استكشاف وإنتاج المحروقات: سوناطراك توقع اتفاقية مبدئية مع الشركة الأمريكية إكسون موبيل    وحدات جيش التحرير الصحراوي تستهدف جنود الاحتلال المغربي بقطاع المحبس    وزير الري يلتقي برئيس المجلس العالمي للمياه ببالي    سوريا وروسيا تنشطان حفل اختتام المهرجان الثقافي الدولي ال13 للموسيقى السيمفونية    عطاف يُحادِث نظيره الإيراني    إطلاق أشغال إنجاز أول وحدة مختلطة لإنتاج مركزات خام الحديد    رقم قياسي في قطاع السّكن بالجزائر    رئيس الكونغو يستقبل عرقاب    بوغالي يشارك في تشييع جنازة رئيسي    انتصار جديد للقضية الفلسطينية    غالي يؤكد أهمية دور المنتدى الدبلوماسي    الجزائر تطلق بيان التزامات الأونروا المشتركة    سعيدي يتوّج بالقميص الأصفر    يوم وطني تكريما لجزائريات برزن في مجال العلم    هذا ما دار بيننا وبين الرئيس..    الإخلاص لله والصدق مع الله    حجّاج جزائريون في مزارات المدينة المنورة    تعزيز علاقات التعاون الثنائية في الكهرباء والطاقات المتجدّدة    زيتوني يجتمع بمستوردي البن والمستلزمات المدرسية ومنتجي الأجهزة الكهرومنزلية    إحباط إدخال كميات من الكيف عبر الحدود مع المغرب    الصالون الوطني للفنون التشكيلية بتبسة: انطلاق مسابقة أحسن رسم بورتريه لشخصيات وأعلام الولاية    مسابقة "نجمة الإعلام".. الترشيحات مفتوحة    السعيد شنقريحة يشرع في زيارة عمل وتفقد إلى الناحية العسكرية الثانية    توافق تام في الرؤى    خطوة جديدة نحو تحقّق حلم الفلسطينيين المنشود    الجزائر تطلق بيان التزامات "الأونروا" لتمويل الوكالة    الجوية الجزائرية تفتح باب التوظيف    تخفيضات تصل إلى 60% في تذاكر النقل البحري    نواب المجلس الشعبي الوطني يؤدون واجب العزاء    بوغالي يشارك في مراسم تشييع جنازة الرئيس الإيراني    الجزائر تقدم حلولا أمثل لاستغلال الثروات الإفريقية    درك أولاد سلام يحقق في جريمة قتل    قطار يدهس رجلا ببقعة البساكرة    الإطاحة بعصابة مهلوسات وحجز 8 آلاف قرص    إدارة مانشستر يونايتد رصدت مبلغا كبيرا لضم ايت نوري    الترجي يحتفظ بكامل حظوظه للصعود إلى الرابطة الأولى    بقة وبوشرف يتوَّجان بالبرونز    مجموعة استثنائية من المعادن والصخور والحفريات    دورة "بهية راشدي" تحتفي بفلسطين    صدور كتابين للأستاذين بوحالة وبكاي    نسيم سعيدي يهدي الجزائر القميص الأصفر    سعدان يدعم بيتكوفيتش ويعبر عن فخره بالعودة لخدمة الكرة الجزائرية    الجزائر تمتلك أهم نسيج في الصناعات الصيدلية في إفريقيا    سكيكدة : حجز 8640 قرص مهلوس في عملية نوعية للأمن    مجازر صهيونية تفتك بالحوامل والرضّع وترعب النازحين    نقص في مخزون الزمرات السلبية : الشروع في حملات تبرع بالدم لدعم البنك خلال الصائفة بقسنطينة    فيما تم ربط 576مستثمرة فلاحية بالطاقة الكهربائية : استثمارات "سونلغاز" أم البواقي فاقت 85 مليار دينار    ميدالية ذهبية للعدّاء الجزائري عثماني جميل    عون يشرف على تنصيب التركيبة الجديدة    بلمهدي