مالك بن نبي (1905–1973) هو مفكر جزائري كتب في زمن الاستعمار وما بعده، و كان أحد أبرز العقول التي حاولت أن تفكّك معضلة التأخر الحضاري للأمة الإسلامية وتعيد رسم طريقها نحو المستقبل. جاء فكره امتدادًا لتجربة شخصية عميقة عاشها ما بين الجزائر المستعمَرة وفرنسا، التي مثّلت نموذجًا للعلم والتنظيم والقوة المادية، فكان وعيه موزعًا بين انبهار بالمنجز الغربي وإصرار على البحث عن جذور النهضة في التربة الإسلامية نفسها. من هنا وُلد مشروعه الفكري الذي تبلور في كتابه الأشهر شروط النهضة (1948)، الذي يمكن اعتباره لبنة تأسيسية فيما سمّاه لاحقًا "علم العمران الحديث". في شروط النهضة قسّم بن نبي مشروعه إلى قسمين: الماضي والحاضر أولًا، ثم المستقبل ثانيًا. في القسم الأول، الذي أسماه "تشخيص المرض"، حاول أن يضع إصبعه على مواطن العطب في التاريخ الإسلامي الحديث. ورأى أن الاستعمار لم يكن مجرد غزو خارجي، بل هو نتيجة داخلية لفراغ حضاري أصاب الأمة، فجعلها قابلة للاستعمار قبل أن تقع فيه. هذا التشخيص لم يقتصر على نقد الخارج، بل انصبّ على الذهنية الإسلامية التي انشغلت عبر القرون بالبطولة الفردية والقتال من أجل الشرف أكثر من انشغالها بصناعة التاريخ. يقدّم مثال الأمير عبد القادر الجزائري الذي قاوم فرنسا سبعة عشر عامًا ببطولة نادرة، لكنه انتهى إلى الهزيمة لأن المقاومة لم تتحول إلى مؤسسة حضارية مستدامة. البطولة إذن، في نظره، ليست غاية النهضة، بل قد تكون عائقًا إذا لم تُترجم إلى مشروع تاريخي جامع. ويمتد نقده إلى السياسيين في الحقبة الاستعمارية وما بعدها، الذين اكتفوا برفع الشعارات والمطالبة بحقوق الأهالي من دون أن يحدثوا تغييرًا جذريًا في وعي الإنسان. السياسي -كما يراه مالك بن نبي- لا يمكن أن يقود النهضة، بل العالم والمفكر الذي يقدر على إعادة صياغة الثقافة وتوجيه الطاقات. فالثورة تبدأ من داخل النفس قبل أن تتحقق في الميادين العامة. ولهذا ظل بن نبي يؤكد أن أي مشروع نهضوي لا بد أن يبدأ بتشخيص أمراض الماضي والحاضر، وإلا فإنه لن يملك أساسًا صلبًا للمستقبل. أما في القسم الثاني، أي المستقبل، فيطرح بن نبي نقدًا جوهريًا لطريقة تعامل المسلمين مع الغرب. نحن كما يقول نكدّس الأفكار كما نكدّس الأشياء. فالشاب الذي يعود من الغرب بشهادة عليا يضعها للوجاهة الاجتماعية بدل أن يحوّلها إلى مشروع معرفي منتج، وهكذا تتحول المعرفة إلى زخرفة. الحضارة، في رؤيته، ليست تكديسًا للمنتجات، بل قدرة على توليدها باستمرار لأنها تملك ديناميكيتها الداخلية. وهنا يبلور معادلته الشهيرة: الحضارة = إنسان+ تراب+ وقت. هذه العناصر الثلاثة لا تصنع حضارة إلا إذا اجتمعت في وسط محرّك، وهذا الوسط هو الفكرة الدينية التي تمنحها الاتجاه والمعنى. فالتاريخ يشهد أن الحضارات وُلدت دومًا في ظل معبد أو فكرة كبرى تعطيها روحًا دافعة. هذا التصور لم يقف عند حدود التنظير، بل توسّع في كتبه الأخرى