خلال قمة نيويورك..بريطانيا والبرتغال تتّجهان للاعتراف بدولة فلسطين    أفغانستان : طالبان ترد على ترامب بشأن إعادة قاعدة باغرام لأمريكا    المهرجان الثقافي الدولي للمالوف بقسنطينة : محطات طربية ماتعة في السهرة الافتتاحية    عرض شرفي أول بقاعة سينماتيك الجزائر "عشاق الجزائر" .. قصة إنسانية بخلفية تاريخية    ضمن منتدى الكتاب..الكاتبة حمزة حياة تعرض إصدارها "قطوف نثرات نبراس"    الكونغو الديمقراطية : تفشي "إيبولا" عبء إضافي يُفاقم أزمة البلاد    الدخول الجامعي 2026/2025: قرابة مليوني طالب يلتحقون غدا الاثنين بالمؤسسات الجامعية    العدوان الصهيوني على غزة : ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 65283 شهيدا و 166575 مصابا    مُقرّرون أمميون يراسلون المغرب    مغني يستعيد ذكريات اختياره الجزائر    من يستحق الفوز بالكرة الذهبية؟    الهلال الأحمر يوزّع 200 ألف محفظة مدرسية    الأسرة والمدرسة شريكان    الجزائر عضواً مراقباً في الآيبا    عطّاف يوقع على اتّفاق دولي بنيويورك    بريد الجزائر يعتمد مواقيت عمل جديدة    70 عاماً على معركة جبل الجرف الكبرى    أمطار ورعود مرتقبة عبر عدة ولايات من الوطن ابتداء من يوم الأحد    إيطاليا تستبعد الكيان الصهيوني من المشاركة في معرض السياحة الدولي بفعل تواصل جرائمه في قطاع غزة    ناصري يهنئ جمال سجاتي المتوج بميدالية فضية في سباق 800 متر بطوكيو    الصحراء الغربية: المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة يصل إلى مخيمات اللاجئين الصحراويين    افتتاح الموسم الثقافي الجديد بعنابة تحت شعار "فن يولد وإبداع يتجدد"    تجارة خارجية: رزيق يترأس اجتماعا تقييميا لمراجعة إجراءات تنظيم القطاع    مولوجي تعطي إشارة انطلاق السنة الدراسية 2025-2026 لفئة ذوي الاحتياجات الخاصة    الدخول المدرسي 2025-2026: وزير التربية الوطنية يعطي إشارة الانطلاق الرسمي من ولاية الجزائر    لقاء مع صناع المحتوى    ستيلانتيس الجزائر توقع اتّفاقية    انطلاق دروس التكوين المتواصل    بن زيمة يفضح نفسه    قافلة تضامنية مدرسية    12 مليون تلميذ يلتحقون اليوم بمقاعد الدراسة    هكذا تتم مرافقة المكتتبين في "عدل 3"    جمال سجاتي يفتك الميدالية الفضية    طغمة مالي.. سلوك عدائي ونكران للجميل    الفن أداة للمقاومة ضد التطرّف والانقسام والإرهاب    94%من الضحايا مدنيون عزل    تفكيك شبكة إجرامية خطيرة    جهود للدفع بعجلة التنمية بسكيكدة    التحضير للبطولة الإفريقية من أولويات "الخضر"    توات تعرض زخمها الثقافي بمدينة سيرتا    فارق الأهداف يحرم الجزائريات من نصف النهائي    هذه إجراءات السفر عبر القطار الدولي الجزائر-تونس    الجزائر تستعرض استراتيجيتها لتطوير الطاقة المتجدّدة بأوساكا    إجلاء جوي لمريض من الوادي إلى مستشفى زرالدة    العاب القوى مونديال- 2025 /نهائي سباق 800 م/ : "سعيد بإهدائي الجزائر الميدالية الفضية"    تثمين دور الزوايا في المحافظة على المرجعية الدينية الوطنية    الوفاء لرجال صنعوا مجد الثورة    فيلم نية يتألق    المعرض العالمي بأوساكا : تواصل فعاليات الأبواب المفتوحة حول الاستراتيجية الوطنية لتطوير الطاقات المتجددة والهيدروجين    إقرار جملة من الإجراءات لضمان "خدمة نموذجية" للمريض    تحية إلى صانعي الرجال وقائدي الأجيال..    يعكس التزام الدولة بضمان الأمن الدوائي الوطني    تمكين المواطنين من نتائج ملموسة في المجال الصحي    أبو أيوب الأنصاري.. قصة رجل من الجنة    الإمام رمز للاجتماع والوحدة والألفة    تحوّل استراتيجي في مسار الأمن الصحّي    من أسماء الله الحسنى (المَلِك)    }يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ {    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



... وأمن... بلا أمن!