يشرف على تنصيب لجنة متابعة موسم الحج    البطولة الإفريقية للرافل : افتتاح الطبعة الخامسة بتوقرت بمشاركة تسع دول    استراتيجية وطنية للأمن الصحي قبل نهاية السنة    زيارة المتاحف تعزّز الذّاكرة الوطنية    الدورة ال 77 من مهرجان كان : الإعلان عن الفائزين بجوائز النقاد للأفلام العربية    رعاية اليتامى وكفالتهم.. الكنز الكبير    نفحات سورة البقرة    آثار الشفاعة في الآخرة    نظرة شمولية لمعنى الرزق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صلاحية الحكم للحاكم و المحكوم

ليس بخفى عن أحد أن الشرق قد عانى محنة من أشد أنواع المحن ، كان سببها أنه بدأ يتحمل عبْ نفسه ، بعد أن رحل عنه الإحتلال ، بعدما كان يحمله عنه المحتل ، فكان المحتل يصرف أمور الأمة كما يرى ، فيحرم ما يشاء و يحل ما يشاء ، و يعز من يشاء ، و يذل من يشاء ، فإذا إستعان ببعض أفراد الأمة فبأيديهم لا بعقولهم ، و قد يستعين بعقولهم أيضا ولكن على شرط أن تكون فى خدمة عقله ، و فى الإتجاه الذى يرسمه قلمه ، أمسك بيده المال و هو عصب الأمة ، ينفق منه كما يشاء فى الوجوه التى تخدم سلطانه ، و يبخل كما يشاء فيما يعارض منهاجه ، فهو شحيح كل الشح على التعليم و بخاصه العالى منه ، و على الجيش و ما إليه ، و هو سخى فيما يصلح الأرض و يدر الثروة ، و على كل حال لم يقف من الأمة موقف المعلم النزيه يؤهل تلميذه ليكون رجلا يوما ما ، و يمرنه على أن يستقل بنفسه شيئاً فشيئاً ، إنما وقف منه موقف السيد من عبده يسخره و له الغله ، و يطعمة بما يسد رمقه ليقوى على العمل له .
ثم كان أن جاهد الشرق جهادا شاقا طويلا جعل حكم الأجنبى له شاقاً عسيراً ، و ساعدت الأحداث الخارجية وما فيها من قلق و إضطراب على أن يغير المحتل سياسته و يحمٌل الأمة أكبر عبئها ، و يطلق لها اليد فى التصرف فى أكثر شؤونها . فأصبحت الأيدى التى كانت تعمل بعقول غيرها غير كافية ، و اشتدت الحاجة إلى العقول المفكرة ، و أساليب الحكم العادلة الحازمة ، فإذا بالشرق أمام مدرس يلقى لأول مرة درسه ، أو قاض يجلس على منصة القضاء أول عهده ، حتى الذين تولوا الحكم فى عهد الاحتلال و الحكم بعد الاحتلال يشعرون بالفرق بين الحكمين ، و أختلاف الصعوبة فى العهدين ، فقد كانوا فى عهد الاحتلال أيديا مسخرة ، و هم فى عهد الاستقلال عقول مدبرة .
و الأحرى بنا أن نعرف أن أول درس يجب أن يتعلمه الشرق هو تضحية الحاكم ، ونعنى بذلك أن يضحى شهواته فى سبيل تحقيق العدل الدقيق ، فلا تستهوية شهوة المال ، ولا شهوة الجاه ، ولا شهوة المنصب فتصرفه عن إحقاق الحق و إبطال الباطل . و بطبيعة الحال أن الشعب لا يرضيه من الحاكم فى عهد الاستقلال ما كان يرضيه فى عهد الاحتلال ، فقد كان فى عهد الاحتلال يصبر على الظلم كارها بحكم القوة ، فلما رأى أن حكومته منه ، و أنها تستمد قوتها من قوته ، لم يرض عن ظلم ، بل هو يشتط فى طلبه فلا يرضى عن عدل مشوب بظلم ، إنما يريد عدلا خالصا ، و يتطلب منها المثل الأعلى فى العدالة و إلا لا يمنحها رضاه .
