الفريق أول السعيد شنقريحة يؤكد: يجب التيقظ والاحتراس و تنفيذ المهام بدقة وصرامة    ممثلا لرئيس الجمهورية: العرباوي يشارك في قمة المؤسسة الدولية للتنمية بكينيا    وزارة التربية تضبط ترتيبات العملية: تعليمات بتسجيل التلاميذ الجدد في المدارس القريبة من الإقامة    بعد الإعلان عن خفْض الفوائد البنكية على قروض الاستثمار: قرارات الحكومة تريح المستثمرين    سونلغاز تفتح أزيد من 550 منصب شغل بولايات الجنوب    لموقفها الداعم لحق الفلسطينيين قولا وفعلا: هنية يعبر عن إجلاله وإكباره للجزائر    حراك الجامعات الأميركية يمتد إلى كندا وأوروبا وآسيا    بعد مسيرة تحكيمية دامت 20 سنة: بوكواسة يودع الملاعب بطريقة خاصة    3 تذاكر ضاعت في نهاية الأسبوع: الثنائي معمري يرفع عدد المتأهلين إلى دورة الأولمبياد    تهيئة عدة شوارع للقضاء على مظاهر الترييف: 110 ملايير لربط 1300 سكن بالكهرباء في الطارف    لحماية سكيكدة من الفيضانات: وزير الري يوافق على تسجيل مشروع سد بوشطاطة    وزيرة التضامن كوثر كريكو: الجزائر وفرت الآليات الكفيلة بحماية المسنين    مختصون يشرحون آليات التدخل ويقترحون حلولا    عون أشرف على العملية من مصنع "نوفونورديسك" ببوفاريك: الجزائر تشرع في تصدير الأنسولين إلى السعودية    اتحاد العاصمة لم يلعب مقابلة أمس    لأول مرة في الجزائر: «اتصالات الجزائر» ترفع سرعة تدفق الانترنت إلى 1 جيغا    اتفاق على استمرار وتوسيع التشاور مع باقي الفصائل الفلسطينية    مساهمة جزائرية كبيرة في البنك الإسلامي للتنمية    الجزائر-قطر..علاقات متميّزة وتوافق حول أمّهات القضايا    دور الجزائر سمح بتحقيق نجاحات دبلوماسية كبيرة لصالح فلسطين    يعيشون وضعية صعبة مع فرقهم: قبل توقف جوان.. 3 لاعبين يثيرون المخاوف في صفوف "الخضر"    مخلفة خسائر في الأرواح والمعدات في صفوف قوات الاحتلال: الجيش الشعبي الصحراوي يستهدف قواعد عسكرية مغربية    مواجهة كل من يسيء للمرجعية الدينية ولثورة نوفمبر    تحدّ آخر يرفعه الرئيس تبون.. وإنجاز تاريخي    القضاء على إرهابي بالناحية العسكرية الأولى بالشلف    بطولة إفريقيا لكرة الطائرة/ سيدات: فوز مشعل بجاية مام آسيك ميموزا الإيفواري    قسنطينة: دخول "قريبا" فندق سيرتا العمومي حيز الخدمة بعد إعادة تهيئته    تعزيز القدرات والمهارات لفائدة منظومة الحج والعمرة    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: انطلاق ورشات تكوينية في مهن السينما لفائدة 70 شابا    برج بوعريريج.. 7 مخازن عملاقة لإنجاح موسم الحصاد    التراث.. ثابت في مكوّنات الهوية الوطنية    الصحراء الغربية: إبراز دور وسائل الإعلام في إنهاء الاستعمار خلال ندوة بالإكوادور    باتنة: إجراء عمليات زرع الكلى بحضور أطباء موريتانيين    الصهاينة يتوحّشون في الضّفة    لحوم الإبل غنية بالألياف والمعادن والفيتامينات    داس عنابة يؤكد: مرافقة قوية لمسنين دار الصفصاف لإدماجهم اجتماعيا وتدعيمهم صحيا    الكرة الطائرة/ بطولة إفريقيا للأندية/سيدات: جمعية بجاية تتغلب على ليتو تايم الكاميروني (3-2)    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 34 ألفا و454 شهيدا    الرئيس يكرّم قضاة متقاعدين    الجزائر الجديدة.. إنجازات ضخمة ومشاريع كبرى    