نشر في الشروق اليومي يوم 16 - 03 - 2010

عندما يسكن الخوف نفوس وعقول الناس، وعندما يتحاور المتخاصمون، في جزائرنا، بدل لغة الحوار والإقناع، بلغة السلاح والرصاص، عندها أيقن بأن البلد قد دخل مرحلة الزعازع والاضطرابات، وعمه الإحباط واليأس.
فلا أسوأ، في حياة أمة ما، من أن يستبدّ بها القنوط، ويسود معالم حضارتها مشهد التدهور والسقوط. ولحكمة إلهية قصّ القرآن علينا، بأن، القرى والأمم التي عبثت بالثوابت والقيم، وكفرت بأنعم الله وفقدت الذمم، عوقبت بالجوع والخوف كأقسى أنواع التشرذم والألم. (وضرب الله مثلا، قرية كانت آمنة مطمئنة، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرت بأنعُم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) سورة النحل الآية: 113.
ومن أظلم، من جزائر، وهبها الله كل الخيرات والنعم، ماء، وجنات، وأنهار، وطاقات، وإنسان، وأثمار، كأنما عَنِيَها أمير الشعراء أحمد شوقي حينما وصف مثلها في قوله:
يا أهل أندلس، للّه دركم
ماء، وجنات وأنهار
ما جنة الخلد إلا في دياركم
ولو تخيّرت، هذي كنت أختار.
وأجمل من هذا وأصدقه ما قال الشاعر الجزائري أبو الحسن ابن الفقون، في وصف الناصرية أو مدينة العلم والجمال والعلماء، بجاية حين قال فيها:
دع العراق، وبغداد وشامهما
فالناصرية، ما إن مثلها بلد
بر، وبحر، ومرج للعيون بها
مسارح بان عنها الهم والنكد
يا سائلا، عن وصفها، إن كنت ذا نصف
قل جنة الخلد، فيها الأهل والولد
وبدل أن ينعم الإنسان الجزائري، في هذه الجنة التي حباه الله إيّاها، بنعمة الأمن، والأمان والإيمان، فيسود أرضه الحب، والإخاء والصفاء، ويحظى كل واحد على قدر جهده وكفاءته، بعدل توزيع الثروة، ونبل السخاء والعطاء، ها هي ذي مظاهر العنف، والقمع والقتل هي السائدة، مما يجعل الجميع شيبا، وشبابا، وكهولا، وولدانا، وذكورا، وإناثا، يتساءلون في حيرة وحسرة: إلى أين؟ أي مصير ينتظرنا؟ وأية جزائر ستقلنا؟
إن ما تقدمه الجزائر لأبنائها، من مشاهد الدم، والقتل، والتمرد، لممّا يدمي القلب ويدمع العين، ويبعث على اليأس والغين.
