سوريا: اجتماع لمجلس الأمن حول الوضع في سوريا    عطاف يستقبل رئيس مجلس العموم الكندي    الرئيس يستقبل أربعة سفراء جدد    شرفة يلتقي نظيره التونسي    مشروع جزائري قطري ضخم لإنتاج الحليب المجفف    عرقاب: نسعى إلى استغلال الأملاح..    القضاء على إرهابي وتوقيف 66 تاجر مخدرات    هذه حصيلة 200 يوم من محرقة غزّة    القيسي يثمّن موقف الجزائر تجاه القضية الفلسطينية    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 34 ألفا و305 شهيدا    المولودية في النهائي    بطولة وطنية لنصف الماراطون    تسخير 12 طائرة تحسبا لمكافحة الحرائق    مهرجان الجزائر الأوّل للرياضات يبدأ اليوم    ش.بلوزداد يتجاوز إ.الجزائر بركلات الترجيح ويرافق م.الجزائر إلى النهائي    مشروع "بلدنا" لإنتاج الحليب المجفف: المرحلة الأولى للإنتاج ستبدأ خلال 2026    هزة أرضية بقوة 3.3 بولاية تيزي وزو    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي "علامة مرموقة في المشهد الثقافي"    جهود مميزة للجزائر لوضع القضية الفلسطينية في مكانها الصحيح    تمرين تكتيكي بالرمايات الحقيقية.. احترافية ودقة عالية    مسرحية "المتّهم"..أحسن عرض متكامل    إتلاف 186 كلغ من اللحوم البيضاء الفاسدة    الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين الدوليين إلى تمويل "الأونروا"    العدالة الإسبانية تعيد فتح تحقيقاتها بعد الحصول على وثائق من فرنسا    قسنطينة: تدشين مصنع لقطع غيار السيارات ووحدة لإنتاج البطاريات    تفعيل التعاون الجزائري الموريتاني في مجال العمل والعلاقات المهنية    جعل المسرح الجامعي أداة لصناعة الثقافة    معركة البقاء تحتدم ومواجهة صعبة للرائد    اتحادية ألعاب القوى تضبط سفريات المتأهلين نحو الخارج    شبيبة سكيكدة تستعد لكتابة التاريخ أمام الزمالك المصري    الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي بالناحية العسكرية الثالثة    جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس الأمة    الجزائر-تونس-ليبيا : التوقيع على اتفاقية إنشاء آلية تشاور لإدارة المياه الجوفية المشتركة    إجراءات استباقية لإنجاح موسم اصطياف 2024    عائلة زروال بسدراتة تطالب بالتحقيق ومحاسبة المتسبب    29 جريا خلال 24 ساعة الأخيرة نتيجة للسرعة والتهور    عنابة: مفتشون من وزارة الري يتابعون وضع بالقطاع    إنجاز ملجأ لخياطة وتركيب شباك الصيادين    ارتفاع رأسمال بورصة الجزائر إلى حدود 4 مليار دولار    "عودة مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي تعكس الإرادة الجزائرية لبعث وتطوير السينما"    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    "المتهم" أحسن عرض متكامل    دعوة لدعم الجهود الرسمية في إقراء "الصحيح"    فتح صناديق كتب الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس الموقوفة على جامع الجزائر    إهمال الأولياء يفشل 90 بالمائة من الأبناء    نصف نهائي كأس الجمهورية: اتحاد الجزائر – شباب بلوزداد ( اليوم سا 21.00 )    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    الجزائر تشارك في معرض تونس الدولي للكتاب    مباراة اتحاد الجزائر- نهضة بركان : قرار الكاف منتظر غدا الاربعاء كأقصى تقدير    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    سايحي يشرف على افتتاح اليوم التحسيسي والتوعوي    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    منصّة رقمية لتسيير الصيدليات الخاصة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شكراً…أزراج عمر
نشر في الحوار يوم 27 - 03 - 2016


إعداد: رمضان نايلي
* الشّاعر حمري بحري " أزراج عمر المثقف الإنسان"
لا أدري إن كنت أستطيع أن أجمع كل الذكريات التي ربطتني بالشاعر الكبير أزراج عمر؛ والتي تعود إلى أكثر من ثلاثة عقود من الزمن؛ ولأن عاصمتنا ككل العواصم هي دائما قبلة أصحاب المدن الداخلية وهي أشبه ما تكون بالبحيرة التي تصب فيها كل روافد الأنهار. كانت العاصمة الجزائرية في فترة الستينات والسبعينات مزار الكثير من الكتاب العرب مثل: مهدي محمد الجواهري ونزار قباني ومحمود درويش وبلندن الحيدري وشاعر اليمن عبد الله البردوني وسعد أردش وحسين مروة وغيرهم كثير، مما جعل الجزائر العاصمة مطمح كتاب وشعراء المدن الداخلية في الوصول إليها والاحتكاك بمثقفيها. في هذه تعرّفت عن الشّاعر أزراج عمر الذي كان يدرس بمدينة لعجيبة بالبويرة ثم انتقل بعدها إلى مدينة الأخضرية وكان لا يفوته أي نشاط ثقافي بالعاصمة، في هذه الفترة تعرفت عن أزراج عمر الهارب من المدن الصغيرة وكان يعي تمام الوعي أن المدن الصغيرة تقتل المواهب ولا تدفع بها إلى كشف العالم، إذ قال لي مرة " المدن الصغيرة تتركك صغيرا".
