التقارير القطاعية حول مكافحة تبييض الأموال في "غاية الأهمية"    الجزائر تسعى إلى بلوغ نظم غذائية مرنة، شاملة،صحية ومستدامة    وزير الاتصال يعزّي في وفاة الصحفي والكاتب عبد المجيد كاوة    تفعيل الشراكة الجزائرية الأمريكية في شقّيها الأمني والاقتصادي    تفعيل كل الآليات لكشف عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب    رسميا.. تقاعد مسبق لمنتسبي سلك التعليم    وكالة "عدل" تردّ على استفسارات أصحاب الملفّات المرفوضة    500 مليون دولار في المرحلة الأولى لانجاز مشروع "بلدنا"    ارتفاع حالات وفيات المجاعة وسوء التغذية في غزّة    تكثيف الجهود من أجل ضمان تعافي سوريا    مطالب في أوروبا بفضح جرائم المخزن في الصحراء الغربية    ارتفاع حصيلة وفيات المجاعة إلى 147 فلسطينيا    سندخل منافسة "الشان" بهدف التتويج باللّقب    تجربة سياحية متوازنة ب"لؤلؤة الزيبان"    المخالفات التجارية تتواصل وأعوان قمع الغش بالمرصاد    "سونلغاز" تضبط برنامجا خاصا    وفاة 3 أشخاص وإصابة 222 آخرين خلال ال24 ساعة الأخيرة    ببشار والبليدة : ضبط أزيد من قنطار من الكيف المعالج    تواصل موجة الحر عبر عدة ولايات    استراتيجية شاملة لمكافحة جرائم التقليد والقرصنة    الروائي بوجدرة: الكتاب الممجدون للاستعمار "ظاهرة ظرفية" آيلة إلى الزوال    أوبك+: لجنة المراقبة الوزارية تشيد بالتزام أغلب الدول باتفاق خفض الإنتاج    مطالب في أوروبا بكسر حالة الصمت وفضح جرائم المخزن في الصحراء الغربية    انطلاق أشغال مؤتمر تسوية قضية فلسطين وحل الدولتين في نيويورك    السيدة مولوجي تستقبل مديرة قسم المرأة والجندر والشباب بمفوضية الاتحاد الإفريقي    قندوسي مهدد بالغياب عن أمم أفريقيا    كاراتي دو/بطولة إفريقيا-2025: الجزائر تنهي المنافسة برصيد 12 ميدالية، منها ذهبيتان    مكافحة التقليد والقرصنة: توقيع اتفاقية بين المديرية العامة للأمن الوطني والديوان الوطني لحقوق المؤلف    السيد بلمهدي يستقبل الدفعة الثالثة من الأئمة الموفدين إلى أكاديمية الأزهر بمصر    اقتصاد المعرفة: السيد واضح يبرز بشنغهاي جهود الجزائر في مجال الرقمنة وتطوير الذكاء الاصطناعي    بطولة إفريقيا لكرة القدم للاعبين المحليين 2024 /المؤجلة الى 2025/: المنتخب الوطني يواصل تحضيراته بسيدي موسى    اختتام المهرجان المحلي للموسيقى والأغنية الوهرانية : تكريم الفائزين الثلاث الأوائل    جثمان الفقيد يوارى بمقبرة القطار.. بللو: سيد علي فتار ترك ارثا إبداعيا غنيا في مجال السينما والتلفزيون    تمتد إلى غاية 30 جويلية.. تظاهرة بانوراما مسرح بومرداس .. منصة للموهوبين والمبدعين    هذا موعد صبّ المنحة المدرسية الخاصّة    يوميات القهر العادي    غوارديولا.. من صناعة النجوم إلى المدربين    وفود إفريقية تعبر عن ارتياحها لظروف الإقامة والتنظيم الجيد    إشادة بالحوار الاستراتيجي القائم بين الجزائر والولايات المتحدة    رئيس الجمهورية يعزي نظيره الروسي    الوكالة تشرع في الرد على طلبات المكتتبين    العملية "تضع أسسا للدفع بالمناولة في مجال إنتاج قطع الغيار    وهران.. استقبال الفوج الثاني من أبناء الجالية الوطنية المقيمة بالخارج    خاصة بالموسم الدراسي المقبل..