    من يحرر فلسطين غير الشعوب..؟!    تفكيك جماعة إجرامية تزور يقودها رجل سبعيني    باتنة: توقيف مروج وحجز 210 قرص مهلوس    الجزائر تتقدم رسميا بمشروع قرار للتوصية بقبول العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الهيئة الأممية    الجزائر تقدم مساهمة مالية استثنائية للأونروا بقيمة 15 مليون دولار    مجبر على البحث عن ناد جديد الموسم المقبل! عكس بن طالب.. مدرب ليل يواصل استبعاد وناس لأسباب انضباطية    المديرية العامة للإتّصال برئاسة الجمهورية تعزّي..    خصص لدراسة المشروع التمهيدي لقانون يحدد القواعد المتعلقة بالمنافسة: اجتماع للحكومة يتعلق بمحاربة المضاربة والوقاية من وضعية الهيمنة    لتوسعة "جنرال إلكتريك الجزائر للتوربينات- جيات": سونلغاز توقع اتفاق مع المجمع الأمريكي "جنرال إلكتريك"    يقدّم مستويات لافتة هذا الموسم مع الذئاب : يقوم بأدوارا هجينة .. ريان آيت نوري مطلوب في مانشستر سيتي بمبلغ خيالي!    دورة اتحاد شمال افريقيا لكرة القدم (اقل من 17 سنة): رئيس الفاف وليد صادي يعطى اشارة انطلاق البطولة    "الجوية الجزائرية" ترفع عدد الرحلات الداخلية الإضافية إلى 68 رحلة    الجزائر لم تبخل يوما بجهودها لتغليب الحلول السلمية للأزمات    فرقة مكافحة الجرائم الاقتصادية والمالية بالعاصمة: تفكيك جماعة إجرامية تزور يقودها رجل سبعيني    لا بديل عن مقاربة وطنية لتعليم الأمازيغية بمختلف متغيّراتها اللّسانية    عهدة الجزائر بمجلس الأمن جد مشرفة    الصّهاينة يرتكبون 6 مجازر في يوم واحد    اعتراف بمكانة الجزائر المتنامية كمركز اقتصادي إقليمي هام    إشراف تشاركي على الانتخابات المقبلة    40 سؤالا ل8 وزراء    صناعة السيارات تستوجب شبكة مناولة بمعايير دولية    الرابطة الأولى: شبيبة القبائل تفوز على مولودية وهران وبلوزداد يتعثر أمام نادي بارادو    خطوات متسارعة لطي"عدل2" وإطلاق عدل "3"    انتقال طاقوي: ضرورة تصميم نماذج استشرافية لتحقيق مزيج طاقوي دائم    أحزاب ليبية تطالب غوتيريس بتطوير أداء البعثة الأممية    انطلاق حملة كبرى للوقاية من حرائق الغابات    الصحة العالمية.. حجم الدمار في مستشفيات غزة "مفجع"    هذا موعد عيد الأضحى    استحداث مخبر للاستعجالات البيولوجية وعلوم الفيروسات    توقعات بمستوى عال ومشاركة جزائرية مشرفة    بطاقة اشتراك موحدة بين القطار والحافلة    أول طبعة لملتقى تيارت العربي للفنون التشكيلية    البعثة الإعلامية البرلمانية تختتم زيارتها إلى بشار    الأندية الجزائرية تبحث عن التّألّق قاريّا    ضرورة جاهزية المطارات لإنجاح موسم الحج 2024    نريد التتويج بكأس الجزائر لدخول التاريخ    معارض، محاضرات وورشات في شهر التراث    شيء من الخيال في عالم واقعي خلاب    حجز 20 طنا من المواد الغذائية واللحوم الفاسدة في رمضان    ربط 577 محيط فلاحي بشبكة الطاقة الكهربائية    مكيديش يبرر التعثر أمام بارادو ويتحدث عن الإرهاق    الطبعة الأولى باسم التشكيلي "محمد دميس" : ملتقى تيارت العربي للفنون التشكيلية    تيبازة تحيي الذكرى ال68 لاستشهاده .. ذكاء وعبقرية سويداني بوجمعة سمحا له بنيل شرف التحضير للثورة    تراجع كميات الخبز الملقى في المزابل بقسنطينة    توزيع الجوائز على الفائزين بمسابقة "أشبال الثقافة" في طبعتها الثانية    عودة إلى رؤية العلامة للقضية الفلسطينية: 22 دار نشر وطنية في صالون بن باديس للكتاب بقسنطينة    لعقاب خلال تسلّم نسخة من المصحف الصوتي : على إذاعة القرآن الكريم لعب دور ريادي في معركة الوعي    توزيع أكثر من 152 ألف طرد غذائي    انطلاق أسبوع الوقاية من السمنة والسكري    وفق تقرير لجامعة هارفرد: الجزائري سليم بوقرموح ضمن أهم العلماء المساهمين في الطب    انطلاق عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان    أوامر وتنبيهات إلهية تدلك على النجاة    عشر بشارات لأهل المساجد بعد انتهاء رمضان    وصايا للاستمرار في الطّاعة والعبادة بعد شهر الصّيام    مع تجسيد ثمرة دروس رمضان في سلوكهم: المسلمون مطالبون بالمحافظة على أخلاقيات الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحلقة الحادية عشرة: مصر الفرعونية.. ذكريات يمنيّة وحكم أردني
"بدّه عيشوش" مصريون وعرب في مسيرة القدر
نشر في الشروق اليومي يوم 01 - 03 - 2010

العرب أنا.. وأنا العرب.. هكذا كان يحدث نفسه دائماً، غير أن هذه الفكرة ليست وليدة عقله, بل نتاج لذلك التأثير المتراكم لسنوات من ثقافة مصرية تحتل كل ما في الإنسان دون أن يدري.