ففي كل مجتمع إنساني، يمثل الشباب حلقة القوة، في سلسلة البناء، إلا في جزائرنا، فقد تحول الشباب إلى حلقة ضعيفة، بعدما ألقينا به في هوة الفراغ المقيت، فجعلنا من شبابنا، أفرادا متسكعين، "انتحاريين" و"حيطيست"، و"حرّاقة"، وإرهابيين، ولصوص، يسيرون فاقدي البصر والبصيرة، وعديمي الانتماء للوطن والعشيرة، فهم ممن يخوّف الله بهم عباده.
وما بلغْنا هذا الدرك الأسفل من السقوط، إلا عندما قمنا بتجفيف ينابيع التكوين، والتربية والتعليم. فالمدرسة التي هي مصنع الأجيال، ومنتجة الأحرار والحرائر، من النساء والرجال، حادت عن سيرها، وأصبحت منكوبة، بتلاميذها ومعلميها، ومسيريها.
فقدت المدرسة رسالتها الحضارية، عندما أصبحت "تأوي" ولا تعلم، و"تجمع" ولا تربي.
لقد تحول فيها، المعلم إلى مجرد أداة، وإلى ألية للعمل، فما هو إلا للتسلق سلم، كما يقول أحمد غنيم:
على كتفيه يبلغ المجد غيره
فما هو إلا للتسلق سلّم
وما ذلك إلا بعد أن احتقرته الإدارة، وظلمه المجتمع، واعتدى عليه في قسمه، أصغر تلاميذه، فإذا طالب بحقه، سلطت عليه أقسى العقوبات، وجوبه بالتجاهل واللامبالاة، وكيف يرجى، لأمة هذه أعراض مرضها، المستبد بالقلب والرأس، أن يكتب لها النهوض فإذا عدنا إلى الصحة البدنية، وإلى هيئة الأطباء والممرضين، فإننا نستكشف أهوالا يشيب لها الولدان، وأخبارا سار بذكرها الركبان.
فهل أتتكم أخبار الصحة الجزائرية المريضة بأطبائها، وقد أمطروا ضربا وشتما، ممن كانوا يعالجونهم في ساعة العسرة؟ فالصحة في جزائرنا على رأي الفنان الجزائري رابح درياسة "هي تداوي في المرضى، وطبيبها مجروح". فهل يرجى الشفاء، لبلد يصبح فيه الطبيب مريضا أو مجروحا بفعل العدوان عليه، لمجرد أنه طالب كغيره بحق الوجود كطبيب؟ فمن يداوي الطبيب إذن، إذ هو مرض؟
وكيف يجرؤ رجل أمن، أن يشهر السلاح أو حتى العصا في وجه المثقف، مربيا كان أو طبيبا، أو غيره، وهو نتاج هذا المثقف الذي أوصله إلى هذه الدرجة من المسؤولية، وهو الذي سهر على تربيته، أو علاجه يوم كثُر المعتدون، وتعدد المصابون؟
لكن إذا عرف السبب، بطُل العجب، فهذا رجل الأمن، يصبح ضحية أسلوبه الأمني، فلا يسلم من أقرب مساعديه، وما حادثة اغتيال الرجل الأول في الأمن، من طرف الصاحب بالجنب، إلا انعكاس لخطورة ما نحن فيه. فإذا أضفنا إلى هذا ظروف ما أحاط بالواقعة من ملابسات في التعامل معها، أدركنا أكثر خطورة الوضع. فلا نعرف إلى الآن كيف تسلل إلى مكتب المسؤول الأول في الأمن رجل بسلاحه حتى ولو كان من المقربين. ولا نعلم مدى صحة ما أشيع من أن الجاني، أصيب بنوبة جنون جعلته يقدم على المسؤول الأول بالتحديد ودون غيره فيقتله. وهل يتوقع من مجنون أن يميز بين هذا وذاك، في حالة جنونه؟ ثم هل أقدم فعلا على الانتحار بعد جريمته؟ فكيف اهتدى إلى المقاتل في تصويب الرصاص إلى مسؤوله، ولم يستطع أن يقتل نفسه برصاصتين؟ ثم هل كانت الحادثة معزولة كما ذكر ذلك مسؤولون لهم باع في الميدان الأمني، أم أنها غير ذلك كما ذكرت أسرة القتيل؟
إنها أسئلة حائرة ظلت تبحث لها عن أجوبة شافية في ذهن المواطن، وما زادته إلا حيرة، وقلقا.
