حادث انزلاق التربة بوهران: مولوجي تسدي تعليمات للمصالح المحلية لقطاعها لمرافقة التكفل بالمتضررين    الجمباز الفني/كأس العالم (مرحلة القاهرة): تتويج الجزائرية كايليا نمور بذهبية اختصاصي جهاز مختلف الارتفاعات    رئيس الجمهورية يعزي عائلة ضحايا حادث انزلاق للتربة بوهران    القمة الإفريقية لتكنولوجيات الإعلام والاتصال : تكريم أفضل المنصات الرقمية في الجزائر لعام 2025    مؤسسات صغيرة ومتوسطة : "المالية الجزائرية للمساهمة" تعتزم بيع مساهماتها في البورصة هذه السنة    اسبانيا: تنظيم وقفة تضامنية مع المعتقلين السياسيين الصحراويين بالسجون المغربية بجزر الكناري    بوغالي يؤكد أهمية ترسيخ الوعي بحقوق الشعوب في أذهان الناشئة    الطبعة الرابعة للصالون الدولي "عنابة سياحة" من 8 إلى 10 مايو المقبل    مزيان يدعو وسائل الاعلام العربية للعمل على تحقيق المزيد من التقارب العربي    الاتحادية الجزائرية لرياضة ذوي الاحتياجات الخاصة و اتحادية تنس الطاولة تبرمان اتفاقية تعاون    حادث انزلاق التربة بوهران: تنقل الوفد الوزاري جاء بأمر من رئيس الجمهورية لإيجاد الحلول للمتضررين    جيجل: وصول باخرة محملة بأزيد من 10 آلاف رأس غنم قادمة من رومانيا بميناء جن جن    كرة القدم/البطولة الافريقية للمحليين: مجيد بوقرة يستدعي 26 لاعبا للمواجهة المزدوجة أمام غامبيا    انطلاق أشغال الاجتماعات الدورية للمنسقين الإذاعيين والتلفزيونيين ومهندسي الاتصال العرب بالجزائر العاصمة    وهران: هلاك 4 أشخاص وإصابة 13 آخرين بجروح في حادث انزلاق تربة بحي الصنوبر    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 52243 شهيدا و 117639 جريحا    الجزائر/زيمبابوي: فرص عديدة للتعاون بين البلدين    الجزائر العاصمة:عرض الفيلم الوثائقي " زينات, الجزائر والسعادة" للمخرج محمد لطرش    فلسطين : عشرات المستوطنين الصهاينة يقتحمون باحات المسجد الأقصى المبارك    أمطار رعدية ورياح قوية في 15 ولاية    توقف صاحب الفيديو المتعلق ب "نفوق 3 أضاحٍ مستوردة"    الفلاح ملزم بالإنخراط في مسعى تحقيق "الإكتفاء الذاتي"    وزارة التربية تمكنت من "رقمنة ما يزيد عن 60 وثيقة رسمية    تطرقنا إلى السيناريوهات العملية لإنتاج النظائر المشعة محليا    إطلاق جائزة أحسن بحث في القانون الانتخابي الجزائري    بدء عملية الحجز الالكتروني بفنادق مكة المكرمة    الجالية سد منيع في وجه المؤامرات التي تحاك ضد الجزائر    الرئيس تونسي قيس سعيد يزور جناح الجزائر    عطاف ينوّه بالإرث الإنساني الذي تركه البابا فرنسيس    لا فائز في التنافس السلبي ضمن الحرب التجارية الراهنة    سكان قطاع غزّة يواجهون مجاعة فعلية    ابنة الأسير عبد الله البرغوتي تكشف تفاصيل مروعة    إطلاق جائزة لأحسن بحث في القانون الانتخابي    3 بواخر محملة بالخرفان المستوردة    ملتقى دولي حول مجازر8 ماي 1945    10 ملايير لتهيئة الطريق الرئيسي بديدوش مراد بولاية قسنطينة    "الشفافية لتحقيق الأمن الغذائي" في ملتقى جهوي بقسنطينة    الجزائر أمام فرصة صناعة قصة نجاح طاقوية    دينو