فالعربي، الطالب المؤرق بعروبته صار في مصر يتحرك في قضاء الذات المتضخمة ، بعد إن اكتشف غرق المصريين في همومهم اليومية لغياب الإنجليز ، والإسرائيليين ، وانتهاء مرحلة الوطن النغم الذائب بين الشفاه ، أو الموج التلاطم من مراكش إلى البحرين ... العربي هنا يختصر فعل أمة في بحثه عنها عند من صدروها إلى الآخرين حين كان ذكر كلمة العرب جريمة يعاقب عليها القانون .
أسئلته اليومية الحائرة تتجاوزه وتعقده عندما يقارن بين تعب الهوية والانتماء في الجزائر وراحتها أو عدم الإتيان عن ذكرها في مصر, وإجابات الأسئلة لا تنتهي به إلى التكيف مع الأحداث لأنها تفضي إلى أسئلة أخرى ، فتصبح حديثاً من أحاديث الهوى ، تكشف عن زيغ الفؤاد في حب وليد اللحظة أو كره يزرعه الآخرون , القريبون من مصر بحكم الجغرافيا أو التاريخ.
هاهو يكتشف وصية "بده عيشوش" مرة أخرى من لدى أقرباء مصر يأتي ذكرها بوعي تام في ذلك الشق الخاص بالحذر منها ، فصديقه "عبد العزيز الأردني" الذي يعد رسالة دكتوراه في جامعة القاهرة حول القبيلة والسلطة والذي تعرف عليه منذ شهور ، يقول له على مائدة غداء وقد أعد له " منسف " كان فيه مثل كرم حاتم الطائي ، بعد أن جلسا يتحدثان في تلك الشقة الصغيرة خلف المدرسة الألمانية بالدقي:
- لماذا أنت شاغل نفسك بالهموم العربية ؟
- لأنني عربي
- وما علاقة المصريين بهذا ؟
- أليسوا هم منطلق العروبة ؟
أضمر العربي في سؤاله الشر بحثاً عن موقف آخر ، فقد سبق له أن سمع من عبد العزيز كلاماً عابراً عن المصريين ما كان ليشفي غليله، لذلك أراد معرفة المزيد، وجاء رد عبد العزيز حاسماً:
- هم عرب صحيح ، لكنهم لا يمثلون منطلق العرب , لا انتماء ولا أفعالا ؟!
- لم أفهم ما تعنيه فهل لك أن توضح؟
ذاك ما كان يبغيه عبد العزيز، فتقييمه للمصريين كان يأتي مقتضباً لوجودهم أمامه ومن خلفه وعن يميته وعن يساره , أما الآن فهو بعيد عن وجودهم ، ويحدث جزائرياً يراه متمرداً عن العرف العام ويراهن على قبوله برؤية أردنية ليست خاصة ب"ابن اليرموك"، ولكنها نابعة من موقف سياسي, لذلك جاءت إجابة معبرة عن الوجه الحقيقي:
المصريون يا صديقي.. مصريون فقط ، والعروبة عندهم مطية للوصول إلى مصالحهم.
- دعك من هذا وأجبني هم عرب أم ليسوا عرباً ؟
- الإجابة: لا تكون بطريقتكم الجزائرية أبيض أو أسود ، وإنما نحتاج إلى ألوان أخرى ..هكذا علق عبد العزيز .