قسنطينة: السيد ديدوش يعاين عديد المشاريع الخاصة بقطاعه    وزير التربية لجمهورية زامبيا يزور جامعة الجزائر 1    استئناف حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة بالنسبة لمطار أدرار    فلسطين : العدوان الإرهابي على قطاع غزة من أبشع الحروب التي عرفها التاريخ    غرداية : اقتراح عدة معالم تاريخية لتصنيفها تراثا ثقافيا    نطق الشهادتين في أحد مساجد العاصمة: بسبب فلسطين.. مدرب مولودية الجزائر يعلن اعتناقه الإسلام    مباشرة إجراءات إنجاز مشروع لإنتاج الحليب المجفف    أكتب لأعيش    شبان "المحاربين" يضيّعون اللقب    لو عرفوه ما أساؤوا إليه..!؟    رياض محرز ينتقد التحكيم ويعترف بتراجع مستواه    إنجاز جداريات تزيينية بوهران    15 ماي آخر أجل لاستقبال الأفلام المرشحة    منظمة الصحة العالمية ترصد إفراطا في استخدام المضادات الحيوية بين مرضى "كوفيد-19"    حج 2024 : استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    مدرب مولودية الجزائر باتريس يسلم    دروس من قصة نبي الله أيوب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صحفي الشروق يروي تجربته مع اسطول الحرية : الجزائريون واجهوا الكومندوس بعزيمة نوفمبر

الاثنين، الواحد والثلاثين من شهر ماي، تاريخ سيدونه معظم المشاركين في أسطول الحرية باعتباره ميلادا جديدا، عانقوا فيه الحياة مرة أخرى بعد ما شموا رائحة الموت تقترب منهم، لكنه موت ليس كبقية الميتات الأخرى، ونهاية أسطورية لا تشبه غيرها من النهايات، انه موت البقاء داخل أسطول الحرية وشهادة الوفاء والإيمان بالوجود في عصر غابت فيه الشهادات؟!
*
* نصيحة يعقوب.. والتحضير للغزوة!
* ليلة الاثنين إلى الثلاثاء، الفاتح جوان، دخلت مهرولا إلى مكاني الموجود رفقة الوفد الجزائري في الصالون الثاني من سفينة "مرمرة" التركية، الوضع لم يكن عاديا، وتفاصيل السفينة ومكوناتها بدأت تأخذ شكلا مختلفا... صديقي التركي يعقوب، الذي علمته قليلا من العربية، وعشق الضاد كما لو أنها لغته الأولى، وجدته في الصالون، متأهبا، مستعدا، وكأنه سيحارب كيانا يعرفه جيدا، وهو الذي لم يغادر تركيا منذ ميلاده قبل 25 سنة، قال لي: "استعد، سيهاجمون الأسطول الليلة"؟! ذهبت إلى مكاني، فتشت حقيبتي الصغيرة، وأخذت كاميرا التصوير الرقمية التي كنت قد أفرغتها مسبقا من كل الصور، تحسبا لصور ولقطات جديدة، كنت في كل مرة، أقوم بنفس العملية، لأن ذاكرة الكاميرا لم تستطع احتمالا أمام نهمي في كل مرة بالتقاط مشاهد مثيرة جديدة، حتى آلات التصوير التي أخذها زميلي في بعثة الشروق، حليم، لم تكن لتتحملنا؟!
* صعدت إلى السفينة، وجدت الشاب البريطاني، ذو الأصل الجزائري، محمد، مختلفا عن كل المرات التي شاهدته فيها، منذ تعرفت عليه قبل ثلاثة أيام، هذه المرة، كان يضع عصابة على رأسه تحمل شعار "لا اله إلا الله محمد رسول الله"، وفي عينيه لمعان خاص، وإصرار على مواجهة ما سيأتي، مهما كان هذا الذي سيأتي، خطيرا أو مرعبا، صادما ومؤثرا.. صعدت إلى الطابق الثاني، كان الجميع يهرول، وقد ارتدى بزة الإنقاذ من الغرق، فظهر اللون البرتقالي طاغيا على السفينة ومن فيها، لكن لا أحد كان يتصور، حتى أكثر المتشائمين على ظهر مرمرة، بأن البرتقالي سيتحول إلى لون أحمر، بعد ساعات قليلة؟!
