تلتقي ثلاثة أفلام تنتمي إلى تجارب سينمائية وثقافية مختلفة، من أندورا إلى الجزائر وصولًا إلى الشمال القطبي، لتشكّل معًا فسيفساء فنية تعكس تنوّع المقاربات والرؤى التي تحملها السينما المعاصرة في تعاملها مع الإنسان والأسطورة والهوية. وبينما يعود فيلم "لا داما بلانكا" إلى الذاكرة الشعبية ليعيد قراءة أسطورة غامضة في سياق تاريخي مضطرب، يغوص فيلم "نتيجة إيجابية" في أعماق النفس البشرية لحظة مواجهة الخوف والقلق والاحتمالات القاسية. أما الوثائقي "أغنية البقاء للشعوب السامية"، فيفتح نافذة على شعب أصلي يكافح من أجل حفظ لغته ووجوده في عالم يهدّده التهميش والاندثار. الأسطورة بين التاريخ والهوية تدور أحداث الفيلم القصير الأندوري "لا داما بلانكا" (30 دقيقة – 2025) للمخرجين ديفيد هارو تورن وجرارد نافالون بابيا، الذي عُرض أوّل أمس بقاعة "كوسموس بيتا" في رياض الفتح ضمن منافسة المهرجان الدولي للفيلم في طبعته الثانية عشرة، الذي يستمد عناصره من الأساطير والتاريخ المحلي في عام 1942، في سياق تاريخي مليء بالتحديات، حيث الحرب العالمية وما خلّفته الحرب الأهلية الإسبانية من تداعيات. يمزج الفيلم بين القمع السياسي والعنف والأساطير القديمة، ولا سيما أسطورة "المرأة البيضاء"، وهي شخصية بارزة في الفولكلور الأندوري. يُرسل الكاهن الشاب توماس، الشخصية الرئيسية، إلى قريته الأصلية من قبل الكنيسة للتحقيق في سلسلة جرائم غامضة تشمل القتل والاغتصاب، والتي يبدو أنّ ضحاياها مرتبطون بأساطير قديمة محلية. ومن خلال هذه القصة، يستكشف الفيلم موضوعات الإيمان والأخلاق والخوف والسلطة، مع إعادة قراءة جزء غير معروف من تاريخ المنطقة. "لا داما بلانكا" أكثر من مجرد فيلم قصير، إنّه جسر بين الماضي والحاضر، لقاء بين الأسطورة والواقع، ودليل على أنّ السينما الأندورية، رغم صغر حجمها، يمكنها إنتاج أعمال قوية وذات قيمة عالمية. ويتميّز الفيلم بقدرته على الجمع بين التاريخ والفولكلور من خلال إعادة سرد أسطورة المرأة البيضاء في سياق تاريخي مضطرب، مقدّماً رؤية للتأمّل في الذاكرة الجماعية والظلم والسلطة مع الحفاظ على جذوره المحلية بقوّة. ولد الفيلم نتيجة عمل تحضيري طويل بدأ قبل جائحة 2020، وجمع فريق عمل واسعًا، واستفاد من حملة تمويل جماعي لإتمام مرحلة ما بعد الإنتاج وضمان توزيعه. وتتميز الجودة التقنية للفيلم بمستوى عالٍ بالنسبة لمشروع أندوري: تصوير سينمائي متقن، مونتاج محكم، موسيقى وتصميم صوتي يعزز الأجواء الغامضة والدرامية للقصة. ومنذ عرضه في جوان 2025، تم اختيار "لا داما بلانكا" في عدة مهرجانات دولية وحصل على عدة جوائز فنية في الإخراج الفني والصوت، بالإضافة إلى جوائز المكياج والأزياء. لحظة الانتظار كمرآة للهشاشة البشرية أمّا المخرج الجزائري نضال الملوحي، فيقدّم في فيلمه القصير "نتيجة إيجابية" عملاً مكثفًا يعالج موضوعًا إنسانيًا حساسًا، من خلال زاوية هادئة وعميقة تتجاوز الحدث المباشر لتغوص في أبعاد نفسية واجتماعية متشابكة. ورغم قصر مدته (9 دقائق)، يملك الفيلم القدرة على فتح أسئلة أكثر بكثير مما يقدّم أجوبة، وهو ما يمنحه قوة خاصة في عالم الأفلام القصيرة التي تقوم على التقاط اللحظة الفارقة وتحويلها إلى تجربة كاملة. ينطلق الفيلم من حدث بسيط في الظاهر: انتظار نتيجة تحليل طبي. غير أنّ ملوحي يحول هذه اللحظة العابرة إلى تجربة إنسانية كاملة، يقود فيها المتلقي إلى داخل عالم البطل وإلى منطقة يختلط فيها الخوف بالتوقع، والقلق بالتأمل، وزمن الانتظار الذي يمرّ ببطء ثقيل. البطل الذي لا يحظى بتعريف مسبق يتجسد كشخص يمكن لأيّ مشاهد أن يرى نفسه فيه، لأنّ التجربة التي يعيشها عالمية ومشتركة بين البشر. يعتمد الفيلم على اقتصاد كبير في الحوار، فيما يترك للصورة مهمة التعبير عن الحالة النفسية للشخصية. تعكس الإضاءة الخافتة في أغلب المشاهد اضطراب البطل الداخلي، بينما تمنحه اللقطات القريبة إحساسًا بالاختناق وكأن الكاميرا تحاصر أفكاره. ويبدو أن المخرج اختار بعناية حركة كاميرا هادئة ومنضبطة كي يتيح للمشاهد الشعور بامتداد اللحظة وتراكم التوتر دون اللجوء إلى مبالغة أو تأثيرات مفتعلة. وعندما تصل القصة إلى نتيجتها، لا يتعامل الفيلم مع "نتيجة إيجابية" بوصفها نهاية، بل كعتبة تؤدي إلى سؤال أكبر: كيف سيواجه البطل حياته بعد الآن؟ وكيف يمكن لجملة قصيرة على ورقة أن تعيد تشكيل نظرتنا لذواتنا وللعالم؟ لا يقدم الفيلم حكمًا أو تفسيرًا مباشرًا، بل يترك الباب مفتوحًا أمام مشاهد يتأمل المعنى وفق تجربته الشخصية. ويبرز الأداء التمثيلي بدقة واعية، إذ يعتمد الممثل على التفاصيل الصغيرة: حركة اليد، نظرات العين، طريقة التنفس، وحتى تردد الخطوات، ما يعزز واقعية العمل وقوته النفسية. ويقدّم الفيلم في جوهره رؤية إنسانية واضحة: ليست المشكلة في النتيجة بحد ذاتها، بل في الطريقة التي نواجه بها احتمالات الحياة. فالإنسان غالبًا يعيش تحت ثقل ما قد يحدث أكثر مما يعيش تحت تأثير ما حدث بالفعل. ومن خلال هذه المعالجة، ينجح نضال ملوحي في تقديم فيلم لا يكتفي بسرد قصة قصيرة، بل يفتح نافذة على هشاشة الإنسان حين يقف وحيدًا بين احتمالات وجوده. صوت أصلي يقاوم الاندثار في فيلمها الوثائقي "أغنية البقاء للشعوب السامية"، تقدّم المخرجة الأمريكية يارا ليه عملًا يضيء صوت الساميين، الشعب الأصلي الذي عاش لقرون طويلة بين الطبيعة القطبية، وحافظ على لغته وعاداته وعلاقته الروحية بالأرض رغم كلّ محاولات الطمس والتذويب، وتحوّله إلى نداء عالمي يزاوج بين الشهادة الإنسانية والفعل الثقافي المقاوم. يأخذ الفيلم، الذي يمتد لخمسين دقيقة، المشاهد في رحلة داخل عالم غالبًا ما يفلت من عين الإعلام والبحث الأكاديمي. فالشعب السامي، الممتدّ في مناطق من النرويج والسويد وفنلندا وشمال روسيا، لا يزال يُختزل في صور فولكلورية تُظهره كعنصر غريب أو هامشي، بينما يخوض في الواقع صراعًا معقدًا ضدّ التمييز وتدهور البيئة والضغوط التي تهدد وجوده اليومي. تنجح يارا ليه في كسر هذه الصورة النمطية عبر بناء بصري متقشّف يركّز على الوجوه والأصوات وعلاقة الإنسان بالأرض. ومنذ اللحظات الأولى، يقدّم الفيلم الساميين بوصفهم مجتمعًا حيًا يتأرجح بين إرث ثقيل وتحديات الحاضر. فالشهادات التي يقدّمها الفنانون والنشطاء وحملة التراث تكشف واقعًا متعدّد الطبقات، واقعًا يضمّ القلق من اندثار اللغة، والخوف على الأراضي الأجدادية، والغضب من تهميش الأصوات السامية في النقاشات الإسكندنافية الرسمية. هذه التحديات لا تُعرض كحقائق جامدة، بل تأتي من خلال سرد حميمي يضع الإنسان في مقدمة الصورة، حيث يصبح كلّ صوت، وكلّ أغنية، وكلّ تفصيل من تفاصيل الحياة اليومية، جزءًا من قصة شعب يتشبث بوجوده. يولي الفيلم اهتمامًا خاصًا بعلاقة الساميين بالأرض، لأنها ليست مجرد مساحة جغرافية، بل عنصر وجودي لا ينفصل عن الهوية. تظهر عبر كاميرا يارا ليه مشاهد الرنّة وهي تتحرك في فضاءات قطبية شاسعة، في توازٍ مع شهادات حول تقلص هذه الأراضي بسبب المشاريع التعدينية والتغير المناخي. هنا لا يبدو الصراع اقتصاديًا فحسب، بل صراعًا على الذاكرة وعلى الحق في الاستمرار. وبهذه المقاربة، يصبح الوثائقي أكثر من مجرد رصد، بل فعلًا سياسيًا يعيد طرح سؤال الحقوق الأصلية في عالم يزداد انغلاقًا على نفسه. كما يبرز الفيلم قوة الجيل الشاب من الساميين، الذي لا يكتفي بحماية الموروث، بل يعمل على تجديده. تتقاطع الموسيقى التقليدية "اليايك" مع الأنماط الحديثة، وتظهر الأزياء والطقوس في سياقات معاصرة تسعى لفرض رؤية جديدة للهوية السامية بعيدًا عن النظرة المتحفية. ويمنح هذا التفاعل بين الماضي والحاضر الوثائقي روحًا نابضة ويكشف عن شعب لا يريد أن يعيش في الماضي، لكنه يرفض أيضًا التنازل عن جذوره. وقد اختارت يارا ليه الابتعاد عن الخطابات التوجيهية، فغيّبت الصوت الخارجي تمامًا واعتمدت على شهادات الساميين وصورهم كمرجع وحيد لقراءة الواقع، وهو أسلوب يمنح الفيلم قوة مضاعفة لأنه يقدم الساميين كما يرون أنفسهم، لا كما يريد الآخرون أن يروهم. تتجاوز الكاميرا دورها التقليدي لتصبح شاهدًا ومحاورًا ومساحة للبوح، وهو ما يمنح الوثائقي صدقًا نادرًا في الأفلام التي تتناول الشعوب الأصلية.