تبدو ”سيما” امرأة لا تعرف المستحيل، ولا تعترف بالظروف الصعبة.. ببساطة تستقبل السياح وزوار مدينتها ”إن أمناس”، وتسهم في تعريفهم بتراث المنطقة الاجتماعي، من خلال معارضها التي تقدم من خلالها آخر ما أبدعته أناملها في مجال الصناعة التقليدية.. إنها سيما التي تم تكريمها وطنيا، وفازت بالمرتبة الأولى من حيث جودة المنتوج وأصالته. مع أنها أمية وتقيم في منطقة نائية في الصحراء، إلا أنها انتزعت اعترافا وطنيا بمواهبها، واستطاعت أن تحول الخيمة الصحراوية المصنوعة من الجلد إلى مطلب سياحي وطني.. في قصتها تُختزل قصص النساء التارقيات اللاتي كافحن حتى لا يندثر تراثهن الاجتماعي.. تقول سيما، السيدة التارڤية الخمسينية، ل”الفجر”: ”ولدت في إن آمناس، وعشت في منطقة صعبة.. كانت أمي وجدتي تشتغلان في صنع الزرابي والخيام، لكن الإقبال عليها كان ضعيفا جدا بسبب مظاهر التمدن التي عرفتها إن أمناس، واستبدال الناس الخيام بالبيوت المبنية من الحجر، التي تحفها الطرقات من كل جانب.. ورغم ذلك فقد سلكت مسلكهما، وآمنت أن الصناعة التقليدية - خاصة خيام الجلد - هي قدري، الذي سأصنعه على طريقتي”. الصدفة لم تكن سبب نجاحها إلى جانب حياتها الأسرية والزوجية، مارست ”سيما” صناعة كل ما تحتاجه العائلة التارڤية التي مازالت تتخذ الخيمة مسكنها الدائم أو المؤقت، وفي 2002 تكللت جهودها الطويلة بالنجاح، عندما نظمت أول معارضها في تظاهرة محلية، ونظرا لجودة منتوجها فقد تمت دعوتها للمشاركة في صالون وطني للإبداع التقليدي. تقول سيما: ”لم أكن أعلم ان أعمالي ستنال رضا مختصين قدموا إلى المنطقة بحثا عن ممارسي الصناعة التقليدية، فبعد معارض لي بين سنتي 2002 و2008، تلقيت عرضا بخصوص مسابقة وطنية، لأن صناعاتي كانت من الطبيعة ويدوية 100 بالمئة، وكان الهدف من تلك المسابقة اختيار أحسن الحرفيين الذين مازالوا يعتمدون على الأصالة كعنصر أساسي وكهدف لا محيد عنه، وتم تعيين لجنة متخصصة لفحص الأعمال المشاركة. بقينا - نحن المترشحون - ننتظر قرار اللجنة، وعندما أعيدت إلينا الحقائب وجدت أن ورقة قد ألصقت على منتجي، تشير إلى أن أعمالي قد نالت رضا اللجنة، وأن ولاية إيليزي قد فازت - بذلك - بالمرتبة الأولى على مستوى الوطن”. الصدفة لم تلعب دورا مهما في نجاح سيما، بل الإصرار والثقة في النفس. تقول سيما: ”عندما تعلمت حرفتي، كانت النساء في المنطقة يتوقفن عن ممارستها تباعا ليبحثن عن مصدر رزق آخر، ففي تلك الأيام لم يكن هناك زبائن يشترون منتجاتنا، وكثيرا ما بقيت بضائعنا عندنا لمدة طويلة، ولكنني أحببت الصناعة اليدوية، وقررت أن أتخصص فيها مهما كانت الظروف، حتى وإن لم أحظ بفرصة لتسويقها، بل وعملت على تعليمها لبنات هذا الجيل في منطقتي”. رحلة طويلة.. رحلة تحويل الجلد إلى أغراض منزلية وفنية ليست مهمة سهلة، لأن ذلك يتطلب جهودا مضنية من الحرفية، وهو ما تتحدث عنه سيما قائلة: ”أغلب المنتوجات المطلوبة هي المصنوعات الجلدية، الجلد هو المادة الأولى، وهو متوفر في المنطقة، بحكم الطابع الرعوي الذي تتميز به”. وتضيف: ”جلد المعزاة هو الأفضل في الصناعات الفنية، وثمنه ليس مرتفعا.. كما أن النباتات الأخرى المستخدمة متوفرة في براري المنطقة في أغلب أوقات السنة”. في