*
* الجزائريون.. معركة من رحم ثورة نوفمبر!
* في مقدمة السفينة، انزوى الوفد الجزائري، بنوابه وأئمته وناشطيه، ماعدا النساء، لمواجهة أسرار ليلة ليست كبقية الليالي.. في الطليعة، كان عبد الرزاق مقري، رئيس الوفد، يرفع صوته عاليا وسط الجماعة، وكأنه قائد حرب، أو مدبر غزوة، "يا جماعة... من فضلكم، التزموا أمكنتكم، لا أحد يتحرك من مكانه إلا بأمر مني أو من زين الدين".. البقية، جلسوا ينظرون، بدهشة، أو بلوعة، عيونهم مفتوحة، تأبى النوم، قلوبهم مشدودة إلى البحر وإلى ما وراء البحر، هناك في غزة، وهنا غير بعيد عن الجزائر؟!
* مقري طلب مني وهو يوزع بعض القضبان الحديدية لحماية السفينة من القرصنة، أن أتخذ احتياطي أنا أيضا، خيرني قائلا: "هذا لك، إن أردت الدفاع عن نفسك..."، وقتها، لم أرد، بالموافقة أو بالرفض، لكنني كنت أعتقد أن بقاء قضيب حديدي إلى جانبي، أهم بكثير من مواجهة العدو الإسرائيلي بآلة تصوير، فالحرب "إعلامية" حقا، لكنها لا تخلو من بعض المواجهة بوسائل أخرى وطرق مغايرة؟!
* في تلك الليلة الباردة جدا، رأيت البحر بشكل مختلف، يختلف عن كل المرات التي كنت أشاهده فيها، بوهران، المدينة التي أقطن فيها، كان البحر عنيفا رغم هدوء أمواجه، مخيفا رغم صمته، مليئا بالأسرار رغم معرفة الجميع بهوية من يتحرك فيه؟!
* صديقي عز الدين، من مجموعة شمس، اتخذ مكانا قريبا مني في الحراسة، حاول التقليل من حجم ما سيقع، استمر في مداعبتي بالنكت، وبكلام أحسست خلال سماعه أنني جسد في بحر غزة، وروح تحلق في سماء العاصمة، وحسين داي، ووهران وبلعباس، وتبسة وعنابة وقسنطينة.. وفي كل مدينة من مدن الجزائر.. كان بين الفينة والأخرى، يصدح بنشيد أو بآيات من القرآن الكريم، أو بأشعار يحفظها عن ظهر قلب، محاولا التخفيف عن الجميع، وهو الفتى الذي مايزال في عقده الثاني... أعطاني سبحة، وقال لي بلغته الشعبية القادمة من عمق القصبة ورحم سوسطارة..: "شريكي، هاذي باش تتفكرني"؟!!
* سبحة عز الدين، كانت أغلى هدية تلقيتها على ظهر السفينة، وكانت أغلى هدية رمزية ضيعتها أثناء المعركة؟!!
* على بعد أمتار قليلة، من مكان تواجد الوفد الجزائري، كان هناك الكويتيون والمغاربة والبحرينيون.. الجميع كان متأهبا، مستعدا، لكن الجميع كان يدرك أيضا أنه لا سبيل لمواجهة هذا الكومندوس القادم من أعماق البحار والنازل من سماء تلبدت بالغيوم في لحظات، وكأنها تنبئ ببداية وجدية ما وصفه العدو بعملية أجنحة السماء، لكن دعاء: "الله معنا" كان الغالب، والمؤثر والجالب للخير والشجاعة، والجرأة في مواجهة الكومندوس... شيخ بحريني، ضخم الجثة، ظل واقفا على حافة السفينة وكأنه يواجه العدو، عاري الصدر، قوي العزيمة... وشيخ أردني آخر، تجاوز عمره الثمانين، لم تكن تعني له الحرب الكثير، بقدر ما كان ينتظر آذان الفجر ليقيم الصلاة، فهو بيني يدي الخالق لا يخاف من أي مخلوق مهما بلغت سيطرته وعلت غطرسته على وجه الأرض؟!
