الثقافة هي الأبقى، وهي الأصلح، تلكم هي الجملة القاطعة التي ختم بها الأستاذ ميكولسكي، الأستاذ بمعهد الإستشراق في روسيا كلمته في ملتقى الروائي عبد الحميد بن هدوقة الثاني عشر بمدينة برج بوعريرج. والقصد من ذلك هو أن التقلبات السياسية الاجتماعية التي عرفها الإتحاد السوفياتي قبيل انتقاله إلى روسيا الحالية وانفصال العديد من الجمهوريات السابقة عنه لا يمكن أن تؤثر سلبا في تطور الحياة الفكرية. فبالرغم من زوال العديد من المؤسسات الثقافية النشيطة في النقلة السياسة التي تحققت في روسيا الحالية، إلا أن الخط الفكري ما زال واضح المعالم. وبالفعل، فقد أوضح الأستاذ ميكولسكي أن مدرسة غوركي للأدب ما زالت قائمة نشيطة على عهد الناس بها في كل مكان. وما زال الأدباء يتخرجون منها على الرغم من أن الكتابة الحقيقية لا تدرس في الجامعات. وما زال المترجمون من جميع اللغات يتخرجون من نفس المعهد ويباشرون ترجمة الأدب العالمي إلى اللغة الروسية. وكانت دار التقدم ودار )رادوغا( المعروفتان بسلسلة الكتب التي قدمتاها لقراء مختلف اللغات خلال العقود السابقة من أنشط المؤسسات الثقافية عبر العالم كله، بل إن العديد من المترجمين العرب الذين درسوا في الإتحاد السوفياتي نقلوا العديد من روائع الأدب الروسي إلى اللغة العربية في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن المنصرم. وإذا كنا اليوم لا نقوى على متابعة ما يحدث من نشاط ثقافي في روسيا الحالية، إلا أننا ما زلنا نقرأ ما أنجز من ترجمات في الفترة السابقة ذلك لأن الأدب الحقيقي باق على مر الزمن أيا ما كانت التقلبات السياسية. والأستاذ ميكولسكي الذي شرفنا وجاء من روسيا إلى مدينة برج بوعريرج ضليع في اللغة العربية، ينطقها بسلاسة يعجز عنها العديد من أبناء العالم العربي. ويكفيه فخرا أنه نقل روايات عبد الحميد بن هدوقة إلى الروسية، واضطلع في الفترة الأخيرة بترجمة )مروج الذهب( للمسعودي إلى الروسية، وكذلك كتاب )الروض العطر( للنفزاوي، هذه التحفة التراثية المعروفة التي يزدهي بها الأدب العربي منذ القرن الثالث عشر. هذه الإنجازات الفكرية كلها تتحقق في اللغة الروسية في وقت ما عاد فيه أبناء العالم العربي يعرفون أين يولون بوجوههم كلما تعلق الأمر بلغتهم، وبضرورة إثرائها بالمنجزات الثقافية والفكرية التي يتم إنجازها في اللغات العالمية. ولذلك، أمكن القول إنه ينبغي أن نأخذ عربيتنا على أعاجمنا، أي على الروس، على غرار ما قال به أحد خلفاء بني العباس في أيام الزهو العربي الإسلامي. وإنما أحببت بهذه الأسطر أن أوجه تحية تقدير للأستاذ ميكولسكي، العالم المتواضع الذي لم يتردد لحظة واحدة في تلبية الدعوة التي وجهت إليه لحضور ملتقى عبد الحميد بن هدوقة، والمشاركة فيه مشاركة نشيطة.