ثم هو لا يرضى بتحقيق العدل السلبى وحده ، مثل عدم الترقية لصلة أو قرابة ، و عدم الظلم فى توزيع مياة الرى مثلا على القرى ، و نحو ذلك من تصرفات ، إنما يطالب بتحقيق العدل الإيجابى أيضا ، مثل إصلاح نظم التعليم و نظم المال و نظم الصحه و نظم الشؤون الاجتماعية ، و النظم الاقتصادية ، فإذا قصر الحاكم فى ذلك مل المحكوم و سئم ، و شكا من أن العهد الجديد لم يفترق عن العهد القديم ، إذ لم تتحقق آماله ، و لم يظفر بما كان يرجو من سعادة و أمان .
و جدير بنا و من الإنصاف أن نقول إن تبعة صلاحية الحكم و عدمه لا تعود إلى الحاكم وحده ، بل إن جزءاً كبيراً يحمله الشعب المحكوم نفسه ، فالحكم فعل و انفعال مستمران بين الحاكم و المحكوم ، و النتيجة التى نراها من تقدم الأمة أو تأخرها هى نتيجتهما معاً لا نتيجة الحاكم وحده .
و لعل الأثر الذى يقول : " كما تكونوا يولى عليكم " ليس قانوناً للقدر ، بل هو قانون طبيعى . فحالة المحكوم تشكل – لا محالة – بالشكل الذى يتفق وحالته . وقد علمنا التاريخ أن عسف الحاكم لا يتم و لا ينجح إلا إذا سبقه استنامة المحكوم و ضعف إحساسه، وصلاحية الحاكم مسبوقه دائما بتنبه المحكوم و حسن تقديره للعداله و الظلم .
بل إن أساليب الحكم و نظريات الحكومات لم تقدم على مر الزمان تقدم الشعوب فى تقدير العدل و الظلم ، فنظم الحكم التى وضعها اليونان و الرومان - و على رأسهم أفلاطون فى جمهوريته و أرسطو فى كتابه السياسة - لم تتقدم كثيرا فى عهدنا الحاضر ، و لكن شعوب اليوم – فى فهم الحكم و مدى سلطة الحاكم و إبائهم أن يتجاوز حده - أرقى بكثير فى ذلك من شعوب أمس الدابر . لقد كان الحاكم يستطيع أن يحكم - فى سهولة و يسر إلى عهد طويل - شعبه على رغم أنفه بسلطانه و جبروته ، ثم هو يتحمل أعباء الحكم على كتفه وحده ، أما اليوم فلا ستطيع حاكم مهما أوتى من العقل و القوة أن يحكم إلا برضا شعبه و بمعونته و بمشاركته إياه فى حمل العبء ، و إن وجدت حالات تخالف ذلك فحالات شاذة لا يسمح النظام الاجتماعى ببقائها طويلا .
بل تبين فساد رأى أفلاطون و أرسطو و أمثالهما فى أن هناك طبقة خاصة يجب أن تحكم ، و أنها و حدها الصالحه للحكم ، و أن من عداها غير صالح إلا لأن يُحكم ، و تبين أن الحاكم الحق للشعب هو الشعب نفسه ، و إنما يركز آراءه فى الحكم فى أشخاص لأن الناس اعتادوا تجسيد المعانى و الرمز إليها بحسوسات تقريباً لعقولهم و تبسيطاً لأفكارهم ، ولا ينجح حاكم ولا مصلح إلا إذا مثل رأى الناس أو على الأقل رأى طائقة صالحة منهم ، فلو أتى مصلح بما لا يتهيأ له فريق من الناس لعد مجنوناً ، بل إن الشعب أو الطائقة منه هى التى تخلق حاكمها و تخلق مصلحها ، إذ هو ليس إلا مبلوراً لأفكارهم و مركزاً لآرائهم . وليس الحاكم أو المصلح جذر الشجرة ولكن زهرتها ، إنما الجذور و الساق و الأوراق هى الشعب نفسه .
و من الواضح أن الشرق يميل إلى أن يحكم حكما ديمقراطيا ، و له الحق فى ذلك ، لأنه قد جرب أنواعا من الحكم الاستبدادى على أنواعه المختلفه فكانت مميتة لمشاعره ، عائقة لتقدمه ، و كان الحكام المستبدون ينعمون بكل صنوف الترف و النعيم على حساب بؤس الشعب و فقره . و على الرغم من الميل إلى الديموقراطية ، لأنها على ما بها من عيوب لا تزال أرقى أنواع الحكم و أبقاه ، و حكم الاستبداد إن رضيته بعض الأمم حيناً ، أو فرض عليها فرضاً حينا ، أو ارتكن على بعض الظروف حيناً ، فليس هو الحكم الصالح للبقاء أبدا.
