رائحة الحناء القوية التي تركتها صاحبة الشعر الأسود الطويل في السيارة تجعلني أقوم بإعادة الحكي و قد غطى الثلج المدينة بأكملها، أقود السيارة نحو الأغواط بسرعة السلحفاة، لا أستعمل المكابح في الصقيع، الثلج لا يزال يساقط وأنا أواصل سيري ببطء شديد، عندما وصلت إلى المكان المسمى "ثنية القوافل" أوقفت السيارة قسرا أمام المنحدر الشديد، وجدت صاحب عربة "كواستر" منعني من المغامرة خوفه الشديد، كانت الساعة السادسة صباحا والصقيع يملء الطريق، قال لي صاحب الكواستر وهو يرتعد: لم يغامر أحد بالمرور في المنحدر الشديد. عدت بالسيارة إلى مقهى صديقي الأمازيغي في محطة البنزين، ورحت أشرب القهوة وأنا أتأمل أصحاب الكروش المنتفخة من سائقي الشاحنات فلقد منعهم رجال الدرك من مواصلة السير خوف التسبب في حوادث المرور، كان منظرهم مقرفا وهم يقهقهون ويملؤون المقهى بالضجيج، حاولت أن أغلق أذني أمام نكتهم السخيفة والمليئة بكلام العيب لكنني لم أقدر فشربت قهوتي بسرعة الضوء، أعدت ملء خزان سيارة البيجو 206 بالوقود وانطلقت بها مرة أخرى، هذه المرة لن يوقفني سائق الكواستر، عندما وصلت منحدر ثنية القوافل وجدت طابورا للسيارات وقد اصطف الجميع دون أن يأخذ أحد شرف المغامرة، حاولت الخروج من الصف ولكن السيارة لم تتقدم فلقد منعتها كتل الثلج المتجمعة بين العجلات والهيكل، خرجت وأزلتها ثم انطلقت بالرجوع قليلا إلى الخلف ثم التقدم نحو الأمام انطلقت مغامرا بنفسي في المنحدر الشديد وزادي هذا الصباح رائحة الحناء القوية التي تركتها صاحبة الشعر الأسود الطويل أمس، ولم تذهب بقيت في السيارة، لأنني لم أفتح النوافذ، هي اليوم تزيدني عزيمة وإصرارا على الذهاب نحن الأغواط وقضاء حاجتها الإدارية التي كلفتني بها، إنني مثل دون كيخوت أقود حربا بسيارة مهترئة، لم يتوقف الثلج عن التساقط لهذا واصلت تدويري للمقود يمينا وشمالا متناسيا وجود المكابح في السيارة، رغم أنني دخلت في عمق الثلج إلا أن لا قوة تمنعني عن مواصلة رحلتي، صاحبة الشعر الأسود الطويل حاضرة معي برائحة الحناء وبكلماتها و نحن نعبر أمس الطريق بين بوتريفيس وجلفا الجديدة عبر طيبة هذا الشارع المسمى مؤخرا على العقيد شعباني، ربما انصافا له، قلت لصاحبة الشعر الأسود الطويل: هذا الطريق مختصر جدا نعبر من خلاله على طرف الوادي و نجد أنفسنا في جلفا الجديدة. قالت لي: ولكنني أحب جلفا القديمة، المدينة الجديدة مجرد هياكل إسمنتية. قلت لها: سوف آخذك إلى مكان تطلين منه على جلفا القديمة. وقبل أن أصل إلى المسجد في حي العقيد شعباني، انحرفت بالسيارة يسارا وارتفعنا قليلا فوق هضبة توجد فيها غابة من بقايا السد الأخضر عبر الطريق المؤدي إلى حي الوئام المدني، ثم توقفت بها. قلت لها: من هذا المكان تطلين على جلفا القديمة. قالت: رائع، إنه منظر مدهش، هل يمكنني أن آخذ له صورا؟ قلت: أجل ...أجل ... وما الذي يمنعك؟ راحت تلتقط الصور وهي تكاد تطير من سعادتها، ثم قالت لي: تلك مئذنة مسجد أحمد بن شريف. قلت: نعم ، إنه مسجد العقيد. قالت: واو ...عرفتها من المصابيح الملونة، أحمر، أزرق، أخضر،أصفر، أبيض. ثم قالت لي: الناس هنا منغلقون على أنفسهم، لا يتحدثون، لا يعبرون عن فرحتهم، لا توجد مسارح ودور سينما ومقاهي تدخلها النساء. قلت لها: أنت في ذهنك مدن أخرى، تضعين في مخيلتك المدن التي عشت فيها، دمشق، حلب، الجزائر، قسنطينة، تلمسان، وهران بينما جلفا هكذا جميلة بناسها الطيبيين وبمقاهيها الشعبية، وبالحديقة النباتية في جلفا الجديدة وببردها الشديد. قالت: فعلا البرد شديد. طلبت منها مغادرة المكان بعد أن التف حولنا الأطفال، فقالت لي: انتظر، انتظر سوف ألتقط معهم صورة. تعجبت صاحبة الشعر الطويل من مشيهم حفاة في هذا البرد القارس، فقلت لها: في قلوب الأطفال دفء شديد في الليل وقبل أن أنام دخلت صفحتها في شبكة التواصل الاجتماعي فوجدتها قد اكتست حلة جلفا القديمة بمآذنها الملونة، لا يوجد حي في المدينة دون مسجد. مررت بمنحدر ثنية القوافل وفزت بالرهان استطعت تجاوزه برائحة الحناء التي لا تزال تعطر السيارة، وانطلقت مسرعا نحو الأغواط لقد أطلت الشمس رغم خجلها لتذيب كتل الثلج التي اختفت نهائيا عند مفترق الطرق المؤدي إلى مدينة مسعد.