مثل مشكلة الثقافة وميلاد مجتمع. في هذه الأعمال واصل نقده لما سمّاه "عالم الأفكار الميتة" الذي يثقل وعي المسلم المعاصر. فالأمة مليئة بالنشاطات والأقوال، لكنها تفتقر إلى التوجيه. وإعادة التوجيه عنده تعني إعادة بناء الثقافة على نحو يجعلها قادرة على إنتاج الفعل التاريخي. الثقافة، في فهمه، ليست ترفًا فكريًا، بل جهازًا حيويًا يوجّه السلوك الاجتماعي نحو غاية واضحة. وفي كتاب فكرة كومنولث إسلامي طرح تصورًا مبكرًا لوحدة المسلمين، لم يقم على وهم استعادة الخلافة، بل على صيغة عملية للتعاون بين عوالمهم المتعددة: العربي، والتركي، والفارسي، والإفريقي، والآسيوي. هذه الرؤية تحققت جزئيًا لاحقًا في منظمة المؤتمر الإسلامي. لكنه ظل يرى أن الوحدة الحقيقية لا تقوم إلا على وعي حضاري مشترك، لا على شعارات سياسية ضيقة. ومن هنا جاء نقده اللاذع لما سمّاه "الإسلام السياسي" الذي حوّل الدين إلى خطاب للجماعة بدل أن يبقى خطابًا للأمة. ومع أن بعض النقاد أخذوا عليه ضعف الصلة المباشرة بالقرآن الكريم مقارنة بمفكرين مثل سيد قطب، فإن قوة مشروعه تكمن في محاولته الجمع بين الروحانية والعلم، بين العقل والوجدان، بين قراءة التاريخ وفهم شروط الحاضر. فهو لم يكتب لنظام أو دولة، بل للإنسان المسلم كفرد وجماعة. ولهذا ظل فكره صالحًا للاستدعاء في كل زمن يعاني فيه المسلمون من العجز عن صناعة التاريخ. ما بقي من مالك بن نبي اليوم ليس مجرد مصطلحاته أو معادلاته الفكرية، بل ذلك الإصرار على أن النهضة مشروع جماعي يبدأ من الإنسان. لقد كان آخر ما دعا إليه في محاضرته الشهيرة حول دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين هو "ردّ القداسة إلى الحضارة الإنسانية". لم يعد يتحدث عن حضارة إسلامية مغلقة، بل عن دور المسلم في إعادة البعد القيمي لحضارة عالمية مهددة بالفراغ الروحي. هذه الرؤية تعكس تحوّل وعيه من خطاب النهضة الداخلية إلى خطاب إنساني كوني، من نقد الذات إلى دور المسلم في التاريخ العالمي. إن قوة مالك بن نبي تكمن في أنه لم يقترح حلولًا سحرية، بل كشف العطب العميق في بنيتنا الثقافية والنفسية. علّمنا أن البطولة وحدها لا تكفي، وأن الأفكار إن لم تتحول إلى قوة فاعلة فإنها تصبح عبئًا، وأن الحضارة ليست تكديسًا بل بناء. الأهم من ذلك أنه ترك مشروعًا مفتوحًا لا ينبغي أن يُعامل كسقف يغلق علينا التفكير، بل كأرضية ننطلق منها. ما نحتاجه اليوم ليس أن نكرر أفكاره كما هي، بل أن نترجمها إلى مشاريع عملية، تعليمية وثقافية وسياسية، تعيد للإنسان المسلم وعيه بقدرته على التأثير في التاريخ. لقد علّمنا مالك بن نبي أن النهضة تبدأ بتشخيص المرض، لكن قيمته الحقيقية أنه لم يتركنا أسرى التشخيص، بل فتح لنا أفق البناء. وفي عالم تتسارع فيه الانهيارات وتتكاثر فيه الشعارات، يظل صوته نداءً عميقًا: أن نكفّ عن لعب دور الأبطال العابرين، وأن نستعيد دور صانعي التاريخ. القدس الفلسطينية