معالجة أكثر من 40 ألف شكوى من طرف هيئة وسيط الجمهورية    عرقاب يعلن عن استحداث 4 معاهد تكوينية متخصصة في المجال المنجمي    تريكي : 80 بالمائة من الجزائريين يستفيدون من الانترنيت    فلسطين: انتشار مكثف لجنود الاحتلال في القدس وغلق كافة الممرات المؤدية للمدينة    مجلس الأمة يشارك بإسطنبول في مؤتمر "رابطة برلمانيون من أجل القدس"    رئيس الوزراء الفلسطيني: الكيان الصهيوني يسعى لإدامة احتلاله للأراض الفلسطينية    شباب بلوزداد – اتحاد الجزائر عشية اليوم بملعب نيبسون مانديلا : دريبي عاصمي جديد من أجل نهائي كأس الجزائر    دورة اتحاد شمال افريقيا (أقل من 17سنة) : "الخضر" يتعادلون أمام تونس ويواجهون ليبيا اليوم    بوغالي يلتقي بمسقط وزيري النقل والطاقة لسلطنة عمان    لغروس في بسكرة: وضع حجر أساس مشروع إنجاز محطة توليد الكهرباء بالطاقة الشمسية    الاحتلال الصهيوني يعتقل أكثر من 8430 فلسطيني من الضفة الغربية المحتلة منذ 7 أكتوبر الماضي    اسبانيا : البرلمان الجهوي لمقاطعة كانتبريا ينظم معرضا للصور للتعريف بنضال المرأة الصحراوية    الإحصاء للعام للفلاحة : تحضيرات حثيثة بولايات جنوب الوطن    وهران: أبواب مفتوحة على مركز التدريب للمشاة "الشهيد غزيل دحو" بأرزيو    الخطوط الجوية الجزائرية : عرض جديد موجه للعائلات الجزائرية في العطلة الصيفية    أرمينيا وأذربيجان تعلنان عن بدء عملية تحديد الإحداثيات لترسيم الحدود بينهما    موسم الحج 2024: يوم تحسيسي لفائدة البعثة الطبية المرافقة للحجاج    فرصة جديدة لحياة صحية    دعوة لإنشاء جيل واع ومحب للقراءة    رأس الحمراء و"الفنار".. استمتاع بالطبيعة من عل    بطولات رمز المقاومة بالطاسيلي ناجر..تقديم العرض الشرفي الأول للفيلم الوثائقي الطويل "آق ابكدة .. شمس آزجر"    القضاء على إرهابي واسترجاع مسدس رشاش من نوع كلاشنيكوف بمنطقة الثنية الكحلة بالمدية    لعقاب: ضرورة توفر وسائل إعلام قوية لرفع التحديات التي تواجهها الجزائر    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    "التاس" ملاذ الفاف وسوسطارة: الكاف تدفع لتدويل قضية القمصان رغم وضوح القانون    ساهم في فوز فينورد بكأس هولندا: راميز زروقي يتذوّق أول لقب في مشواره    فيما انهزم شباب ميلة أمام الأهلي المصري: أمل سكيكدة يفوز على أولمبي عنابة في البطولة الإفريقية لكرة اليد    زيارة موجهة لفائدة وسائل الإعلام الوطنية    نحو تعميم الدفع الآني والمؤجّل    سطيف: تحرير شاب عشريني اختطف بعين آزال    مرشح لاحتضان منافسات دولية مستقبلا: تحفّظات حول دراسة لترميم مركب بوثلجة في سكيكدة    للقضاء على النقاط السوداء ومنعرجات الموت: إطلاق أشغال ازدواجية الوطني 45 بالبرج قريبا    وزارة الفلاحة تنظّم ورشات لإعداد دفاتر أعباء نموذجية    مؤشرات اقتصادية هامة حقّقتها الجزائر    صعلكة    المكتبات الرقمية.. هل أصبحت بديلا للمكتبات التقليدية؟    