تطل مدينة "عنابة" على المتوسط في أقصى الشرق الجزائري، حاملة اسما فريدا، يرتبط ارتباطا وثيقا بإحدى أقدم وأندر الثمار التي تنمو في المنطقة وهي فاكهة العناب. هذا الاسم لم يُختَر عشوائيا، بل جاء نتيجة تراكم تاريخي، وثقافي وطبيعي، يعكس عمق العلاقة بين السكان والأرض، وبين الإنسان والنبات الذي أحاط به لقرون. العناب في الذاكرة التاريخية.. من الفسيفساء إلى المؤرخين تشير الأبحاث التاريخية إلى أن شجرة العناب كانت موجودة منذ العهد الروماني، إذ تُعد فسيفساء "إيون" (Eon Mosaic)، واحدة من أبرز الشواهد على ذلك. هذه الفسيفساء المحفوظة اليوم في متحف هيبون بعنابة، تُظهر بوضوح جذع شجرة العناب، ما يدل على رمزية هذه النبتة، وأهميتها عند الرومان، سواء لأغراض طبية، أو غذائية، أو حتى دينية. وفي القرن الحادي عشر، شهدت المنطقة ميلاد مدينة جديدة على يد الأمير زاوي بن زيري، الذي أسّس مدينة "بونة" على هضبة تُعرف باسم كدية العناب. وهو اسم موثق في عدة مصادر تاريخية. هذه الهضبة لم تكن مجرد موقع جغرافي، بل شكلت منطلقا لتسمية أوسع، رسّخت علاقة المدينة بهذه الفاكهة. كما لم يغفل المؤرخ ابن خلدون الإشارة إلى هذا الارتباط، حيث ورد في كتاباته ذكر "بلاد العناب"، كناية عن المنطقة المحيطة بمدينة بونة، ما يعكس شيوع الاسم وشهرته، حتى في الأدبيات التاريخية التي تناولت جغرافيا المغرب الأوسط. من "بلاد العناب" إلى "عنابة" مع بداية العهد العثماني دخلت المدينة مرحلة إدارية جديدة، حيث أصبحت تُعرف رسميًا ب"سنجق بلاد العناب" . وهو تعبير عثماني يشير إلى وحدة إدارية كبرى، ما يعكس بقاء الاسم، واستخدامه في السجلات الرسمية. وعقب الاستقلال الوطني في عام 1962، اعتمدت الدولة الجزائرية الاسم الرسمي "عنابة" للمدينة، محافظة بذلك على الهوية التاريخية والطبيعية التي ترافق هذه التسمية. وبذلك لم يكن اختيار الاسم مجرد عودة إلى الجذور، بل كان، أيضا، تأكيدا على استمرارية ثقافية تهم سكان المدينة، وتربطهم بمحيطهم البيئي. فاكهة العناب.. من التراث الطبيعي إلى مصدر للرزق فاكهة العناب هي شجرة معمرة تنتمي إلى الفصيلة السدرية. وتتميز بقدرتها على التكيف مع مناخات جافة، وشبه جافة. وتنمو بكثرة في المناطق الريفية المحيطة بمدينة عنابة، خاصةً في المناطق الجبلية والوديان ذات التربة الرملية، والحصوية. ثمرة العناب صغيرة الحجم ذات لون بني مائل إلى الأحمر الداكن عند النضج. وطعمها يتراوح بين الحلو والحامض. وتُستهلك طازجة أو مجففة. وتُستخدم في الطب الشعبي كمضاد للأكسدة، مقوٍّ للمناعة، ومهدئ طبيعي، إلى جانب دورها في تحسين الهضم. ومع اقتراب نهاية فصل الصيف يبدأ موسم جني العناب، حيث تنشط حركة البيع في الأسواق الشعبية، وينتشر النساء والرجال على أطراف الطرقات، وفي الأحياء لعرض ما جُمع من هذه الفاكهة. ولأنها لا تحتاج إلى وسائل معقدة للحفظ أو التوضيب، تصبح موردا اقتصاديا حيويا لعائلات بسيطة، تعتمد على ما تجنيه خلال أسابيع قليلة. العناب في الثقافة المحلية.. بين الرمزية والاستهلاك لا تقتصر أهمية العناب على بعده التاريخي أو الاقتصادي، بل تمتد إلى الثقافة الشعبية المحلية. فهذه الفاكهة كثيرا ما تُذكر في الأمثال والحكايات، وتُربط بالبساطة والشفاء. وتعكس نمط حياة مرتبط بالأرض والفصول. وفي السنوات الأخيرة، شهدت بعض الجمعيات الفلاحية المحلية محاولات لإعادة تثمين هذه الشجرة، من خلال تنظيم معارض موسمية، أو إطلاق مشاريع صغيرة لتجفيف العناب، وتغليفه، وتسويقه كمنتج بيولوجي طبيعي. كما بدأت بعض التعاونيات النسوية في تصنيع مستخلصات العناب على شكل مربى، أو مسحوق مجفف، يُستخدم كمكمل غذائي. العناب... رمزٌ مستمر في الذاكرة الجماعية من فسيفساء رومانية قديمة إلى أيدي فلاح بسيط، يبيع ثمارها على قارعة الطريق، تواصل فاكهة العناب سرد قصتها عبر الزمن. ليست مجرد فاكهة موسمية، بل رمزٌ لهويةٍ جغرافية، وتاريخية، واقتصادية، واجتماعية، رسّخ اسم مدينة عنابة في ذاكرة الجزائر، والعالم. وتُجسّد هذه الشجرة العلاقة العميقة بين الإنسان وأرضه، وبين التاريخ والنبات. وتُعلّمنا كيف يمكن ثمرة صغيرة أن تحمل على عاتقها اسم مدينة بأكملها، وتظل شاهدة على تحولات الزمن.