في السبعينيات كنت ألتقي بأزراج عمر من خلال النشاطات الثّقافيّة الأسبوعيّة، حيث كان الشّاعر عبد القادر السائحي ينشط الأمسيات الشّعريّة والمحاضرات بقاعة الموقار، وفي نفس الأسبوع كانت قاعة النّفق الجامعي أيضا لها نشاط أسبوعي بالإضافة إلى قاعة اتحاد الكتاب وأيضا كانت قاعة الكابري تعقد بها نشاطات ثقافية؛ وكان أزراج عمر يحضر كل هذه التّظاهرات الثّقافيّة بالرغم من بعده عن العاصمة نسبيا، وبالرغم من دخله المحدود ككل الكتاب القادمين من المدن الداخلية فقراء يبحثون عن واقع أفضل مما هم فيه، وأروع ما في أزراج عمر أنّه مغامر على مستوى الحياة اليوميّة وعلى مستوى الكتابة كذلك، وهو يعيش الحياة بصدق كما يكتب أيضا عنها بصدق.
أزراج عمر عملة نادرة في حياتنا الثّقافيّة، فهو الشاعر والمفكر والإعلاميّ والإنسان الذي له موقف من الحياة التي وضعت في طريقه الكثير من العوائق، والحياة ليست خطا مستقيما فيها المنعرجات والمنحدرات …اشتغلنا مع بعض في مجلة المجاهد الأسبوعيّة في القسم الثّقافي لعدة سنوات، وكان نعم الصديق والأخ وكان في هذه الفترة يقرأ كل ما يقع بين يديه.
ليت الذاكرة تمنحني كل ما أريده، غير أني أعرف أن الذاكرة ماكرة، وأنا في هذه العجالة أقول: إن أزراج عمر هو أول من كتب عني في مجلة آمال ونوّه بكتاباتي الشّعريّة، وما ينبغي التنويه به أيضا أنه كانت في تلك الفترة تصدر عدّة مجلات منها مجلة الثّقافة ومجلة آمال ومجلة ألوان؛ التي كان يشرف عليها الشاعر أبي القاسم خمار، ومجلة شاشتان، ومجلة الحلقة، ومجلة الأصالة التي كانت تصدر عن وزارة الشؤون الدينية، بالإضافة إلى هذه المجلات كانت هناك ملاحق ثقافية مثل الملحق الثقافي لمجلة المجاهد، وملحق جريدة الشعب الثقافي، في مثل هذا المناخ كان الشّاعر أزراج يتحرك راسما خطه الإبداعي، الذي يعتبر إضافة نوعية للشعر الجزائري والشّعر العربي عموما.
ومع هذا يمكن أن نقول إن أزراج وهو موزع بين أمكنة وأزمنة كثيرة بقي لحد الآن يحمل الرّيف بين جوانحه ويحمل بساطة أهل الريف وكرمهم وصخبهم. لأزراج عمر ضحكة مميزة تدل عليه حتى ولو كان بين ألف شخص، وأعتقد أن هذه الضحكة لا زالت تلازمه إلى يومنا، رحم الله ذلك الزمان الذي كان الصديق فيه يزور الصديق لسماع القيان، فصار الصديق يزور الصديق لشكوى الزمان.