الشروع في صب المنحة المدرسية    الابتلاء.. رفعةٌ للدرجات وتبوُّؤ لمنازل الجنات    ثواب الاستغفار ومقدار مضاعفته    من أسماء الله الحسنى.. "الناصر، النصير"    هدفنا تكوين فريق تنافسي ومشروعنا واحد    لا يوجد خاسر..الجميع فائزون ولنصنع معا تاريخا جديدا    عنابة تفتتح العرس بروح الوحدة والانتماء    "المادة" في إقامة لوكارنو السينمائية    شبكة ولائية متخصصة في معالجة القدم السكري    منظمة الصحة العالمية تحذر من انتشار فيروس شيكونغونيا عالميا    وهران: افتتاح معرض الحرمين الدولي للحج والعمرة والسياحة    النمّام الصادق خائن والنمّام الكاذب أشد شرًا    إجراءات إلكترونية جديدة لمتابعة ملفات الاستيراد    استكمال الإطار التنظيمي لتطبيق جهاز الدولة    رموز الاستجابة السريعة ب58 ولاية لجمع الزكاة عبر "بريدي موب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وكأننا في عالم كافكا؟
نشر في الحياة العربية يوم 29 - 09 - 2024

في مجتمعنا الجزائري، والصورة نفسها، وإن بدرجات متفاوتة، في بلدان شمال أفريقيا والعالم العربي، كل نشاط يدوي يعدّ عملاً مهمشاً غير ذي أهمية على الرغم من ضرورته القصوى في الحياة اليومية للفرد والجماعة.
في المجتمع الجزائري هناك هوة عميقة ما بين العمل الذهني الفكري والعمل اليدوي، ومنذ عهود طويلة تشكلت قطيعة ما بين العمل الذي يقوم على عبقرية اليد وآخر يعتمد على عبقرية الأفكار والرموز، وهذه الثنائية الغريبة والمتأصلة هي ما تحكم رؤيتنا للعالم الذي نعيش فيه والآخر الذي نحلم ببنائه غداً.
في عيون المجتمع الجزائري، تحتل الفئة التي تنتمي إلى فضاء قوى العمل الفكري مرتبة تقديرية، حتى إن لم يكُن أصحابها على ثراء مادي متميز، وأعتقد بأن هذه الفئة من قوى العمل تسحب شرعية سلطتها من الديني، إذ إن رجل الدين منزّه عن كل عمل يدوي وتقتصر تدخلاته على ما يتصل بسلسلة القيم والأخلاق أي العالم الفكري الرموزي، وهو في ذلك وبذلك مبجّل من قبل الجميع، وفي المقابل يرى المجتمع بعيون التحقير والازدراء الفئة التي تنتمي إلى العمل اليدوي، حتى إن كانت تملك ثراء مادياً بارزاً.
من أين جاءت هذه النظرة التي تقدس العمل الفكري في مجتمعنا مهما كان، وتحتقر العمل اليدوي مهما كان، وتحترم التعليم العام وتستهين بالتعليم المهني؟.
في مجتمعنا الجزائري، والصورة نفسها وإن بدرجات متفاوتة في بلدان شمال أفريقيا والعالم العربي، كل نشاط يدوي يعدّ عملاً مهمشاً غير ذي أهمية على رغم ضرورته القصوى في الحياة اليومية للفرد والجماعة.
هده العقدة التاريخية السيكولوجية العريقة تجد تفسيرها في تلك الصورة النمطية المقدمة عن الفلاح الجزائري والمغاربي، باعتباره الشخص الذي يملك في عمله علاقة وجودية مع الأرض كفضاء للعمل اليدوي، إنها صورة نموذجية ومكرسة يتجسد فيها الفقر والجوع والمعاناة.