انطلاق الحفريات بموقعين أثريين في معسكر    استدعاءات الباك والبيام تُسحب بداية من 9 ماي    رئيس الجمهورية يعود إلى أرض الوطن بعد مشاركته بتونس في الاجتماع التشاوري    منصّة رقمية لتسيير الصيدليات الخاصة    90 % من الجوعى محاصرون في مناطق الاشتباكات    سنقضي على الحملة الشرسة ضد الأنسولين المحلي    بنود جديدة في مشاريع القوانين الأساسية لمستخدمي الصحة    سطيف تنهي مخططاتها الوقائية    248 مشروع تنموي يجري تجسيدها بالعاصمة    مصادر وأرشيف لتوثيق الذاكرة بجهود إفريقية    الدورة 14 مرفوعة إلى الفنان الراحل "الرازي"    رفع مستوى التكوين والاعتماد على أهل الاختصاص    حملة واسعة للقضاء على التجارة الفوضوية ببراقي    بن ناصر يُفضل الانتقال إلى الدوري السعودي    رئيس بشكتاش يلمح لإمكانية بقاء غزال الموسم المقبل    بعثة برلمانية استعلامية بولاية النعامة    الشباب السعودي يقدم عرضا ب12 مليون يورو لبونجاح    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإبداع والذات
نشر في الجمهورية يوم 16 - 08 - 2021

نعتقد، نحن الكتّاب والفنانين والشعراء، بتكريس بعض المفاهيم والأخطاء وتقويتها ونشرها بين القراء، أن الآداب الكبرى هي التي تبني أمجادها على موضوعات تغذّيها مدارس وإيديولوجيات عالمية مؤثرة في الموقف، وحاضرة كقوة ضاغطة غدت منطلقا قاعديا، ومرجعا لمختلف الآراء النقدية والجماعات التي تتحكم في الشأن الفني، وبخاصة المؤسسات الضاغطة دوليا، أو تلك التي أصبحت قواعد خلفية للإبداع.
قد تكون هذه المفهمة صحيحة في سياق عينيّ يمنحها قيمة جمالية أو شأنا وظيفيا معينا، كما حدث مع الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والدادائية والتكعيبية، أو مع التوجهات الفلسفية المؤثّرة تاريخيا، قبل أن تخفت لأسباب مرتبطة بحتمية التحولات الناتجة عن نموّ الفكر، أو بمنطق السياقات الجديدة التي تخلصت من التبعية وبعض الموروثات، ومن التوجيهات، معتبرة بذلك الأدب هدفا، وليس قناة من قنوات نشر ما تمليه المؤسسات الموجهة للفن الموالي للجماعات.
المؤكد أن بعض هذه الخيارات الضاغطة لها جوانبها النيرة في مراحل مخصوصة من نشأة الفن وتطوره. لقد أسهمت السريالية والوجودية والواقعية السحرية والماركسية والعبثية في تحرير الخطاب البشري بإخراجه من شمولية الرؤية ومختلف المؤثرات التي تحدّ من قدراته ومن حريّته من حيث إنها جوهر لا يمكن التضحية به لأغراض لا تخدم الأدب.
لكنّ هذه الخيارات نفسها وقعت، بدورها، في نظرة شمولية بديلة حلت محل الأولى، كما حصل مع الماركسية نفسها، وفي الأدب الروسي في عهد ستالين ومستشاره الثقافي جدانوف، أو في الوقت الذي أصبحت فيه الواقعية الاشتراكية قانونا يوجه الكتّاب والفنانين نحو غايات محددة سلفا، ما جعل بعضهم يتوقف عن الكتابة، أو يفضل الهجرة، كما فعل سولجنتسين عندما ترك بلده وذهب إلى أمريكا بحثا عن حريته الأدبية.