* المفكر أحمد دلباني " الصَّديقُ المُبدع عمر أزراج: يومَ همَّت الجميلة بقتل وحش الأحادية"
لا يختلفُ اثنان حول أهمية المُبدع الجزائريِّ الصَّديق الكبير عمر أزراج ومكانته الشعرية البارزة محليا وعربيا، كما نستطيعُ أن نلاحظ أنه من بين أهمِّ المُثقفين الذين كان التزامُهم طوقَ نجاةٍ لهم في مُحيط الاستلاب العام والرداءة التي كرستها الأحادية الحزبية والشمولية الفكرية – الإيديولوجية في طبعتها الجزائرية. لم يمُدَّ عمر أزراج يده إلى تفاحة السقوط في حمأة الارتهان للخطاب الرسمي، وقدّر له، بالتالي، أن يجمع، وبصورةٍ بهية وعالية، بين الهاجس الإبداعي التشكيلي من جهةٍ، والالتزام الذي يميز المُثقف المناهض لكل ما يسحقُ الإنسان أو يُنيط بالمُثقف دورًا تبشيريا في آلة التدجين الكبرى من جهةٍ أخرى. هذا ما صنع، كما هو معروفٌ، أسطورته باعتباره بطلا من أبطال الحرية في الجزائر المُستقلة. لقد دفع ثمن التزامه بالجهر بالحقيقة في وجه وحش الإيديولوجية الشمولية في وقتٍ كان فيه الكثيرُ من الشعراء والكتاب يلوذون بالصمت أو يُهرولون وراء المناصب التي تجعل منهم مُوظفين ومُخبرين مأجورين يحرسون القلعة المتآكلة.
أذكر جيِّدا أنني في مُنتصفَ الثمانينيات – وأنا بعدُ فتى يافع يكتشفُ مُغامرات الشعرية العربية الحديثة في بعض ذراها المشرقية – وقفتُ مشدوها أمام "الجميلة تقتل الوحش". كان ذلك لقائي الأول باسم عمر أزراج، وكان لي أن أقفَ على بعض الجراءة الفكرية والتشكيلية التي تتميز بها القصيدة الحديثة من خلاله. لاحظتُ أنَّ الهواجس الإبداعية عنده تجمعُ جمالية الاختراق بالالتزام الإيديولوجي المُتقدم في تعاطيه مع مُشكلة الإنسان من مُنطلق وفره اليسارُ بمفهومه الفكري والسياسي والإنساني الواسع. لم يسفح عمر أزراج جماليات قصيدته على مذبح الالتزام الذي كان موضة آنذاك، لقد أدرك جيدا أنَّ ثورية الشعر لا تعني الزعيقَ بالشعار الجاهز بقدر ما تعني تثويرَ بنياته العتيقة واختراق نظام القول التقليدي السَّائد وهو يُضمرُ رؤية تقليدية للعالم والأشياء. كان هذا الأمرُ مُتزامنا مع بعض فتوحات التنظير عند رواد الشعر العربي الحديث كأدونيس، ولكنَّ هذا الإلتزام الإيديولوجي اليساريَّ لم يعتقل لغة الشاعر ولم يسلبها حقها في المغامرة الجمالية أو في ذلك الجنون الذي لا يكون الشعر شعرًا إلا به، هذا، ربما، ما منح قصيدته نبرة عالية وخلصها من كثافة اللحظة لتعانقَ صبوة الإنسان وظمأه الحارق إلى براءة الكيان ونداءات الفراديس الأولى التي نعتصمُ بها لحظة الصراخ العالي في وجه الوحش.
قصيدة عمر أزراج تسردُ "العودة" إلى مهد بداياتٍ حجبَ بريقَها التردي في أزمنة صفدت الإنسان وانحرفت عن الوعود الكبيرة التي بشرت ب "الصباحات التي تغني". إنها احتجاجٌ على "مكر التاريخ" في طبعته الجزائرية التي تحمَّل شاعرُنا أعباءَ التنبيه إلى مآزقها وسقوطها في قصيدته الشهيرة التي سبَّبت له المتاعب الأمنية وأرغمته على الهجرة. كان ذلك مُنعرجا مهما في الإبداع الشعريِّ الجزائري وفي العلاقة بين المُثقف والسلطة في آن واحد. أدركنا معه، حينها، قدرة الشعر على الانتهاك والبوح وشفافية البصيرة التي تزعج الوضعَ القائم وتنثرُ الشوك على سرير الآلهة. وقفنا معه على مهام الشعر الأصيلة عندما ينخرط في العالم فلا يخسرُ نفسهُ باعتباره فنا ومُقاربة خاصة للعالم والأشياء من جهةٍ أولى؛ ومن جهةٍ أخرى لا يخسرُ القضية باعتباره موقفا من العالم والوجود.