* عز الدين، ابن سوسطارة والقصبة، قال لي: "هذه الليلة، هي الأهم في حياتي، لم أعشها من قبل ولا يمكن أن أعيشها في الآتي"، لم أناقشه كثيرا، فقد كنت متفقا معه على أهميتها، متجاوبا معه في تصريحه.. فقد كان مجرد الانتظار حدثا كبيرا، لم نعشه في حياتنا أبدا... بعد دقائق، طلب مني زميلي الصحفي عبد اللطيف، أن أذهب إلى علية السفينة، لأتكلم، في هاتف الثريا مع عائلتي، أمي وأختي اللتان لم أحدثهما منذ 3 أيام بسبب انقطاع الاتصالات.. أسرعت وكأنني أسابق الوقت، أفتش عن لحظات جديدة للحياة قبل موت لم نكن نعرف مجيئه مباغتا، لحظات أستعيد فيها ثقتي بنفسي، وجرأتي على مواجهة الكومندوس محملا بدعاء أمي، ومن ورائها دعاء كل نساء فلسطين وغزة.. اصطدمت في طريقي مع الكثير من الأتراك الذين تجمعوا أعلى السفينة، هناك وجدت جمعا كبيرا من الأتراك والغربيين والصحفيين والناشطين، أهمهم، رئيس منظمة الاهاها التركية، بولاند يلدرييم... آه، كم أصبحت أعشق هذا الرجل الشجاع، هدوءه لا ينافسه أي هدوء، وبرودته تجلب كل الانتصارات، انه جنرال بدون نياشين أو أوسمة، وبطل لا يحتاج إلى تاريخ يحفظ اسمه، وشهيد يتحرك على رجليه.. كان يلبس قميصا أبيض، وسروالا رياضيا، لكن أهم ما لفتني فيه، هو أنه كان لا يضع أي واق للرصاص وهو المستهدف الأول على ظهر السفينة، حينها، احترمته كثيرا، أعجبت به، قدّست وجوده، واحتقرت بيني وبين نفسي، كل أصحاب البدل الأنيقة من الرسميين العرب وجنرالات المنطقة الذين لم يطلقوا رصاصة واحدة في حياتهم... المنافقون الذين ركبوا موجة السفينة بعد إقلاعها واختطافها، وصيادو الفرص الذين قرصنوا أمجاد ما صنعه بولاند ورفاقه؟!
*
* دموعي... وابتساماتي!
* هاتف الثريا الجزائري، كان مع أحمد لطيفي، رجل الأعمال الذي كان رقما صعبا في الوفد، كريم جدا، شجاع جدا، ولا يجعل أي شخص من الوفد الجزائري أو حتى العرب، يحس أنه غريب عن أهله وبلده.. طلبت منه أن أكلم عائلتي، ففوض شابا يدعى أسامة، وهو فلسطيني كلف بالإعلام في السفينة، بتدوير الرقم لي، أخفقت في محاولتي الأولى، مثلما أخفق صديقي الصحفي حميد في تكليم زوجته، لكنني كنت أكثر حظا منه في المحاولة الثانية.. لم أصدق أنني أحمل الجزائر في يدي.. قلت "آلو؟".. لم أسمع الرد، لكنني سمعت أنفاس أمي الحبيبة، لم أسمع صوتها، بيد أنني رفضت عدم تكليمها.. قلت لها آسف من أعماقي، آسف، لأنني لم أخبرك بمجيئي لغزة، آسف على خوفي من مواجهتك.. بكيت سرا، وأخفيت دموعي بين أمواج البحر.. أرجعت الهاتف، وظننت أن الله لن يكتب لي بعدها، لقاء آخر مع أمي وأختي ورفاقي، أو مع أرض الجزائر وسمائها ومائها وهوائها، لكنه عزيز، جبار، كبير، مقتدر؟!