كانت البداية غير مشجعة بالنسبة للعربي، لأن الذين جاء إليهم بحثاً عنهم ، يطعنون أمامه في أعز ما تميزوا به خلال الثورة الجزائرية,حتى أنهم اتهموا بتعريب الجزائر في وقت مبكر وحين اعتبرتها عامة الشعب الجزائري إنجازا. اعتبرها الفرنكفونيون" تمصيرا "للجزائر، ومع ذلك فقد صبر عن فاحش القول وواصل الاستماع للأردني" عبد العزيز", الذي قال :
- على مستوى الانتماء، هم نفسهم يؤمنون بانتمائهم الفرعوني أما على مستوى الفعل فلم يكونوا أحراراً مثل العرب ,ونتيجة لهذه لا تقبل سيادتهم على العرب لأنها مثل شهادتهم عن المواقف التاريخية التي تعد مجروحة .
- وما العيب في الحديث عن الأصول ، ما دامت النصوص والوثائق والأفعال تدل عن أنهم عرب فهذه البلاد تسمى " جمهورية مصر العربية " ولم تنسب لفرد أو لأسرة كما هو الحال في دول عربية مجاورة , ولم تحمل اسم، نقطة شاردة مثل دول عربية أخرى, ولم تقتصر الدولة على مدينة واحدة وتسمى باسمها.
لم تعجب تعليقات العربي صديقه "عبد العزيز" ولوا أنه محل ثقة عنده لتوقف عن الكلام معه ,وبدا له أن أكثر دفاعاً عن مصر من أهلها أنفسهم ، فقال له :
- أنت تقيم الأمور بحسك العروبي ,وتشبع رغبة الانتماء لأمة لديك, ولكنك تقع في خطإ كبير حين تختصر العروبة في مصر
قاطعه العربي مستغرباً : وهل هناك من يحمل اللواء غيرها الآن!
- هناك الكثير على مستوى الشعارات سوريا والعراق وعلى مستوى الفعل الأردن وكل دول الخليج العربي.
- ونحن في المغرب العربي خارج هذه الدائرة.
أحس عبد العزيز بغضب العربي فحاول أن يصحح ما ذكره قائلاً :
- حديثنا مركز على المشرق .
- لا يا صديقي، بل حديث يخص مصر دون غيرها.
- ما علينا لنعد للحديث عنها، ونترك الجانب القومي ، ونتحدث عن الفعل لا يحق لها أن تقود العرب .
يتساءل العربي مندهشاُ مما يسمع : لماذا ؟ أليست الأقوى والأكبر؟ .
- القيادة لا علاقة لها بالكبر والقوة,إنما بالنظرة الصائبة وبالتاريخ المشرف الذي يكشف عن أصالة الشعوب .
- حديثك يا صديقي بعيداً عن منطق الأشياء لأن أسباب القيادة في يد مصر متوفّرة حتى لو سلمت لك بالتاريخ وحده دون الأسباب الأخرى, فمن يزايد عن مصر في تاريخها ؟
- عن أي تاريخ تتحدث ؟ هل هو تاريخ الذين عذبوا وقتّلوا بالآلاف من أجل بناء مقبرة للفرعون أم تاريخ الذين حفروا قناة "السويس" لتمر سفن العالم أم ...
قاطعه العربي زاجراً: المهم, أنهم بنوها . ولا يحق لمن لا يساهم في الحضارة الإنسانية أن يتحدث على بناة الحضارة بالسوء .
الأزهر.. والحرم النبوي
حاول عبد العزيز تهدئة العربي بإعطائه كوب عصير بارد بعد أنه جف حلقه, ليواصل حديثه قائلا:
- حديثي ليس عن التغير من عدمه، ولكن عن الأسلوب, فكل إنجازات المصريين نمت تحت السوط ,والإنجازات التي بنوها وهم أحرار انهارت ولم تعمر طويلا , و..
قاطعه العربي بعنف:
ذاك عن الأهرام وقناة السويس, فماذا عن الجامعات والمساجد ودور الثقافة والجسور التي تراها اليوم في القاهرة وهذا التعمير على ضفاف النيل التي تميزت به مصر عن باقي دول حوض النيل؟.
- تلك الإنجازات إن اعتبرناها كذلك فيها ما هو متعلق بالفساد مثل المراقص والملاهي الليلية على ضفاف النيل وكذلك الفنادق التي أنجزت من أجل الأجانب وهدفها معروف, وفيها ما هو صالح مثل الجامعات , وهذه موجودة في كل الدول , أما الجوامع الكبرى مثل الأزهر والتي نتبعها جامعات فهدفها تركيز مرجعية خاصة بدل الحرم النبوي والمسجد الأقصى .