ليس من باب الترف الذهني التنبيه إلى أنّ هذه الخيارات المختلفة التي استوردناها من معارف غيرية لها مقوماتها وشخصيتها المستقلة عن السياسات الخفية التي تتبوأ بعض النزعات والتوجهات، أو بعض المِلل والنِّحل التي تدعم الابداع لغايات غير إبداعية. ثمة عِلل أفرزتها في مناخ مؤهل لاستقبالها وتبنّيها، وهكذا أصبحت ضرورة بفعل علاقات سببية منطقية أسهمت في إنتاج ما كان يجب أن يحدث كقوة ذات علاقة بالعلل والمعلولات، على عكس الأدب الناقل الذي يفرض على نفسه قيدا بالتحرك في منظومة من العلامات المعدة من قبل، دون أن تكون لها علاقة بالذات كقاعدة جوهرية، وبالإبداع المستقل عن الاملاء، أو عن هذه الغيرية المجانية التي يتمّ الاحتكام إليها في السنين الأخيرة بحثا عن التموقع والانتشار، وذلك بالتخلي عن الشخصية.
لا توجد أية اعتياطية في هذه الميول والخيارات الواعية بحقيقتها التاريخية والفلسفية، لأنها متوقّعة وحتمية أحيانا. ما يعني أن التلاقحات المتباينة، المتعلقة بالأنظمة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية واللغوية تقود إلى التعامل مع المحيط الخارجي ومع الذات بأنساق جديدة تصبح بديلا مؤقّتا لما تمّ تمثله وتجاوزه، بانتظار تنويعات أخرى تخلّص الإبداع من صنميّته المرحلية، كما يحصل دائما عندما يقلّ جهد المبدع الذي يعيش بفتات الآخر، دون التكفل بعبقريته النائمة في أحضان المجتهدين الذين ينظرون إلى العالم، وإلى الموضوعات الشعرية والسردية والفنية بأعينهم، وبأحاسيسهم وثقافتهم.
لا يمكن أن نعتبر، على سبيل التمثيل، أدب أمريكا اللاتينية أدبا تابعا للمؤسسات الأوروبية وإملاءاتها، كما يحصل في بعض أدبنا الجديد، أو أدبا قائما على محاكاة الجهد الوافد، وذلك بنقل الموضوعات والطرائق السردية والشعرية التي عادة ما تؤدي إلى حالة من اللاتمايز الكلي، أو إلى الذوبان في هذا الآخر، مهما كانت قدراته. لقد انبنى هذا الأدب، في أغلبه، على ذاته، على الموروث والنواميس المحلية التي ظلت تغذيه، على الأقل من الجانب الموضوعاتي، وحتى من حيث الأشكال المبتكرة التي ظلت في علاقة مع الموضوعات، ومع فلسفة البنية كوجود مؤثث فكريا.
إن تفوّق أدب أمريكا اللاتينية، مع ماركيز وغيره من الأسماء المكرسة عالميا، لا علاقة له بالموضوعات الكبرى التي يتمّ التسويق لها إعلاميا ونقديا في الصحافة والمجلات التابعة، ولا بالإيديولوجيات المعيارية التي غالبا ما تحجز الرؤية في زوايا محدودة بفعل قوانينها. إنّما يكمن هذا النجاح في الاهتمام بالأوطان، وبالموضوعات الخاصة التي نراها صغيرة، أو ليست ذات قيمة اعتبارية يمكن أن تؤسس للنص الكوني، كما نتخيله نحن العرب المتأثرين بالحداثات، دون فهمها.
هذه المسائل الصغيرة التي نقلها أدب أمريكا اللاتينية هي التي ستغدو كبيرة وجميلة ومثيرة عندما نحسن التعامل معها من منطلقات مختلفة، أو ننظر إليها بعيون عارفة، عيوننا نحن المعنيين بإعادة تمثلها وكتابتها وفق رؤانا لتصبح كبيرة، وإنسانية، ومؤهلة لاكتساب ديمومة بفعل استقلاليتها عن الجماعة، وعن كل أشكال النقل.
هناك بلدان كثيرة تعد عوالم من الأسرار واللوحات المذهلة، ومن الأوجاع والموضوعات القابلة لأن تغدو مشتركة، ومؤثرة، لكننا لا نملك معرفة التعامل معها فنيا وفلسفيا ورؤيويا لأنها محلية. إننا نرى الصحراء بطاقات بريدية وغروب شمس، نتأمل البحر فنراه مليئا بالسمك المقلي، وهكذا تصبح الغابة حطبا ومكانا للراحة، وليست مصدر دهشة مستمرة.