* في سطح السفينة، رأيت صديقي عز الدين يتحدث في لقاء عبر قناة الحوار اللندنية التي أرسلت صحفيها النشيط جدا، التونسي صالح الأزرق، لتغطية الحدث، فكان أبرز الإعلاميين على السفينة.. قال عز الدين في النداء الأخير الذي لا نعلم إن شاهده الجزائريون أو لم يشاهدوه: "يا شباب إذا كانت دماء اللاعبين في القاهرة قد حركتكم بشكل غير مسبوق، وأثارت غضبكم، فنحن الآن بصدد حفظ دماء الملايين من أبناء فلسطين، فهبوا جميعا لنصرة غزة، ولا تخنعوا ولا تركعوا ولا تذلوا، فالوقت قد حان لنقول أننا أمة لها قضية"... النداء كان قويا، والنبوءة التي أطلقها عز الدين كانت مقلقة، لكنها تحققت، بعد ساعات قليلة؟!
* عندما فشلت في الاتصال بعائلتي عبر الهاتف، توجهت مسرعا نحو قاعة الصحفيين لإرسال أيميل، ظننته أخيرا لأصدقائي وزملائي في الشروق، حتى أقول للجميع، مدونا بشرف، أن الحرب قد بدأت والهجوم سينطلق، وحتى أحظى بلقب صاحب الإيميل الأخير قبل الحرب؟!
*
* لا تواصل مع العالم!
* في القاعة، كان هنالك حوالي عشرون صحفيا، من جنسيات مختلف، أغلبها غربية، من اسبانية وأمريكية وسويدية، وكثير من العرب المتجنسين بجنسيات أخرى.. أخذت مكاني أمام جهاز كمبيوتر، تم تثبيته في القاعة، وبجانبي عضو الكنيست، حنين الزعبي، امرأة في الأربعينيات من العمر، من عرب 48.. رآها الجميع وهي تكاد تضرب بعد انتهاء المعركة من طرف المتعصبين في البرلمان الإسرائيلي، بحجة أنها ارتكبت جريمة نقل الدواء والغذاء للمحاصرين في غزة؟!
* فتحت الإيميل، كتبت موضوعا سريعا، بعنوان، "إسرائيل تنفذ تهديدها وأجنحة السماء، تبدأ بحرا"؟! حاولت إرسال الموضوع، لكنني سمعت أصواتا مستاءة في القاعة تشتكي من انقطاع الانترنت، تأكدت من الأمر بنفسي، فالأنترنت انقطعت، والهاتف لم يعد يشتغل، في لحظات تأكدت أننا أصبحنا معزولين، سفينة واحدة في مواجهة أسطول حربي، مدنيون يلاقون كومندوس بصدور عارية، ونساء وأطفال في معركة مسلحة لا يملكون إعطاء إشارة البداية فيها، ولا يدركون نهايتها متى ستكون؟!
*
* أنا... وصحفي الجزيرة!
* عثمان البتيري، صحفي الجزيرة الذي كان يتخذ مكانا له بجانبي في الصالون الثاني، كنا نعتبره مصدر الأخبار الأساسي لنا أثناء انقطاع كل وسائل الاتصالات، نعتمد عليه في الحصول على معلومات جديدة.. في ليلة الهجوم المتوقع، وجدته مهرولا، على غير عادته، وفي يده هاتف الثريا، سألته: "عثمان، هل من جديد؟"، رد بابتسامة تحمل أكثر من معنى: "نتوقع شيئا كبيرا الليلة في حدود الساعة الثالثة والنصف فجرا".. جملة واحدة كانت كافية لأن تجعلني أرجح نهاية مغامرة الحرية في ظرف ساعتين، لكنني وغيري من الصحفيين والناشطين، اعتقدنا بأن الأمر سيكون حصارا لمدة طويلة، وبأن مكان الهجوم سيكون على مشارف بحر غزة، وليس في المياه الدولية؟!
* آه يا عثمان، ماذا رميت في داخلي ورحلت، أنت الذي جربت الاعتقال من الإسرائيليين أكثر من ثلاث مرات، وأنا الذي لم أشاهد في حياتي جنديا إسرائيليا إلا على شاشة التلفزيون؟!
