يبدو أن فرنسا على موعد مع خريف ساخن ومسلسل طويل من الغضب العارم بسبب إجراءات الحكومة التقشفية التي أحكمت الخناق على المواطن الفرنسي في سابقة لم تعشها باريس من قبل، في الوقت الذي يصر اليمين المتطرف على صم آذانه إزاء مطالب الشارع الفرنسي، ما زاد من تأزيم الوضع في فرنسا التي دخلت في مرحلة من التوتر الاجتماعي والسياسي. لن تتوقف احتجاجات الشارع الفرنسي عند 10 سبتمبر الجاري، بل ستكون متبوعة بحراك اجتماعي واسع النطاق، مع إعلان النقابات العمالية الكبرى عن سلسلة إضرابات وطنية على غرار الإضراب الشامل المزمع تنظيمه يوم 18 سبتمبر والذي اختير له شعار "اليوم الكبير". وتتصدر "الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للعمل" و«الكونفدرالية العامة للعمل"، قائمة الداعين إلى هذا الاضراب، احتجاجا على الغاء عطلتين رسميتين وتجميد الإنفاق، باعتبارها "قاسية وغير مسبوقة"، ولكونها أيضا تستهدف بشكل مباشر الطبقتين العاملة والمتوسطة. في هذا السياق، وصفت ماريليز ليون، رئيسة "سي إف دي تي"، الخطة الحكومية بالمرعبة، داعية إلى التخلي عنها فورا، في حين شددت صوفي بينيه زعيمة "سي جي تي"، على أن الاحتجاجات ضرورية لإجبار الحكومة على تلبية المطالب الاجتماعية، مثل زيادة الأجور وتحقيق العدالة الضريبية. قبل ذلك، دعت حملة يسارية تحت شعار "لنغلق كل شيء" إلى المشاركة بقوة في إضراب يوم 10 سبتمبر، مع تنظيم فعاليات متزامنة، مما ينذر باحتمال حدوث شلل كبير في الحياة العامة. وتكشف الأزمة الحالية عن شرخ عميق بين السلطة التنفيذية والشارع الفرنسي، إذ في الوقت الذي يسعى فيه بايرو لتثبيت موقعه، يجد نفسه أمام تحدي الشارع الغاضب، الذي يبدو أنه لن يتسامح أمام سياسة التهور التي تمس بجيوب المواطن الفرنسي. في هذا السياق، كشف استطلاع رأي أجراه المعهد الفرنسي للرأي العام الأربعاء الماضي أن حوالي 63 بالمائة من الفرنسيين، يريدون حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، في الوقت الذي يكافح فيه بايرو لإنقاذ حكومة الأقلية التي يقودها، حيث يخطط لخفض الإنفاق بنحو 44 مليار أورو، وهي خطوة تسببت في غضب سياسي واجتماعي واسع. وفي ظل الانقسامات العميقة التي تعصف بالمشهد السياسي الفرنسي وكذا انزلاق باريس في أزمة ديون شبيهة بتلك التي شهدتها اليونان، يجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه في وضع حرج في حال السقوط شبه المؤكد لحكومة رئيس الوزراء بايرو، في الوقت الذي تطرح الكواليس السياسية أسماء وزير القوات المسلحة سيباستيان لوكورنو ووزير العدل جيرالد دارمانان كخلفاء محتملين لبايرو، لكن السؤال المطروح هل سيغير ذلك من حقيقة الأزمة؟ خاصة وأن أي رئيس وزراء جديد سيجد نفسه يواجه نفس مصير سلفه، وحتى في حال لجوء الرئيس ماكرون الى الانتخابات المبكرة، فإن الأمور ستبقى على حالها، بل إنه سيتحمل هذه المرة تبعات الأزمة لوحده. ويظهر جليا أن الدعوات المتكررة لتنظيم الاحتجاجات تأتي لممارسة المزيد من الضغط على الحكومة، بل أيضا لقطع الطريق أمام فرانسوا بايرو الذي أعلن بحر الأسبوع الماضي عن تصويت الثقة في البرلمان يوم 8 سبتمبر، حيث تشير معطيات إلى سقوط محتمل لحكومته، ما يفتح المجال أمام سيناريوهات سياسية معقدة. وبلا شك، فإن الأزمة الخانقة التي تعيشها اليوم فرنسا ماهي إلا القطرة التي أفاضت الكأس بسبب اصرار اليمين المتطرف على عدم الاخذ بعين الاعتبار المطالب الشعبية، حيث واصل منذ وصوله إلى الحكومة في تحدي شرائح واسعة من المجتمع الفرنسي الذي بات يعيش وسط مخاوف الخطاب العدائي الذي يهدد النسيج الاجتماعي للبلاد، فضلا عن اجراءات تقييدية زادت في تدهور المستوى المعيشي.