خلال أعوام السبعينيات، مدفوعاً بنية طيبة وبحماسة وطنية محررة، عمل النظام السياسي الجزائري آنذاك على الإقدام على عملية تغيير شعبوية، هدفها إخراج المجتمع الريفي الفلاحي من الفقر الكولونيالي الذي عاشه الفلاح الجزائري إلى غد وطني أكثر عدالة، وتتمثل هذه العملية في تحويل صورة الفلاح إلى صورة الإداري أو البيروقراطي.
في المخيال الجمعي الجزائري، هناك مخرج واحد من حال الفقر الكولونيالي وهو أن يعوّض المكتب والإداري العامل فيه الأرض والفلاح العامل فيها.
إن المجتمع الجزائري المرهق والمقموع من قبل الوحشية واللاعدالة الكولونيالية التي كانت ممثلة بالإدارة، أصبح يرى بعد الاستقلال أن التموقع داخل فضاء "المكتب" الذي يحقق راتباً مضموناً، وإضافة إلى ذلك، فهو أيضاً مصدر السلطة والقرارات الحاسمة، من هنا، وبصورة لا واعية، أصبح البيروقراطي والإداري حلماً ريفياً، حلماً عمّر طويلاً ولا يزال يعيش في مخيلة الأجيال المتلاحقة حتى الآن. ولعل ظاهرة النزوح الكبير الذي عرفته الجزائر من القرى والأرياف إلى المدينة كان دافعها هذا الحلم، حلم التخلص من العمل اليدوي في الأرض والالتحاق بالعمل الإداري المربح والكسول.
بهذه الرؤية المختلة للعالم، العمل وقيمه، جيلاً بعد جيل، علّمنا أبناءنا، بوعي أو من دون وعي، بقصد أو من دون قصد، بأن إنقاذهم الاقتصادي والاجتماعي وتحررهم من مخلفات الاستعمار يكون في العمل الإداري، وهو الموازي لمفهوم العمل الفكري العقيم.
لقد أقنعناهم بأن السلطة السياسية والاجتماعية والمالية تكمن في الإدارة، والتحكم في هذه الأخيرة لا يمكنه أن يتحقق إلا عن طريق الانتساب للتعليم العام، ومن هنا ولدت النظرة الاحتقارية والتحقيرية للتعليم المهني الذي هو الطريق إلى العمل اليدوي، وبذلك تم تهميشه وتبخيسه في عيون الشباب ولا يزال كذلك حتى الآن.
إن الجزائري ضحية أحكام سوسيو-ثقافية مسبقة، ولكنها مؤثرة، إذ يتم من خلالها تقديم صورة علاقة العمل اليدوي، بين العامل وصاحب العمل، بالطريقة ذاتها التي كانت عليها علاقة العمل ما بين المستعمِر والمستعمَر. هكذا يرى الجزائري أن كل عامل يدوي يعيش داخل صورة العبد أو المستعمَر أو المحكوم عليه بالأشغال الشاقة.
إن الفلاحة كنشاط مرتبط عضوياً بالأرض، ويقوم فيه النشاط أساساً على العمل اليدوي، ينظر إليها، حتى الآن، على أنها عمل بئيس ومصدر معاناة قصوى ومن دون مردود يذكر.
حتى إن كان الجزائري اليوم يعيش في مدن عصرية كبيرة بجامعات وثانويات ومستشفيات وشوارع بواجهات لا تختلف عن واجهات شوارع باريس أو لندن، وسيارات من كل الماركات ونظام سير، مدن كالجزائر العاصمة ووهران وعنابة وبجاية وقسنطينة… إلا أنه لم يتمكّن بعد من تحرير نفسه من الثقافة الريفية التي لا تزال رهينة الثنائية "المستعمِر والمستعمَر" حين يتصل الأمر بفهمه وتعامله مع "قيمة العمل اليدوي".