ما يسترعي الانتباه، أيضا، في الصَّديق عمر هو شغفه بالمعرفة وتبحّره الثقافي / الأكاديمي في حقول الفكر المُختلفة نقدًا وفلسفة وأدبا. لقد رسَّخ وعيَه النقدي أكثر، مُبتعدًا عن الشعار، من خلال عكوفه على التحصيل العلمي والفلسفي مُنفتحا على آخر فتوحات العقل النقدي الذي ازدهر في النصف الثاني من القرن العشرين بعد انحسار موجة الوجودية ومُجمل فلسفات الذاتية المُتعالية التي كانت مرآة عاكسة لعنجهية أوروبا ومركزيتها. وقد وجد نفسه معنيا أكثر بالنقد الما بعد كولونيالي وهو يُوجِّه حِرابه إلى كبد المنظومة الثقافية الأمبراطورية كاشفا عن الهوامش المُتسعة التي تنتمي إليها، بالطبع، مصائر بلدان الجنوب والمُستعمَرات السابقة، هذا ما أدركه الشاعرُ وهو ينتبه إلى التجذير الفعلي لحركية المُراجعات الواسعة التي طالت ميراث "الأنوار" الأوروبية والثقافة الكلاسيكية المرتبطة عضويا ببنيات سوسيو- سياسية تقليدية ظلت تستبعدُ المُختلف من دائرة الاعتبار والخلاص كما هو معروفٌ. كان ذلك هدما للمركزيات المُختلفة وتحريرًا لأصوات الهامش وتقليصا لدائرة الظل التي كان يقبعُ فيها المنبوذون من جنة النظام الثقافي الأمبراطوري. استوعب عمر أزراج كل ذلك من خلال ارتياد المُؤسَّسة الأكاديمية البريطانية. وأعتقدُ، شخصيا، أنَّ هذا الأمرَ جعل منه أحد أبرز المُثقفين النقديين في الجزائر المُستقلة، كما تكشفُ عن ذلك مقالاته ومتابعاته المُختلفة، فضلا عن كونه من القلة القليلة التي قدَّمت إنجازا شعريا متميزا يستحق المُتابعة.
لم تكن لي علاقة شخصية بعُمر أزراج قبل عودته إلى الجزائر العام 2007 مفعمَ الروح والقلب بغبطة من يعتقدُ أنه مُكلفٌ بالإسهام في بعث حياةٍ ثقافية راكدةٍ سِمتها السطحية والفسادُ والابتذال. ربما كان الرَّجل واهما أو ساذجا. لا يهم، فقد ارتطمت مشاريعه الطموحة بصخرة البيروقراطية والرفض والحصار. كان كتابي "السمفونية التي لم تكتمل" جسرًا واصلا بيننا بعدما أهديته نسخة منه في العاصمة الجزائرية. أتذكر جيدًا أنه اتصل بي بعدها مُباشرة يسأل عني في الفندق. التقينا وتوطدت بيننا العلاقة كثيرًا، وكنت في كل مرَّةٍ أزور فيها العاصمة، تقريبا، ألتقيه ونفتحُ نقاشا في الكثير من المسائل الفكرية والثقافية والفلسفية. أوإن شئنا الدقة أكثر: كنت ولا أزال دائمَ الإصغاء إليه يُبدي رأيا أو يُعبِّرُ عن موقف أو يفكر في مشروع ثقافي. وهكذا هي حالنا أيضا عبر الهاتف، حيثُ نتحاور لساعاتٍ في شتى المسائل، ما يُميِّز صديقي الكبير هو الصدق والحمية الثقافية وكرمُ الروح. يتحدثُ إليك انطلاقا من خلفية ثقافية عميقة وتجربة غنية في الحياة، تشعرُ أنك توقظ فيه الطفل الذي يسكنه ظمأ لا يرتوي إلى المعرفة بعيدًا عن الدوغماتية التي تأسرُ أصحابَ الفكر المُعلب الجاهز والأصوليات البائسة في عالم يشهدُ الانقلابات الفكرية الدائمة والمُراجعات المعرفية