البداية - تقول سيما - وقبل البدء في دبغ الجلود، أخرج مع مجموعة من جاراتي وقريباتي إلى مناطق محددة، تتوفر على نباتات خاصة مستخدمة في الأعمال اليدوية، وهناك نقضي بين يومين وأسبوع، وطبعا نأخذ معنا حاجياتنا الأساسية من طعام وفراش وعدة العمل وأواني الطبخ والأكل، وعندما نصل إلى المكان المطلوب ننصب خيمتنا ونوقد نارنا، في بعض الأحيان نأخذ معنا ذبائح عندما ننوي قضاء مدة أطول، وفي الغد ننطلق في رحلة البحث عن تلك النباتات، ونقطع منها العيدان المطلوبة، وهي على عدة أنواع، نكسرها من ”الرقبة” (وهو تعبير شائع) حتى لا تحطم الطبيعة، ثم نعالج تلك العيدان ونطرز بها الزرابي أو المصنوعات الجلدية، ويتم ذلك كله بطرق تقليدية ويدوية، ولا علاقة لنا بالآلات الحديثة التي انتشرت مؤخرا بين الحرفيين الشبان”. وتكمل سيما قصتها بالقول: ”بعد جمع تلك العيدان والنباتات نعود إلى منازلنا، ونبدأ العمل جماعيا في اغلب الأحيان، وربما فرديا أيضا. نجفف النباتات ثم نبدأ العملية التالية: في بعض الأحيان نشتري الجلود جاهزة، ولكن إذا لم يتوفر المال الكافي نعمد إلى ذبح بعض مواشينا، وفور سلخ الجلد نشتغل عليه وهو لايزال رطبا، لكي نصل بالعمل إلى أرقى درجات الإتقان والكمال”. بعد ذلك يأتي دور النباتات التي تم جمعها من البرية، تقول: ”هناك مزيج نباتي نضعه بكثافة على الجلد، اسمه ”الصلاّحة”، وباللغة التارقية تسمى ”هغار”، وهو مشكل من مجموعة من نباتات صحراوية، نفرك بها الجلد ونتركه عليه يومين أو ثلاثة، من أجل التخلص من كل الشعر والزغب بشكل تام”. وتضيف: ”هناك ما نسميه ‘الزغبة الميتة'، وتكون غالبا في جلد الحيوان الذي لا يأخذ كفايته من الماء، أو ذلك الذي لم يتم جز صوفه أو لم يغير جلده في تلك السنة، وهذه ”الزغبة تشكل عائقا أساسيا في تمليس الجلد وتخليصه من الشعر أو الزغب، هناك طرق خاصة لانتزاعها، وهذا أحد أسرار الحرفة، وإلا فإن الجلد يصبح رديئا'. وعن ”الصلاحة” تشرح: ”تمت تسميتها بهذا الاسم لأنها تقوم بإصلاح الجلد، إنها شبيهة بذلك المزيج النباتي الذي نضعه على جلد الرضيع، وهي أعشاب خاصة، ندقها، ونصنع منها مسحوقا، نحمّم بها الطفل الذي ولد قبل الأوان ليصبح جلده جيدا، مقاوما، أنتم في العاصمة تضعون هؤلاء الرضع الخدّج في حاضنات زجاجية، أما نحن فنساعده بهذه العشبة التي تسمى ”الصلاحة”.. كما نجعل النفساء تستحم بها لمساعدتها على عودة الجلد إلى حجمه الطبيعي، وتخليصها من مشاكل ما بعد الحمل، ونستعملها لأغراض طبية كثيرة. أما في مجال صناعة الجلود، فهناك طريقة نستعملها بها، لنجعلها ملساء وجيدة”. تقوم النساء التارڤيات من زميلات ”سيما” بغسل الجلد من الصلاحة بعد أيام من استعمالها عليه، عدة مرات، للتخلص من اللون الذي تتركه عليه، وهو لون أسود يفسد عملية الدبغ إذا لم يغسل جيدا، بعد ذلك يقمن بتجفيفه جيدا، ثم بتليينه بحركات يدوية خاصة، إذا جف فوق ما هو مطلوب يمكن استخدام التراب بطريقة خاصة لجعله يلين مجددا، وبعد الحصول على درجة اللين المطلوبة يضعن الأصبغة على حسب الرغبة، وبعدها يتحكمن في الأشكال والألوان، وتطعيمه بالعيدان والمواد الخاصة. تلك العيدان والمواد الخاصة نجمعها من الطبيعة، ثم يستخدمنها بطريقة حسابية بحتة على