* صحفي آخر من الجزيرة الانجليزية، هو محمد فال، الموريتاني المهذب، الوديع، حاول ملاطفة الأجواء بيني وبينه، في المرة الأولى التي التقيت به فيها، حين قال لي أنه يحب الجزائر كثيرا، وازداد حبه وعشقه لها بعد مقابلة أم درمان التي تأهل فيها الجزائريون على حساب الفراعنة.. قال لي محمد فال متذكرا: "يا أخي، يومها، ضغط علي المصريون في الجزيرة الانجليزية للقول أن المباراة شهدت أحداث عنف، لكنني نفيت وتأكدت بأنه لم يحدث شيء".. سمعت كلامه وابتسمت، دون رد، لعلها المرة الأولى التي لا أجد فيها ردا فيها عن القضية رغم أنها كانت الأهم لنا كجزائريين طيلة الأشهر العشرة الماضية؟!
*
* عيون لا تنام!
* في مكان تواجد الوفد الجزائري، في مقدمة السفينة، سرق البعض لحظات من النوم، طلب مني النائب، زين الدين أن أنام، أحسست أنه مثل والدي وهو ينصحني، قاومته قليلا، قلت له، "يا سي زين الدين، قضيناها نوما منذ وصولنا إلى تركيا، أما اليوم فلا مكان لسلطان النوم".. عاود طلبه، ألح فيه، لم أقاوم هذه المرة، اتخذت مكانا، إلى جانب النائب علي فضل الله من عنابة، والإمام جمال السبتي من بسكرة، وآخرين؟!
* في السفينة، كان الجميع مستعدا، البعض كان يرتل القرآن، وآخرون، يؤدون الأناشيد، ومن أكثر تلك الأناشيد التي ظلت كلماتها تتردد في مسامعي حتى اللحظة الأخيرة قبل الهجوم، تلك التي يقول فيها الأتراك بلغة التوحيد: "لا اله إلا الله"... النشيد ذاته سمعته من الطباخين الذين كانوا يوزعون علينا الأكل، في السفينة، بمعدل وجبتين يوميا، ثم تقلص إلى وجبة واحدة عشية وقوع المعركة؟!
* كثرة استعداد الأتراك وتحولهم إلى جنود بدون أسلحة، لمستها في صلاة العشاء التي سبقت الحدث الجلل... حينها أديت الصلاة خلف داعية من الأردن، ردد فيه هذا الأخير الآيات التي تدعو إلى الثبات، ودعا الله ونحن نؤمن من خلفه بأن يجعل لقاءنا مع اليهود "ميسرا ومنصورا".. بعد الصلاة، اكتشفت أنني أضعت حقيبتي الصغيرة وفيها جواز سفري وآلة التصوير الخاصة بي.. لحظتها لم يكن الأمر سهلا للبحث عنها، فالجميع كان منهمكا في تحضير المعركة، والاستعداد لها.. رأتني الحاجة نجوى.. زوجة الشيخ سلطاني، قالت لي: "عماذا تبحث؟"، فأخبرتها.. قلقت، تحركت، قلبت معي السفينة بحثا عن متاعي المفقود، رأيت في عينيها، وكأنها أمي التي تركتها في وهران، وهي الأم لخمسة أبناء.. طمأنتني لا تقلق، الأتراك لا يتصرفون في أي غرض لا يملكونه، نزلت إلى مكان أمتعتي، وجدت الشيخ الإبراهيمي.. منسق الحملة الجزائرية لفك الحصار، جالسا بهدوء ووقار، أخبرته، فطمأنني هو أيضا.. كانت مجرد لحظات معدودة، قبل أن يخبرني زميلي عبد اللطيف أن متاعي المفقود كان بحوزته، تنفست الصعداء، شكرت الحاجة سلطاني.. لكنني لم أهدأ ليلتها، عرفت أن ما بعد فقد المتاع، تهديد آخر، ورعب متجدد، لكن الغريب هو أننا في السفينة، كنا نستعد لاستقبال الرعب بصدور عارية، ونتآمر مع أنفسنا الضعيفة بغريزة الخوف لاحتضان التهديد وكأنه هدية من السماء..؟!
*
* في الحلقة القادمة..
* ما قاله لي الشيخ رائد صلاح قبل الهجوم!
* الجزائريون.. تحت وابل من الرصاص..
* هكذا قتلوا الشهداء بدم بارد..
* الأئمة والدعاة المعتبرون في الأمة الإسلامية أشادوا بموقف المتضامنين في خطب الجمعة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.