- ما هذا الذي تقوله ؟ أليس عجباً أن تعتقد أن بناء الجامع الأزهر كان الهدف منه إلغاء دور الحرم النبوي والمسجد الأقصى؟ لماذا لم يقل علماء الأمة بهذا ؟
- لقد تفادوا الحديث في هذا درءاً للفتنة.
- وجئت أنت تحييها, فتلعن مع اللاعنين
- ليس إلى هذا الحد.
- صديقي لا أحد يقول أن الأمة الإسلامية مختصرة في مصر، لكن ليس هناك من يقبل الطعن في إنجازاتها بغض النظر عن أهداف القائمين بها، وعليك أن تكون أكبر من حدود دولتك الصغيرة.
لم يكن عبد العزيز الطالب الوحيد من بين الطلبة العرب الذي تعرّف عليه العربي أو زار بيته بعد تطور العلاقة بينهما ,بل كان هناك كثيرون أهمهم "عبد الرحمن، وعبد المالك" من اليمن، و"أمل" من السعودية، و "حيدر" من السودان و"علي" من البحرين ، و"فهد" من الكويت، وآخرين غيرهم, غير أن أولئك الزملاء لم يحظوا بنفس المكانة لديه و لاهم اهتموا به كثيراً, فكل منهم منشغل بهمومه لكن جميعهم يحملون نظرة استعلاء وكراهية لمصر، وزادت مع الأيام نتيجة التعامل اليومي على مستوى الدراسة والإدارة,
و يستثنى من هذا " عبد الرحمن " اليمني الذي رأى فيه العربي رجلاً مخلصاً ومخلّصاً فكل الأخطاء التي يقع فيها المصريون مبررة حتى تلك الأعمال والمواقف التي يجمع المصريون واليمنيون على أنها كانت نتيجة لأخطاء النظام الناصري .
عبد الرحمن أكبر من العربي بسنوات ولا يتطابق أو يتعارف معه في الحركة والفعل فهو غير مهموم بعروبته لأنها ليست محل تساؤل لديه مثل العربي, فالتاريخ يؤكد أنه ينتمي لبلد هو الأصل بحكم الجغرافيا والانتماء القبلي, والعربي مجرد صورة منسوخة لا يدري إن كانت طبق الأصل حقاً أو مشوهة.
وعلى عكس العربي , يبدو عبد الرحمن هادفاً دائماً فليس هناك ما يجعله ينفعل أو يغضب، لا تفارقه الابتسامة ولا روح الدعابة ولا الأمل, متجاوزا الحكمة اليمنية إلى فلسفة الحياة وعمقها .. تلميذ نجيب للمصريين وابن مخلص لهم يظهره لك في دفاعه المتواصل أمام اليمنيين عن دولة رأى فيها المنقذ في زمن الردة والظلام, وحين يبلغ الجدل الذروة ويرى أحد اليمنيين أنه بلغ أشده وأوتي حكماً وعلماً ويتطاول عن دور مصر التاريخي .. يقول:
- لولا مصر لظلت اليمن عديمة الهوية، ولبقينا في الجهل والتخلف إلى الآن
هذه الشهادة أو القول يعد زوراً عند بعض اليمنيين ، فيرد أحدهم ويدعى حسين:
- مصر الفرعونية تنتقل إلى اليمن العروبة أو تعيد تعريبنا, إننا نحن الأصل, وهي الفرع, فاليمن ثابتة ومصر متغيرة على هوى من يحكمها.
قول حسين ليست نظرة خاصة بل هي عامة لدى كثير من أهل الجنوب وأهل الشمال, ولهذا يقطع عبد الرحمن حبل الفكر ل "حسين" ولغيره بقوله:
صحيح مصر متغيرة, لذلك هي قوية رغم الصعاب التي تواجهها والأمم التي تتكالب عليها , ولم يقل الشعراء عنها أن حكمها أتعس ما في الدنيا مثلما قالوا عن اليمن , ثم :يف لك أن تنسى الدور المصري في تلك الغرابيب السود التي بها لبداية الخلق و...
