قال المهندس خير الدين قروش، في حديثه مع "المساء"، إن حادثة تعرض نافورة عين الفوارة بسطيف، لعمل تخريبي في 29 جويلية الفارط، تعكس جدلا عميقا حول مكانة الفن في الفضاء العام الجزائري، وحول العلاقة المعقدة بين التاريخ والتراث والذاكرة الشعبية. عاد المهندس خير الدين قروش إلى حادثة تعرض نافورة عين الفوارة بسطيف، أحد أشهر المعالم التاريخية في الجزائر، لاعتداء تخريبي جديد يوم 29 جويلية الفارط، عندما أقدم شخص على تحطيم وجه التمثال الرخامي بمطرقة، في حادثة أعادت إلى الأذهان سلسلة من الاعتداءات، التي عرفها هذا المعلم منذ عقود. تحدث أيضا عن التدخل السريع لقوات الأمن، مكن من توقيف الفاعل في عين المكان، والذي اتضح أنه من ذوي السوابق، سبق له أن ارتكب اعتداء مماثلا على التمثال سنة 2022، وبعد مثوله أمام القضاء في 31 جويلية 2025، صدر في حقه حكم بعشر سنوات سجنا نافذا، مع إلزامه بدفع غرامة مالية قدرها 500 ألف دينار جزائري، إضافة إلى تعويضات مدنية، لصالح الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية، بلغت ثلاثة ملايين دينار. عين الفوارة.. بين الفن والجدل اعتبر المهندس والباحث في التراث، قروش، أن هذه الحادثة تعكس جدلا عميقا حول مكانة الفن في الفضاء العام الجزائري، وحول العلاقة المعقدة بين التاريخ والتراث والذاكرة الشعبية. علما أن عين الفوارة ليست مجرد نافورة تزيينية، بل هي معلم حضري بارز، يجمع بين الوظيفة العملية والجمالية الفنية. أما التمثال الذي يعلوها، فمصنوع من الرخام، ويجسد حورية ماء بأسلوب أكاديمي كلاسيكي، كما يتخذ وضعية أنثوية رشيقة، تنحني قليلا فوق صخرة، في انسجام مع تدفق المياه في الأحواض المنحوتة. وأضاف قروش، أن هذه التركيبة تجعل النافورة تجمع بين بعدين متكاملين، فهي من جهة، عمل فني قائم بذاته، ومن جهة أخرى، منشأة مائية وظيفية مرتبطة بالحياة اليومية للمدينة. في المقابل، قال المهندس، إن وجود التمثال العاري في قلب مدينة محافظة، مثل سطيف، ظل يثير الجدل منذ سنوات طويلة، بين من يعتبره أثرا فنيا وتراثا وطنيا، ومن يراه منافيا للقيم الدينية والأخلاقية. تاريخ طويل من الاعتداءات أوضح قروش، أن النافورة تعرضت منذ إنشائها سنة 1898، لعدة اعتداءات، كان أبرزها خلال العقود الأخيرة، ففي 22 أفريل 1997، تعرضت إلى تفجير بعبوة ناسفة، خلال العشرية السوداء، دمر جزءًا من التمثال. بينما في 31 مارس 2006، تم تسجيل أضرار لم يتم توثيقها بدقة. أما في 18 ديسمبر 2017، فقد تعرض وجه التمثال ونصفه العلوي للتشويه بمطرقة وإزميل، على يد رجل، قيل لاحقا، إنه يعاني اضطرابا عقليا. وشهد تاريخ 5 أوت 2018، الانتهاء من عملية الترميم، وإعادة التدشين بعد سبعة أشهر من الأشغال، بينما في أكتوبر 2018، تم إحباط محاولة تخريب جديدة. كما تسبب شخص مخمور في أضرار على التمثال، في 2 ديسمبر 2022، ليحدث الاعتداء الأخير في 29 جويلية 2025، من قبل الجاني نفسه، الذي سبق أن تورط في حادثة 2022. واعتبر قروش أن هذا التسلسل الزمني، يوضح هشاشة الحماية التي يتمتع بها المعلم، كما يعكس استمرار النقاش المجتمعي حول مكانته. خلفيات المعتدين.. بين الدين والنفسية أشار الباحث، إلى أن دوافع المعتدين، غالبا ما تتمحور حول رفض عري التمثال، باعتباره "غير لائق"، فبعضهم يُقدم مبررات دينية أو أخلاقية، بينما تبين في حالات أخرى، وجود اضطرابات عقلية أو سُكر لحظة التنفيذ. وأكد المتحدث، أن القانون الجزائري واضح في هذا الصدد، حيث تنص المادة 407 مكرر من قانون العقوبات، على أن تخريب الممتلكات العمومية يعاقب بالسجن من خمس إلى عشر سنوات، وغرامة مالية تتراوح بين 500 ألف ومليون دينار. وأضاف أن الدوافع الأيديولوجية لا تشكل مبررا، بل قد تُعتبر ظرفا مشددا للعقوبة. حماية قانونية راسخة ذكر قروش أن نافورة عين الفوارة، أُدرجت رسميا في 3 نوفمبر 1999، ضمن قائمة المعالم والمواقع التاريخية المحمية، بموجب مرسوم وزاري، نشر في الجريدة الرسمية في ديسمبر من العام نفسه. ويستند هذا التصنيف إلى القانون رقم "98-04"، المؤرخ في 15 جوان 1998، المتعلق بحماية التراث الثقافي.