هذا و قد انهار الاستبداد فى مظاهره المختلفة ، و حلت محلة الديموقراطية بأشكالها المختلفة . انهار استبداد رجال الدين بعد أن سيطروا على الشعوب أزماناًُ طويلة لقى فيها الناس من عنتهم ما كرُه إليهم الحياة . فقد انهار استبداد الأب بأسرته ، فلم يعد ذلك الأب الذى لا إرادة فى البيت بجانب إرادته ، ولا الأب الذى كلمته حكم ، طاعته غُنم ، و حل محله أب هين لين ، يأمر حيناً فيطاع ، و يؤمر حيناً فيطيع . و بذلك قد تغيرت الغايات للسلطات ، فأصبحت الغاية من الحكومة لا أن تظهر بمظهر الآمر الناهى ، و لكن أن تحقق العدالة و الحرية للناس حتى للضعفاء ، و أصبحت الغاية من الأب لا أن ينعم بسلطانه ، و إنما الغرض منه و من الأسرة كلها إيجاد جو صالح لنمو الطفل وتربيته و رقيه . و ليس الغرض من المعلم أن ينفذ إرادته بالعصا ، و إنما الغرض منه و من الناظر و المدرسة كلها أن يمسكوا بدل العصا مصباحا يضئ للتلاميذ حقائق الحياة و سبل الحياة .
و الجدير بالاشارة إلى أن هذا الحكم الديموقراطى لا يصلح إلا بتنظيم دقيق ، بل هو إلى النظام أحوج من الحكم الاستبدادى ، لأن الحكم الاستبدادى يحمل عبئه فرد واحد و أعوانه ايديه ، و هو الرأس المدبر ، فطبيعى أن يكون ظلمه و عدله منظما . أما الحكم الديموقراطى فيحمل عبئه عدد كبير ، فإذا لم يؤد كل واجبه اختل البناء ، و مثله مثل الآله ذات الأجزاء المختلفة ، أو كالساعة ذات القطع المتعددة المتباينة ، ولا ينتظم سير الآلة ولا سير الساعة حتى يقوم كل جزء بعمله .
و لعل سبب آخر لحاجة الحكم الديموقراطى للنظام دون الحكم الاستبدادى ، و هو أن الحكم الاستبدادى يرمى إلى تحقيق مصلحة فرد واحد أو طائفة محصورة ، و ذلك أمر سهل و يسير . أما الحكم الديموقراطى فيرمى إلى مصلحة الشعب جميعه و خاصة الضعفاء ، كالفقراء و المرضى و الفلاحين و العمال ، و هؤلاء عددهم فى كل أمة كبير ، ولا يمكن تحقيق الخير لهم إلا بجهد جهيد و نظام دقيق . فإذا لم يتحقق هذا النظام فشل الحكم الديموقراطى ، وظن قصار النظر أن العيب يرجع إلى طبيعة الحكم ، و هو فى الواقع لم يرجع إلا سوء تطبيقه و استعماله . ثم إذا اختل كان نذيراً بعودة الاستبداد ، و أرتكن المستبدون و ذوو السلطان إلى ما يبدو تحت أعين الأمه من سوء الحكم الديموقراطى و فساده ، و اتخذوا ذلك ذريعة إلى استرجاع سلطانهم و استعادة استبدادهم ، و أعادوا الامة الى سيرتها الأولى يسخرونا لمنفعتهم و يستعملونها لمصلحتهم .
إن أكسير الحياة للشرق الآن هو تحرى العدالة فى الحاكم ، و تضحية شهواته ، و تنظيم حكمه و حمل كل عبئه ، و تنفيذ واجبه فى دقة ، و إلا كان تحت خطر الفوضى التى تقدم للأسد الرابض حجته و صياحه من جديد بأن الشرق أعطى حريته فلم يحسن استعمالها .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.