والحقيقة الأولى أنه في مثل هذه الظروف، يمكن قياس درجة الاتزان، والحكمة، والتعقل في معالجة الأحداث. صحيح إنما الجزع عند الصدمة الأولى كما في أثرنا، ولكن كما يقول مثلنا الشعبي "كن حزينا، وكن رزينا".
والحقيقة الثانية، هي أن الجزائر ما وصلت إلى هذا الاضطراب الأمني الذي يسود حياتها العامة، إلا بعد مرورها بمراحل عديدة لا نزال نلمس آثارها السلبية في حياتنا اليومية ومنها:
1- ضياع العدل، والثقة بين المواطن وأخيه، وبين المواطن وحاكمه، وكما يقول أحد المفكرين الغربيين: إذا كنت متعطشا إلى العدل، فإنك ستظل دوما تعاني من العطش؛ ذلك لأن العدل لا يحتاج إلى سند غير القانون الذي ينتجه، بينما الظلم لا يقوم إلا إذا استند إلى عكاكيز يتكئ عليها، وهي الرشوة، والمحسوبية، والفساد بجميع أنواعه، وأوله فساد الذمة.
2- إن السنوات العجاف السوداء، والحمراء التي عانيناها، لاتزال تلقي بظلالها على حياتنا، مما جعل الحابل يختلط بالنابل، والقاتل بالضحية، إلخ.
3- إننا نعاني إلى اليوم آثار الغارة العدوانية علينا، أي على هويتنا، وعلى ثقافتنا، وعلى معالم حياتنا المادية والمعنوية، وإذا كنا وقد وحدنا ألوانا من سياج الحديد، نحيط به منازلنا من اللصوصية والإرهابية، فمن يحمي عقولنا، ونفوسنا، وبيوتنا من عدوانية الانسلابية، والانسلاخية، وكل ألوان المساس بأمن الشخصية الوطنية؟
يقول الكاتب العربي توفيق الحكيم: "إن السماء هي المنبع، فمنها نستمد معنى السمو والعلو في القوانين والقيم"، ونحن نقول: "إن المواطن هو قمة ونبع الأمن والأمان والإيمان، في أي مجتمع، فالمحافظة على أمن وإيمان المواطن، هي الضامن بكل أنواع الأمن على جميع المستويات، وفي كل الميادين، فإذا لم نحقق ذلك فإننا سنكون كمن يكتب على الماء".
ورحم الله العالم الرباني الشيخ أحمد سحنون في الخالدين، حينما لخص أزمة الجزائر في عشريتها السوداء الدموية في بيتين من الشعر، أنطقه الله بهما حين قال:
سئمت حياتي فهي سجن مؤبّد
وليس بغير الموت أخلص من سجني
صديق بلا صدق، وعلم بلا تُقَى
ودين بلا فهم، وأمن بلا أمن
إننا نعيش حقا الأبعاد العميقة لهذه المعاني، بانعدام الثقة بين الأخ وأخيه، والصديق وصديقه، والمرؤوس ورئيسه، كما نشهد الانتماء إلى العلم دون التقيّد بأحكامه قولا وفعلا، وأبرزها التقوى. ونعاني أزمة المندسين تحت جبّة الدين دون علم أو فهم، فيصبحون أداة هدم باسم الدين، وما جعل الدين إلا لنشر المحبة، والأخوة، والتسامح. وأخيرا هذا هو الأمن الذي يقتل فيه رئيسه من مرؤوسه، فاعجب إذن لأمن ينعدم فيع الأمن!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.