على المستويين الثقافي والإبداعي، في الإنتاج السينمائي والمسرحي والأدبي، لم نستطِع إنتاج صورة معاصرة قادرة على تحرير صورة الفلاح والنجار والخباز والسباك والحلواني و"الجصاص" و"الزلابجي" والميكانيكي والكهربائي و"المكوجي" من النظرة الاستعطافية البكائية… فإن الصورة المروجة في الفنون عن العمال اليدويين التي أنتجها الفن ولا يزال ينتجها، غارقة في الفقر المدقع والترقيع والمعونة والشكاوى والبكائيات.
أمام صورة العمل اليدوي الرخيصة والمحتقرة، صورة يتم تعميمها يومياً من قبل وسائل الإعلام وفي الفنون وفي الخطاب السياسي من اليسار إلى اليمين إلى الإسلامي، تحوّل حقل مهن العمل اليدوي إلى مزرعة مفتوحة لكل من هب ودب، كل من يرغب في ممارسة مهنة يدوية له ذلك ومتى يشاء، وكيفما أراد، من دون رقيب أو حسيب، حتى أصبح حقل العمل اليدوي يعيش نوعاً من العبثية واللاعقلانية المثيرة للسخرية وللحزن في الوقت نفسه.
ولأن مهن العمل اليدوي محتقرة وغير مثمنة على المستوى الاجتماعي، فقد أضحت عرضة لكل الاختراقات والاعتداءات المهنية لأشخاص لا أهلية لهم ولا محبة لهم لهذه المهنة، بل يقبلون عليها لفترة، ربما هروباً من العطالة أو لأجل قتل الوقت، ويتم ذلك في غياب أية استراتيجية اقتصادية أو تجارية أو بعد استثماري.
أيّاً كان، بين عشية وضحاها، يمكنه أن يصبح بستانياً، لذلك حدائقنا العمومية والخاصة أصبحت في حال مؤسفة.
في شهر رمضان، عندما يكثر الطلب الشعبي على حلوى "الزلابية"، أيّاً كان له الحق في أن يصبح "زلابجياً"، فتباع بطريقة مبتذلة، لذا أصبحت هذه الحلوى المحبوبة من قبل الجزائريين تثير الاشمئزاز وغير قابلة للاستهلاك.
أيّاً كان قد يصبح سمكري المدينة أو الحي، لذا أصبحت المجاري العامة والخاصة في وضعية كارثية ونتجت من ذلك حوادث منزلية قاتلة كثيرة. أيّاَ كان يمكنه أن يفتح مخبزاً، ويحضّر "المطلوع" (نوع من الخبز التقليدي الجزائري) أو الخبز العادي، ويبيعه في محال غير لائقة أو على الأرصفة أو على جانبي الطرق السيارة أو الوطنية، وهكذا فقد خبزنا نوعيته وأصبح لا يؤكل.
أيّاً كان يمكنه أن يفتح محلاً لإصلاح العربات، ويصبح بين ليلة وصبحها ميكانيكياً "يلعب" في محركات جميع أنواع السيارات، لذلك ارتفع عدد حوادث المرور بصورة مرعبة، ويمكن لهذا الشخص نفسه أيضاً أن يجمع عدة الميكانيكا ويغيرها بعدة البناء، فيصبح بين عشية أخرى وفجرها، بنّاء يشتغل في تشييد العمارات العمومية والبنايات الخاصة، ولهذا يبدو عمراننا مثيراً للسخرية وفي حال مزرية.
في مجتمع حيث التعليم المهني غير مُثمَّن تصبح سوق العمل اليدوي عرضة للاعتداء والاختراق، يصبح جراء ذلك البستاني بنّاء، والحلواني ميكانيكياً، والخياط حلاقاً، ومصلح عجلات السيارات حفار الآبار، والخباز كهربائياً، وراعي الغنم حارس مطار، والزبال زياتاً، وعامل محطة البنزين بائع الزهور. لكن الغريب في الجزائر أن لا أحد يريد أن يكون إسكافياً، فتصليح حذاء الآخر يُعدّ عاراً كبيراً. ألسنا بمثل هذه الحال كمن يعيش في عالم "كافكا"؟
أندبندنت عربية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.