الجلد أو على المنسوج، حتى لا تكون هناك عقدة زائدة، أو تشوه في الشكل التناظري للعقد والغرزات. خيمتها صارت مطلوبة وطنيا تتخصص سيما، منذ أن كانت في السادسة من عمرها، في صناعة الخيام الصحراوية التي تتخذ من الجلود مادتها الأساسية.. وهي تقوم إلى جانب ذلك بتعليم بنات هذا الجيل سر مهنتها، وقد صارت خيامها مطلوبة وطنيا من طرف أصحاب المطاعم والمقاهي الذين يضيفون إلى محلاتهم لمسات صحراوية، وكذا من منظمي المعارض الوطنية للصناعات التقليدية. وقد تعدى الأمر كل ذلك إلى طلبها خارج الجزائر، من طرف المغتربين الذين يقبلون على الخيمة الصحراوية الجزائرية بكل مكوناتها، لأغراض تجارية وثقافية. تقول سيما ل”الفجر”: ”ليس هناك زوار وسياح كثيرون في البلدة التي أقطن بها، ”إن أمناس”، ولكن هناك تجار كثيرون يأتون إلى المنطقة لشراء منتجاتنا وإعادة تسويقها، وهناك المشتغلون في حقل السياحة ممن يقصدون إن أمناس لطلب الخيام، وإدراجها ضمن الخدمات التي يقدمونها للسياح الأجانب، المنبهرين دوما بصحرائنا وتقاليدنا القديمة”. على الرغم من أن التسويقات ذات المنافع الشخصية ليست كثيرة، إلا أن ”سيما” راضية جدا عن نشاطها، وراضية عن إبداعاتها التي تلقى إعجاب كل من يراها.. وتتأسف لأنها لا تستطيع تعريف المناطق الأخرى التي تزورها من حين لآخر بمنتوجات منطقتها وصناعاتها التقليدية. وعن ذلك تقول: ”في المعارض المحلية التي نقيمها في ولاية إيليزي، يكون المجال متسعا لعرض كل مفروشات الخيمة التقليدية، وأثاثها وأغراضها الأساسية والثانوية، لكن عندما نقيم معارضنا في مناطق أخرى، خاصة البعيدة منها، فإننا لن نتمكن من أن نأخذ معنا كل شيء، لذلك غالبا ما يكتفي حرفيونا بحمل الأغراض الصغيرة، لعرضها أو بيعها، أما الخيمة فلا حظ لها”. وتضيف: ”في رمضان السنة الماضية، طرنا إلى جيجل، حيث صالونها السنوي للجلد، إنني أتلقى دعوات مشاركة دائمة منه، أخذت ما استطعت من مصنوعاتي، وفزت بالمرتبة الأولى”. سيما لا تحب الحديث عن نفسها، وبعد إلحاح قالت: ”مهما أخذ شخص من حرفتي أوتعلمها فلن يبلغ شأني، بسبب الخبرة الطويلة التي تفوق نصف قرن من الممارسة، ولي فيها أسرار، هناك أناس كثيرون يعرفون هذه الحرفة ويمارسونها لكنهم قلائل هؤلاء الذين يعرفون أسرارها القديمة التي مارسها الأجداد، والتي تعلمتها منذ أن كان عمري 6 سنوات.. عمري الآن 57 سنة”. وتضيف: ”لدي ثقة كاملة بنفسي، وهذا مصدر نجاحي، إنني احتفظ بقدراتي كاملة كما ان المؤسسات المختلفة تطلب أعمالي.. ليست لي جمعية، ولكن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة المهتمة بالتراث والصناعات التقليدية تتعامل معي، ولديها ثقة في مصنوعاتي.. أراد بعضهم في منطقتي تعييني مسؤولة جهوية عن الصناعة التقليدية المحلية لكنني رفضت بدعوى إنني غير متعلمة، لكن السبب الأهم كان إنني لم أرغب في أن اربط نفسي بوظيفة وانفق عليها وقتي.. أردت ان أتفرغ كليا في هذا المجال الفني. وتختتم حديثها ل”الفجر” بالقول: ”منحتني جمعية ”اقرأ” لمحو الأمية، برئاسة السيدة باركي، عمرتين، اعترافا منها بجودة العمل الذي أقوم به، وتم اختياري ضمن وفد خاص يمثل الصحراء في العاصمة، وحاليا استعد لأشارك في عمل مشابه مع جمعية أطباء”.