قاطعه حسين بقوله والغضب باد عليه :
لقد جاء المصريون بمنكر الفعل حين ساهموا في تقسيم اليمن, وحاربوا سلطة شرعية ,ظاهر حربهم الأهداف القومية وباطنها مصالحهم ، وصراعهم مع جريننا الأقرب إلينا منهم, ولكنهم لا يعقلون
رغم حب عبد الرحمن للمصريين وقناعته بدورهم الحضاري ودفاعه المستميت عن مشاركتهم في حرب اليمن إلا أنه كان يعتبر تلك الحرب من الأخطاء الكبرى التي قلم بها المصريون غير أنه يتفادى ذكر هذا أمام اليمنيين, و يسر ذلك لصديقه العربي أو لبعض المصريين الذين يثق فيهم أو يراهم أكبر من أخطاء التاريخ ومن مواقف الأنظمة
عبد الرحمن لا ينكر أن مشاركة المصريين في الفتنة اليمنية والتي دعمتها وأشعلتها أطراف خارجية وأطالت في أمرها تعد من الأخطاء القاتلة في سياسة عبد الناصر ، لكنه كان يحبه ويرى فيه البطل القومي الذي على العرب أن يتجاوزا عن أخطائه مهما كبرت لأنه وقع فيها وهي يبغي الخير ولأنه قدم إلى ما عمل وصار في ذمة التاريخ , وهو في ذلك يختلف عن ابن وطنه عبد المالك الشيوعي الذي يرى أن الأنظمة حتى لو كانت أهدافها خيرة يجب أن تحاسب حساباً عسيراً .
مصر.. وفتنة اليمن
عبد الرحمن وعبد المالك يمثلان التناقض والصراع على مستوى الفكر وأحياناً إيتاء ذي القربى على مستوى الفعل، فيبدو كل منهما ضرورة لوجود الآخر, واختلافهما حول دور مصر في اليمن وما تبعه من تأثير على اليمنيين لعقود كان الأشد.
يقول عبد الملك مختصراً التاريخ، ومبتعداً عن قبواته المظلمة:
- الحاضر يؤكد خطأ القيادة المصرية ممثلة في عبد الناصر .
فيرد عبد الرحمن زاجرا :
- بل إن الماضي يمثل مرجعية لصواب ما كانت به مصر، فما الذي دفع بالمصريين إلى ركوب الصعاب، وترك الأمان والذهاب إلى الحرب ؟!.
- خيرات اليمن . . هكذا يعلق عبد الملك .
يعرف عبد الرحمن أن ابن بلده غير مقتنع بما يقول، ومع ذلك يواصل الحديث قائلاً :
- ما هي الخيرات التي كانت في اليمن، وقدم المصريون من أجلها ؟
- الخيرات ليست ماديات فقط، فاليمن خيره في موقعه الاستراتيجي وبآثاره التاريخية، ولأنه يشكل ورقة ضغط آنذاك على الجيران، ويحسب له في التوازنات الكبرى .
ينظر عبد الرحمن باستغراب، ثم يعلق :
- يفهم من كلامك أن مصر كانت في حاجة إلى موقع استراتيجي في منطقة الخليج ؟
- كانت في حاجة إلى موقع استراتيجي مجاور للدول الملكية، والتي سعت لتغيير نظم حكمها .
- أ هذه تهمة لا تخص مصر وحدها ؟.
سأل عبد الملك وهو يدخن دخان غليونه، الذي أصبح رفيقه منذ شرائه في لندن حين كان يعد رسالة الماجستير:
- ماذا تعني بأنها تهمة لا تخص مصر وحدها؟
- أعني أن الأنظمة الملكية تحالفت مع كل قوى الشر لإسقاط نظام الثورة في مصر، لكنها باءت بالفشل، وكان على مصر الثورة أن تذهب إليها موقفةً شرها، بدل أن تسمح لها بالقدوم إليها .
- إذن أنت تقر بأهمية موقع اليمن الاستراتيجي .
- لا أنكر ذلك، لكن لا أنتهي معك إلى نفس النتيجة، حيث أن القوات المصرية لم تأت فقط لمواجهة الرجعية العربية، ولكنها جاءت تلبية لدعوة اليمنيين، ثم رحلت من هناك حاملة وزر الأخوة الأعداء، لتصحيح متهمة, ويقترب اليمنيين من بعضهم بعضاً.
يبتسم عبد الملك وينتابه شعور بنشوة الانتصار لكون عبد الرحمن قد وصل إلى ما يريد، ثم يقول:
- إذن هي متّهمة؟
- بماذا ؟
- بإجرامها في حق اليمنيين؟
يرد عبد الرحمن غاضباً :
- لم تجرم مصر في حق اليمنيين, ولكنها جرّت إلى منطقة مملوءة بالتوتر، لحماستها القومية، ولا نعرف لماذا تصر على ذكر الماضي، ونسيان الحاضر؟
كان العربي يجالس عبد الرحمن وعبد الملك، مجتمعين ومنفردين ,وفي الحالتين يبقى طرفا محايدا ولا يتدخل في أي وقت، مقتنعاً بدوره المتمثل في الاستماع فقط بوعي وبصبر,وبانزعاج أحياناً حين يتعلق الحديث بالتركيز على فترة حكم جمال عبد الناصر.