الشاملة. تدرك معه أنَّ الكينونة حوار، كما تقفُ على المرارات التي لفعت علاقاته مع الأحياء ومع المُؤسَّسة الرسمية التي لم تستطع تدجينه فرمت به في زاوية الإهمال. لقد نذر عمر أزراج حياته للإبداع والفكر النقديّ المُحرِّر من منظومات الإخضاع والتدجين. ظل مؤمنا بضرورة اختراق كل ما يحول بين الإنسان وضوء الحرية والكرامة انطلاقا من موقفٍ نضالي مُتقدم ينهل من المُنجز الفكري الذي مارس اختراق أسوار القلاع الثقافية الأمبراطورية المُتهافتة. ربما اعتقد، يوما ما، أنَّ الجميلة قتلت الوحش، كان واهما هنا أيضا، فلا يزال الوحشُ سيِّدَ الموقف، ولكن شرفَ الجميلة هو أن تبقى عنوانا للمُمانعة ولو من شرفتها الشمالية التي اختارت الإقامة فيها بصورة دائمة.
* الدكتور بلكبير بومدين " أزراج عمر ..الكاتب المتمرد"
المفكر والصديق أزراج عمر كاتب متمرد، لا يجامل ولا يحابي أي أحد في مواقفه. لا يلين ولا يخضع للإغراءات التي يتهافت على فتاتها الكثير من حاملي الشهادات أوممن يسمون "مثقفين"، ويدعون زورا الدفاع عن المثل السامية وتمثيل القيم الإنسانية في المجتمع. عرفناه طائرا حرا يحلق في سماء الفكر النقدي والرأي المستقل، لا يبدل مواقفه خوفا من سلطان أو رهبة من نظام، فقد تعرض الرجل بسبب قصيدة كتبها في ثمانينيات القرن الماضي إلى ملاحقات ومتابعات أمنية وبوليسية، مما اضطره لمغادرة البلد لضمان سلامته، وقد حفظ الجزائريون مقطعا من تلك القصيدة عن ظهر قلب:
* " أيها الحزب الذي فرخ قطعان الطحالب
أيها الحزب الذي حوّل أجراس الينابيع مخالب
إننا نطلب شيئا واحدا منك/ تجدد،
أو تعدد،
أو تبدد".
تجربة المنفى في بريطانيا، أضافت لتكوينه الفكري وساهمت بدرجة مهمة في بنائه الفلسفي والنقدي، ما ساهم في إضفاء البعد الموضوعي على مساهماته التي تنفر من الذاتية المقرفة، وتقوم على القراءة النقدية والتحليل المنهجي الصارم، فالشهادات العليا التي نالها والحياة الأكاديمية والدراسات والأبحاث المحكمة والرزينة التي أنجزها ونشرها في كبريات المجلات الأكاديمية في الجامعات العالمية العريقة، لم تجعله أسيرا في مساحة ضيقة، ولم تخلق منه ذلك الكائن الذي يتحرك على مستوى قاعات المحاضرات ومخابر البحث فقط، بل كان أفقه واسعا كالطائر الحر الذي لا يرضى العيش في قفص. لم يتوقف الرجل على المساهمة في النقاش الدائر في المنطقة ولم يثنيه منفاه عن ذلك، فقد ساهم في إثارة النقاش المسؤول في قضايا جوهرية في مجالات شتى، وفي منابر إعلامية وفكرية متنوعة، بحثا عن حلول موضوعية وعملية، تخرجنا من المأزق وتساعدنا في تجاوز تخلفنا بأقل الأضرار الممكنة وبأقصى فعالية وكفاءة. الرجل لم ينصف بعد في بلده، لكن يكفيه ما كتبه وما قدمه وما أضافه من أجل أفق أفضل…وسيأتي ذلك الجيل الواعي الذي سينصفه ذات يوم.

* الدكتور محمد الأمين بحري: " أزراج عمر…الشاعر الذي لم يصالح.."