كما أننا، بفعل الاستلاب المقدس الذي يركز على مكوّنات الفضاءات الغيرية، لا نولي أهمية للكوخ الطيني المسقوف بالديس، للحجارة الصغيرة، لنواح الناي في عزلته، لأغاني البدو وأسفار الجمال، للنساء اللائي يشوين الذرة على الجمر في الضيعة وهن يرددن المواويل القديمة التي أنتجتها السياقات ونقلتها الذاكرة الجمعية كسند قاعدي، وربما اعتبرنا ذلك تقليدا، أو شيئا متجاوزا لا يستحق الاهتمام به لأنه تدليل على التخلف والعمى.
علينا، ككتاب واعين بالحيز والحدث والتفصيل، أن نتعلّم كيف ننظر إلى هذه "الأشياء الصغيرة" بحبّ كبير، وبصفاء الرائي الذي يبصر التفصيل بعدة حواس مؤهلة للاستثمار في مكوّنات المكان وقيمته، في علاقته بالمحيط والتاريخ. إنّ هذه الجزئيات التي نعتبرها هامشية هي التي ستجعلنا كبارا ومتميّزين عن الآخر، ليس رفضا له، بل تكريسا لاستقلاليتنا الأدبية والفنية. ما شأننا والعولمة وكارل ماركس وثقب طبقة الأوزون والدادائية والتفكيكية إن لم نكن نعرف شيئا عن محنة الجدة وبكاء الجمل في الصحراء وما يقوله الراعي في الغابة المجاورة، وفي عالمه المميز، عالمنا نحن المنسلخين عن المحيط؟
إننا بعيدون جدّا عن بلداننا وذواتنا التي لا يمكن الاستغناء عنها في أي فعل إبداعي يؤسس على الذات، وعلينا أن نقترب، ولو قليلا، من أنفسنا حتّى نعرف ما يقوله النهر والتلّ والجدّ والسجادة والمسبحة وأشكال الحياة التي ننتمي إليها. الكتّاب المكرسون وطنيا وعربيا، كما الهواة، ليسوا ملزمين بارتداء معاطف غيرهم من المبدعين الكبار في العالم، رغم أننا نقاسمهم الماء والكلأ والكوكب والقيم الانسانية الخالدة.
لقد كتب مكسيم غوركي عن محيطه وبيئته وناسه وطفولته وجامعاته، وكذلك فعل الكاتب التركي عزيز نسين والأديب جورج أورويل، وغيرهم من الكتاب الواعين بهذه القيم، ومع ذلك أصبحوا عالميين، دون ناطحات سحاب، ودون جاز وأوبرا، ودون نصوص إباحية تقلد أكثر مما تبدع، تنقل أكثر مما تفكر. لم يقم هؤلاء بمحو الأنا، بالذوبان في الآخر، بالتفكير بمنطقه، أو باستعمال كل أدواته للظهور بمظهر الكاتب الحداثي. لقد كانوا حداثيين دون التخلي عن شخصياتهم باتباع غيرهم، ومن ثمّ الوقوع في منوالية مضادة للتحديث الحقيقي كفرادة، وكذات بالدرجة الأولى. الأمر لا يتعلق بالمكتوب فحسب، بل بكل الأشكال الابداعية مجتمعة، لغوية أو غير لغوية، بما فيها الرسم والنحت والمسرح والمنمنمات، وحتى الهندسة المعيارية التي لا تصدر عن عبث من حيث إنها خاضعة لمجموعة من المقاييس والضوابط المعرفية، ومن المعايير والاحالات عندما تكون واعية بنفسها ومآلاتها، ولنا في بعض المنجز الغربي والعربي ما يسوّغ ذلك. لقد سعت هذه البلدان إلى منح العمارة، كمجموعة من العلامات غير اللسانية، دلالة وهوية، بعيدا عن التنميط الأحادي وهشاشة المشاريع التي لا شخصية لها، ولا فكر أو ثقافة، وبعيدا أيضا عن الاستيراد الاملائي للأشكال الهندسية الغيرية، ثمّ غرسها في محيط لا ينسجم مع طبيعتها، كما يحدث في الأدب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.