جلسات العربي مع اليمنيين ومع غيرهم من الطلبة العرب كانت اكتشافات متواصلة لعوالم عربية, قطرية ضيقه, حيث أحاديث السياسة أكثر من حقائق التاريخ، فكل طالب عربي من الذين تعرف عليهم أو تعرفوا علي، جاء محملا بمواقف الدولة القطرية، مواقف حكومات اختلفت أو أيدت أو اعترفت بدور مصر في قيادة العرب.
لم يعد الهم الذي جاء به العربي من القرية العتيقة، حيث بدايات الفكرة وزمن مولدها بعد مخاض عسير لدى الذين يصنعون القرار في الجزائر العاصمة، هو محطة الوصول النهائية .. لقد غاب في خضم التساؤلات المتكررة عن دور مصر في المنطقة العربية كلها.
منزلق خطير هذا الذي أد قع إليه دفعا .. هكذا كان يحدث العربي نفسه دائماً حين يعود إلى شقته بشارع الجيزة، وحين يجلس إلى زميله وهدان الذي حددت طموحاته في إنهاء الجيش والتفرغ بعدها لإتمام دراسته، وفي زمانه المنظم كان التحضير متواصلاً بحب وبتعب وبأمل كبير للنجاح في السنة التمهيدية بفارق كبير .
وهدان نموذج للمصري الذكي, غير أن الذّكاء يتحول أحياناً إلى حسابات خاصة، أقصى ما يريد صاحبها هو تحقيق انتصار في الحياة، لا يتعدى تخطي الفقر، وحل المشكلات الشخصية ومنها: الحصول على سكن في وقت مبكر من العمر، وتفجير الطاقة الجنسية حلالا قبل أن ينتهي العقد الرابع، و يقف وهدان في طابور العزاب الذين يقضون أعمارهم في تكوين أنفسهم.
أيام وليالي ... بل شهور قضاها العربي في اكتشاف وهدان, وقضاها وهدان في التكيف مع ظروف الحياة، ورغم أن سعيهما للنجاح كان هو الهدف المشترك بينهما، إلا أنهما نظرا إليه من زاويتين مختلفتين ، ف(وهدان) حياته الشخصية هي الأساس، مطبقاً نظرية "رايت ميلز القائمة على فكرة" أن كل قضية خاصة معي في أساسها قضية عامة والعكس صحيح أيضاً ، أما العربي، فحياته القومية معي الأساس اعتماد على الحديث النبوي, الذي ينص على أن "يد الله مع الجماعة", والجماعة هنا معي كل الأمة العربية .
إقامة وهدان عنده أحياناً ، وزيارته المنقطعة أحياناً أخرى، مثلت حاجة ورغبة الاكتشاف لدى العربي، حيث كان يبرر ذلك بقوله:
- على أن أعاشر المصريين وأعيش معهم وأشاركهم اللقمة، لأثبت عروبتي.
غير أنه كان يصطدم برؤية وهدان المختلفة، الذي كان يرى أنه يدفع الكثير للعربي،معتبراً أن المذاكرة المشتركة بينهما كافية لتسديد ضريبة الإقامة، وتأتي واضحةً حيناً، وتضمر أحياناً أخرى عند التعليق على بعض المواقف .
كلما جاءت الكلمات معبرة عن المقايضة وتبادل المصالح، إلا وجعلت الماضي يعود مرة أخرى , ف" وهدان" وكل الطلبة الذين تعرف عليهم كانوا ينطلقون من فكرة " شقة العربي تكفينيا وتكفي"، فيعود بدّه عيشوش للظهور مرة أخرى.. حينها تهتز المشاعر وترتبك المواقف و يحس العربي بفقدان المكانة و الكشف عن عورات العروبة، يستنجد ب" شهرزاد مهاتفا إياها بالنهار, أو مختليا بها ليلا كاتبا لها ما تعانيه نفسه, واصفا لها واقع العرب وأحلامهم وحساباتهم في إطار جماعة ضاقت قلوب بعض أفرادها, واتسعت أخرى لتشمل الكون كله .. عندها تكون الساعة قد تجاوزت الثالثة صباحاً ، وخفتت الأصوات القادمة من ميدان الجيزة .
شهرزاد.. وجه الجزائر النّديّ
كتب لها ذات ليلة بعد أرق يوم حار وطويل، بعد أن أضناه التعب ووجد نفسه وحيداً.