حينما يسكن الإنسان مملكة الشعر يصبح أحد شعرائها بالانتساب، لكن حين يسكنه الشعر يصبح ثائراً على جميع الممالك حتى تلك التي رأى منها النور، أي يصبح مثقفاً بلغة أخرى.
لكن ثورة الشاعر أزراج ليست كبقية الثورات.. خاصة إن علمنا بأنه شهد استقلال هذا الوطن، كما شهد جميع لحظات الانتكاس التي تلت الاستقلال.. وعكس الكثيرين، فميزة الشاعر عمر أزراج أنه لم يصالح.. ومن ثم أراد وطالب بالتغيير؟؟، وهي جريرة كان ثمنها المطاردة والمنفى، وفي المنفى تفجرت قرائح عظماء التاريخ والعالم.. لكأنه شرط أو سراط ينشرط به الإبداع وتتلقح به الذائقة، إنها ولادة ثانية أهداه إياها مطاردوه؛ ونقلة أعاد بها التعرف على الذات والعالم والأشياء، في ولادة فينيقية تجددت فيها الذات والدواة بعد سنوات الحريق.
أما النقد عند أزراج فهو ليس نزوعاً طائفياً، أو تحيزاً شوفينياً، أو حتى تمرداً أو معارضة محسوبة على طرف ما، بقدر ماهي مبدأ أخلاقي، ترفض فيه الذات التسليم بالأمر الواقع والتصالح مع المشاريع الهدامة التي تحيا على تغييب الثقافة كي تتنفذ بالطغيان، هكذا وجدنا الرجل يرجم السياسات والأحزاب الحاكمة التي استبدت بشؤون البلاد ورهنت مصير العباد، وينتقد جذرياً الحركات الأمازيغية الشعبوية المنتفضة لشعارات تبين فيما بعد أنها جوفاء من أي مشروع ثقافي أوبديل حضاري ينعكس على الشعب، لذلك سرعان ما تلاشت الشعارات وتخلى عنها أهلها لمجرد دسترة الأمازيغية، فانطفأت الشعلة ميدانياً وتسابق أهلها إلى تعليم أبنائهم اللغات الحية والأجنبية
وتركوا أقسام الأمازيغية التي طالبوا بها مراراً شاغرة إلى يوم الناس هذا؟؟، وهذا الهزال الثقافي للمشاريع، هو العدو الذي يحاربه أزراج منطلقاً من نفسه وبلدته وشعبه ووطنه وأمته وكينونته كإنسان قبل ذلك.
وقليل من المثقفين من يعبرون سراط الجحيم أولاً، لينتهوا منبوذين ومطاردين ومنفيين.. فهل هي قسوة القدر، أم قسوة الدرب الذي اختاره المثقف، حين يحمل مشروعه كما يحمل لعنته، وهو يعلم بأنه يزج بنفسه في غولاغ العزلة والرفض الرسمي، خاصة وأنه من سكان العالم الثالث الذي تكون دهاء سياساته من قهر قوى التغيير في ثقافته، لهذا كان مجرد ذكر اسم "عمر أزراج" مربكاً لكثير من الساسة والمثقفين المدجنين، لا لشي إلا لأنه يعرف أصل الأنواع التي أفرزت وجودهم، والمنظومات التي غذت أفكارهم، والسياسات التي رفضها هو ورفضته، وقبلوها هم وقبلتهم سدنة لها، فحق لهم أن يتوجسوا خيفة أو أن يصيخوا السمع إذا هب ذكر هذا الاسم في حضرتهم.
ولك أيها المثقف العربي أن تقرأ أشعار الرجل، لتجد نفسك متورطاً في مشروع نقدي ثائر، حاملاً معاول التجديد، وتهدم مع الشاعر أوثان الفكر وأزلام التردي الإنسي الذي مردت على إنتاجه ثقافات العالم الثالث وسياساته التي ترفض من يحمل إرادة التغيير، باعتبارها خطيئة تتبعها لعنة حملها منذ الأزل ولا يزالون سائر أحفاد بروميثيوس.