وتابع أن المادة "96" من القانون، تنص على أن كل من يعتدي على الممتلكات المصنفة يُعاقب بالسجن من خمس إلى عشر سنوات، وغرامة مالية بين 20 ألفا و200 ألف دينار، فضلا عن التعويضات المدنية. كما أن المادة "2" من القانون نفسه، تقرر أن جميع الممتلكات المصنفة، هي ملك للأمة الجزائرية، ليؤكد أن الحماية لا تشمل التمثال وحده، بل أيضا محيطه العمراني والجغرافي، حفاظا على أصالة المعلم في بيئته الحضرية. القيم الثلاث.. التاريخية والفنية والرمزية قال قروش، إن قيمة عين الفوارة لا تختصر في بعدها الجمالي، بل تتوزع على ثلاثة أبعاد رئيسية وهي، القيمة التاريخية حيث شُيدت سنة 1898 في قلب سطيف، على موقع نافورة قديمة، لتصبح شاهدة على تعاقب الأزمنة. محيطها يزخر بحدائق ومواقع أثرية رومانية، مثل حديقة "الأمير عبد القادر" وحديقة "الرفعاوي". والقيمة الفنية، إذ أن التمثال من صنع النحات الفرنسي فرانسيس دو سان فيدال، بأسلوب أكاديمي كلاسيكي، يعكس فن النحت الأوروبي في نهاية القرن التاسع عشر، وأخيرا القيمة الرمزية، فالنافورة ارتبطت بالذاكرة الجماعية لسكان سطيف، وهي فضاء شعبي للتجمع والاحتفال، وحاضرة في الصور الفوتوغرافية والأغاني الشعبية، إلى درجة أن أسطورة محلية تقول "من يشرب من مائها يعود إلى سطيف". عمل من الفترة الاستعمارية.. ولكن ليس استعماريا أوضح قروش أن النقاش حول النافورة، كثيرا ما يربطها بالسياق الاستعماري الفرنسي. غير أنه ميز بين الأعمال الفنية التي أنجزت في الفترة الاستعمارية، وتلك التي كانت أدوات دعائية مباشرة لتكريس الهيمنة. وأضاف أن الجزائر بعد الاستقلال، أزالت التماثيل التي مجدت رموز الاحتلال العسكري أو الديني، مثل بوجو ولاموريسيار ولافجيري. في المقابل، فإن نافورة عين الفوارة، التي لا تمجد شخصية استعمارية، ظلت في مكانها. وأشار إلى أن جماليتها الفنية تجعلها أقرب إلى عمل عالمي، يمكن أن ينسجم مع أي مدينة متوسطية، ما يفسر استيعابها تدريجيا في الهوية المحلية لسكان سطيف. الجدل حول النقل عقوبة جماعية؟ قال قروش، إن الاعتداءات المتكررة أثارت نقاشا حول إمكانية نقل التمثال إلى متحف، حفاظا عليه. غير أنه حذر من أن النقل يعني تجريده من قيمته الأصيلة المرتبطة بالمكان، معتبرا أن أي محاولة لنقله، ستكون بمثابة "عقوبة جماعية" لسكان سطيف، الذين تبنوا النافورة كرمز حضري وشعبي. وأوضح أن القانون يمنع نقل المعالم المصنفة، إلا بترخيص استثنائي، وأن الأجدى هو تعزيز آليات الحماية في مكانها الأصلي. وأضاف أن الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية (OGEBC)، اتخذ إجراءات جديدة، كالمراقبة المستمرة، كما أن جامعة سطيف أنجزت مسحا ثلاثي الأبعاد للمعلم، ما يسمح بترميمه بسرعة عند الضرورة. نحو سياسة ثقافية نشطة أشار قروش، إلى أن الحفاظ على النافورة لا يعني تجميد الحياة في الساحة العامة، بل يمكن أن يكون جزءا من سياسة ثقافية نشطة، تُشجع على الإبداع الفني المعاصر، مضيفا أنه يمكن للسلطات، بدل الاكتفاء بالحماية، أن تطلق مسابقات وطنية لإنجاز أعمال نحتية جديدة، أو مشاريع فنية تستلهم التاريخ والتراث المحلي، مع الاستفادة من تقنيات حديثة، كالطباعة ثلاثية الأبعاد. وبهذا، يمكن للمدينة أن تحافظ على تراثها، وفي الوقت نفسه، تجدد مشهدها الحضري لصالح الأجيال المقبلة. مسؤولية جماعية وختم المهندس قروش، بالتأكيد على أن عين الفوارة ليست مجرد تمثال في وسط المدينة، بل هي إرث تاريخي وفني ورمزي يتجاوز قيمته المادية. وحمايته لا تتحقق فقط عبر القوانين والمرسومات، بل أيضا من خلال وعي المجتمع المدني، وتبني السكان للمعلم كجزء من هويتهم. وأضاف أن، صون التراث يقوم على ثلاثة مبادئ أساسية وهي: المعرفة بدلا من المحو، والحوار بدلا من الرقابة، بالإضافة إلى الحفاظ على تراث حي يخاطب الأجيال كافة. وبينما تتعرض النافورة لتهديدات مادية ورمزية متكررة، فإن التحدي الحقيقي يكمن في تحويلها من موضوع خلاف إلى جسر للحوار، ومن هدف للتخريب إلى مصدر اعتزاز جماعي. فهي، كما قال الباحث "مرآة تعكس قدرتنا كمجتمع على الدفاع عن تراثنا في مواجهة العواصف".