عزيزتي شهرزاد :
شوقي إليك لا يوصف، لأنه بحر متلاطم الأمواج، مرة تحضر أمواجه بين الناس رامية بالصدف على الشواطئ فيتم التكيف معهم بما بقي من ماء على رمال دنياهم ، ومرة أخرى ، تذهب أمواجه بعيدة ، ولا تعود من تلك المحيطات حيث تنام أو تنهض أمة ، كتب عليها أن تعيش قدرها بين صراع الإيمان ، وشهوات الخلق وأهوائهم ، وتظلين وحدك ثابتة مثل شجرة " الطرفة " في صحراء الجزائر تأتيها الرياح متقلبة فلا تهتز لها مخاطبة الرياح دائماً بقولها:
- أنت التغير وأنا الثبات ، أنت الذهاب وأنا المجيء ، خطابك الزاجر لا يتعدى أغصاني أو جذعي؟ ردّي في صمتي، وسلوتي في لغة جذوري، لو دامت رحلتك أيها الملاك المأمور غدواً و روحاً لشهور ما غيرت من كوني الخضرة الوحيدة في الصحراء .
ويأتي رد شهرزاد سريعاً في لحظة تسلم الخطاب بلهفة الشوق ونار الوحدة وتدفق المشاعر وعفوية من قلب سليم أبيض مثل ثلج "قسنطينة" حين يكون الشتاء بارداً ممطراً، لا تحمى منه مكيفات الجامعة ذات المياه الحارة .
باللهفة والأشواق وبالرجاء وبالأمر أحياناً ، تأتي كلمات "شهرزاد" لتفك القلب من قيود الأمة وتخرجه من أهوالها. فتبدو الحياة لدى العربي، حرية لا تزعجه فيها خلافات أمثاله من العرب ، وينسى الوصايا والرزايا والحسابات ، ويغرق عن بعد في تلك البسمة الندية، التي حين تتحدث صاحبتها تسمع كلماتها لكن لا ترى حركات النطق على الشفتين، يخيل للمستمع إليها أنها ملاكين معا, أحدهما صامتاً، والآخر ناطقاً.. ويميل العربي في لحظة الانفعال والتفاعل على الجمع بينهما.. هي أميل إلى الصمت لكن يراها الحديث الذي لا ينقطع، ولا ينتهي، عباراتها قليلة غير أنها بالنسبة إليه تروي قصص الأولين و أمال الآخرين .
لا تكتفي " شهرزاد " بأحاديث الهاتف – مهما طالت – بل تصحبها في اليوم نفسه برسائل طويلة, تستنطق فيها الكلمات وتبوح بما في النفس فتأتي العبارات وجلة.. تبطن أحيانا خلاف ما تظهر , فتبدو عندها أميل إلى الرمز والإشارة ، تاركة للعقل مساحة أوسع للتفكير، وتشبع لدى العربي لذة مفردات اللغة العربية التي يحبها .
من كلماتها المناسبة على الصفحات يراها العربي ماثلة أمامه رغم بعد المسافة, متسائلة عن هم العروبة الثقيل، معيدة ملاحظة الأساتذة حين أبدوا في السنوات الدراسية الماضية تعويلهم عن العربي, فقط لأنه عربي حتى النخاع.. وكانت تتساءل دائماً:
ما معنى أن يحمل الإنسان هموم الذات والهوية؟ ما معنى أن يحمل الإنسان هموم الخلق كلهم ؟ ما معنى أن نؤرق كل يوم بالسؤال عن اختيارات ما كانت لنا يد فيها؟
أسئلة الذات تلك تأتي كلما طال النقاش مع العربي، غير أفعال لا تفصح عنها كما هي دائماً, توجهها لنفسها ثم تحتفظ بالإجابة في الأعماق، في العقل الباطن، ولا تسمح لها بالظهور حتى عندما يؤرقها كلام العربي ، حين تغدو الحياة لديه مجرد قيم يذكرها أو يعيد التذكير بها، وهو على مستوى الفعل منها براء.
*
مع الأيام ولبعد المسافة بينهما تحولت إلى متحدثة, ها هي تدخل مرحلة جديدة، ليست مرحلة انتقالية، ولا هي البداية، ولا حتى النهاية, هي نفسها لم تعرف ترتيبها الزمني..فتلك المنصة بحذر كلما استمعت للعربي أو للآخرين حولها بعد المسافة مع بقائها في نفس المكان إلى امرأة تهوى الكلام، تحوله إلى نص مكتوب, تبدو فيه أقوى مما كان يعتقد العربي، فاللطف لم يعد حالاً من التميز الخاص كما كان عند المشاهدة عن قرب، فبعد المسافة بينهما حوله مصحوب باللّين ،إلى شدة وعنف يأتي بشكل نصائح تحمل كشف الحجب عن النهايات التي تراها بخوف نهاية العربي إن واصل السير على نفس الطريق, وذلك حين يبلغها أصدقاؤه أحياناً بالمصير الذي آل إليه، منشغلين بحياته، تاركين حياتهم الممزقة بين جاهلية قراهم النائية في الجزائر وبين القاهرة والإسكندرية حيث العلم والتمدن.