* الرّوائيّ ابراهيم سعدي: " أزراج عمر كما أعرفه "
علاقتي بالشاعر الكبير عمر أزراج نشأت في مدينة "تيزي وزو"، بعد عودته من بريطانيا، حيث كان قد قضى أكثر من عشرين عاما، وبالتالي فإن معرفتي به ليست قديمة حقيقة، ومع ذلك فإنه ربما لا يوجد غير قليلين ممن يعرفون ابن "تزمالت" أحسن مني، فطوال إقامته بمدينة "تيزي وزو" كان لا يمضي أسبوعا دون أن نلتقي على الأقل مرة واحدة، يحدثني أثناءها- ما لم نخض في مناقشة حول موضوع من مواضيع الساعة أو في مسائل فكرية- عن حياته في مدينة الضباب، ولكن أيضا عن طفولته الصعبة، وبالطبع أيضا عن الصدمة والخيبة التي لم تفارقاه قط بعد عودته إلى الجزائر. لقد اكتشف الشاعر بأنه بعيدا حقا عن بلده، إذ وجده، إثر عودته، بعيدا عن أحلامه أكثر من بعد بريطانيا نفسها عن أرض الأجداد هذه، بل وحتى الناس وجد بأنهم قد تغيروا في الحقيقة.
وينبغي القول بأن عمر أزراج محدّث ممتاز، بحيث أنني كثيرا ما تساءلت في قرارة نفسي لماذا لم يكن روائيا في يوم من الآيام. وعمر – كما اعتدت أن أناديه – يملك بالخصوص قدرة كبيرة على الوصف وعلى استخدام التشبيهات. إن أول ما يخطر ببالي الآن من أحاديثه الطويلة الشيقة عن حياته، أثناء جلوسنا في مقاهي "تيزي وزو"، حيث يصر في كل مرة على أن يكون هو من يدفع ثمن ما نتناوله، أو ونحن نسير ليلا، في معظم الحالات، عبر الطرقات الكئيبة ب "المدينة الجديدة"، هو إقدامه على تسييره بنفسه قافلة مساعدات شخصية من الأردن إلى العراق أيام كان واقعا تحت الحصار الدولي الجائر بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وكيف أنه وجد هناك مثقفين، كتابا وأدباء، يعانون من الجوع والبؤس والمرض. وفي الأيام التي حدث فيها الغزو الأمريكي المشؤوم لبلاد الرافدين، ذكر لي بأن إغراءات كبيرة وصلته من قبل الصحف العربية اللندنية المساندة للاحتلال الأمريكي، لكنه رفض التعامل معها، محافظا دوما على موقفه الرافض والمناهض للعدوان الغاشم الذي تعرض له العراق، على خلاف كثير من المثقفين الذين استسلموا للإغراءات، فباعوا ضمائرهم وتحولوا من الضد إلى الضد. أشياء كثيرة يمكنني ذكرها عن أزراج، لكن المقام لا يسع لها جميعا، وأتذكر بالمناسبة بأنني كنت أول من اقترح عليه كتابة مذكرات، ذلك أن حياته كانت حافلة بأحداث جديرة بالتسجيل. لقد تعرف خلال السنوات الطويلة من الغربة على كبار المثقفين العرب وغير العرب، مثل "أدونيس" و"إدوارد سعيد" و"ستيوارت هول" وغيرهم، وأيضا على رؤساء و أمراء عرب، لكنه رفض التورط في علاقات تبعية وولاء أو بيع ضميره لأحد، ويمكن أن أذكر بهذا الصدد العرض السخي الذي عُرض عليه لتأليف كتاب عن حياة الرئيس المصري السابق حسني مبارك، لكنه رفض الاقتراح رغم الفائدة الكبيرة التي كان سيحصل عليها. لقد رفض كذلك قبول عرض للمشاركة في تأليف كتاب، بمعية صحافية فرنسية، عن حياة معمر القذافي، وهو لا يزال في عز قوته.
كثيرا ما كان الحديث بيننا يجره إلى الكلام عن والده، لكن ذلك -في معظم الأحيان- لكي يستشهد بقول من أقواله، فقد كان أبوه صاحب حكمة كبيرة، وقد تيقنت من أقواله البليغة تلك بأن المرء يمكن أن يكون حكيما وفيلسوفا دون أن يعرف حرفا من حروف الهجاء، وبأنه قد ينال شهادة جامعية ولكن دون أن يحصل على قسط من الحكمة التي قد تتوفر لدى الإنسان البسيط. أنا لست ناقدا شعريا، غير أنني أعتقد بأن عمر أزراج هو اليوم أكبر شاعر في الجزائر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.