*
لم تبلغ شهرزاد بالهم الذي يحمله العربي منذ الصغر لذلك لم تع, مثل الآخرين, أن تحوله إلى قطرة في بحر القاهرة يجمع بين القبول والإجبار, فهو قبول لمعرفة هؤلاء القوم الذين شكلوا قلقا لكل العرب ، وهو إجبار لأنه يبحث في رحلته عن معرفة الموقف المضاد لهم وموقفهم المنحاز للذات على حساب الآخرين، وعليه أن يعيش بين ظهرانيهم وتحضير رسالة الماجستير في كلية الأدب,جامعة القاهرة, صيغة شرعية لوجود منظم ، مقبول قانوناً ومبررا.
*
لقد تحول العربي إلى قطرة في بحر القاهرة, غير أنها لم تفقد خصوصيتها , بقيت متميزة, فلم تتبخر بحرارة الحياة وصعوبتها، ولم تفقد صلتها ببحرها الأول، حتى عندما رفعتها سحب البحث إلى سماء الحقائق, حينما اكتشف موقع العرب في الحقل العالمي للثقافة، وفي السلطة، وفي شرعية الوجود.
*
أدرك العربي من رسائل شهرزاد ومكالماتها خوفها عليه من أن يتبخر في جو القاهرة ويندثر، لذلك عمل على توضيح الصورة لها قائلا:
*
إنني مثل قطرات المطر لست وحيداً في دنيا العرب، أجتمع مع الآخرين فهم مثلي يحملون نفس الهموم, وإن عبروا عنها بطرق مختلفة
*
وكانت تعلق على مثل تلك الردود بقولها:
*
- الخوف عليك من الذوبان السريع فما تراه تكيفاً هو تنازلاً .
*
ويرد عليها موضحاً :
*
- التنازل يكون من المالك وأنا لا أملك شيئاً.
*
- تملك فكراً واعياً .. هكذا علقت شهرزاد.
*
- نملك أقوالاً, لأن الأمة التي تملك فكراً لا تنتهي إلى هذا الحال .
*
يطمئن قلب شهرزاد حين تعيد قراءة ما جاء في رسائله أو حين تعيد مرات عديدة الاستماع لما ذكره في الشرائط، التي كان يرسل بها إليها، أو حين تنظر إلى الدمية التي أهداها لها في سنته القاهرية الأولى ، يوم زارها ليراها قبل الأقارب والأصحاب، ولو استطاع أن يراها حين وصل مطار "هواري بومدين" لفعل.. بل لو استطاع أن يراها من نافذة الطائرة قبل النزول لفعل.. فهي بالنسبة وجه الجزائر الندي.. الذي يختصر التاريخ العربي ذو التراث الفاطمي والساحل والجبال والمدن والحضر، وثقافة المواجهة عندما تكالبت الأمم على الجزائر في فترات الانكسار، وعندما قدمت فلذات الأكباد من أجل الانتصار.
*
حين تدنو, في كلماتها تحرك ما في الوجدان طهراً ونقاء، وقد بنيت العلاقة بينهما على هذا الأساس، تخاف من غضبه، ويخاف من انزعاجها، تسمع إليه حين يتحدث، ويراها ناطقة في صمتها، ورغم سنوات الدراسة الجامعية التي كان فيها الحديث ا هو اللغة المتداولة بينهما, فإن السنتين اللتين قضاهما في القاهرة كشفتا على أن الحديث المكتوب أقوى لديها.. فهي تملك ناصية اللغة, تؤرقها مفرداتها ومعانيها، مع أن دراستها كانت في صلب الشرائع القانونية من "حمورابي"إلى "مونتسكيو" وحين لحقت به لإتمام دراستها العليا في القاهرة، ركزت على فلسفة اللغة دون ترك ونسيان لفلسفة القانون.
*
في القاهرة أحبت شهرزاد النشاط الدءوب للبشر، وكرهت الصراخ المتواصل الذي يأتي من تلك الأصوات المختلطة وغير المميزة، التي تجمع من آهات البشر وأصوات محركات السيارات، يضاف إليها أصوات الحمير في ضواحي القاهرة ، لكن مثل هذه المتناقضات ما كانت لتصدها عن أهدافها، حيث لم تضيع سنواتها في تطبيق وصية بدّه عيشوش مع العربي، وإنما فضتها في وصية الخالق حيث ضرورة السير في بلد الآثار, وفي دروب العلم لمعرفة سبل الخروج من التخلف.
*
*
الحلقة المقبلة
*
الناصريون.. وبسمة الشرطي الحزين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.