توبمولر يدافع عن شايبي    لا حديث للاعبي "السياسي" إلا الفوز    مولودية وهران تفوز ومأمورية اتحاد بسكرة تتعقد    التنسيق لمكافحة التقليد والممارسات غير الشرعية    انطلاق الحجز الإلكتروني لغرف فنادق مكة المكرمة    جاهزية تامة لتنظيم موسم حج 2025    عدسة توّثق جمال تراث جانت بشقيه المادي وغير المادي    تلمسان في الموعد    عطاف يوقع على سجل التعازي إثر وفاة البابا    صيدال يوقع مذكرة تفاهم مع مجموعة شنقيط فارما    أفضل لاعب بعد «المنقذ»..    "زمالة الأمير عبد القادر"...موقع تاريخي يبرز حنكة مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة    حج 2025 : إطلاق برنامج تكويني لفائدة أعضاء الأفواج التنظيمية للبعثة الجزائرية    وزير الاتصال يشرف على افتتاح اللقاء الجهوي للصحفيين بورقلة    الجزائر حاضرة في موعد القاهرة    هذه مقاصد سورة النازعات ..    هذه وصايا النبي الكريم للمرأة المسلمة..    ما هو العذاب الهون؟    كفارة الغيبة    بالصبر يُزهر النصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النصر في ضيافة سلوى باي حفيدة آخر بايات تونس
نشر في النصر يوم 31 - 03 - 2014

هكذا انقلب بورقيبة على صديقه الحميم وأنهى 250 سنة من حكم البايات
دعتنا إلى وجبة غذاء في مطعمها "الوليمة" وسط تونس العاصمة فاعتذرنا واكتفينا بفنجان قهوة استعنا به على لملمة شتات الحوار، سلوى باي التي فتحت قلبها لأول مرة لوسيلة إعلام جزائرية لم تش تقاسيم وجهها أن عمرها تجاوز السبعين لولا أنها صرحت بذلك، كما أن كبرياء السلطان وأبهة الملك الضائع لما يزل يغمر شخصيتها، فبين الفينة والأخرى كانت تكتفي بالإشارة لتأمر الخادمات للرد على الهاتف أو لجلب شيء ما مما تطلبه أثناء الحوار، كما أن بعض صورها المنشورة بالأنترنت بمسكنها الخاص تظهر ديكوارا فاخرا للأرائك يعكس رغبة نفسية جامحة للحفاظ على الحد الأدنى للقوة وإن لم يكن بالفعل لأبهة القصور الملكية وفخامتها ويكشف عن توق كبير لامرأة تحرص على أن تظل ملكة ولو بدون تاج ، ولما لا فلو أن التاريخ سار بشكل طبيعي ولم ينحرف عن مساره المرسوم له منذ قرنين ونصف القرن لكانت اليوم ملكة تجلس على عرش تونس كما تجلس نظيراتها بالغرب لتؤسس أول نموذج عربي إسلامي لمملكة دستورية . كيف حدث هذا التحول وما تفاصيله ومن أشخاصه وشخوصه ؟ ذلك ما وافقت حفيدة آخر البايات على البوح به ، حين عادت بها الذاكرة إلى قصة النكبة وتراجيديا نهاية الباي محمد الأمين باي ، في حله و ترحاله من القصر إلى السجن إلى القبر، سلوى في كبرياء الملك لا تتطلع إلى المستقبل بقدر ما تريد العودة إلى الماضي، إنصافا لعائلة الباي وردا لاعتبارها وتصحيحا لما سمته تشويها طالها .
حاورها بتونس : عبد الرحمان خلفة
جويلية 1957 : صيف الغضب
كان عمري 16 سنة ! .. بهذا أجابتنا سلوى باي حفيدة آخر بايات تونس وهي تروي تراجيديا النهاية الدراماتيكية لعائلة مالكة حكمت تونس 250 سنة ب 19 بايا ، في سن 16 تكون سلوى قد بلغت، واقتربت من الرشد ؛ وهذا يعني أنها تعي لما يدور حولها وتتفاعل معه، صحيح أنها كانت بحكم التربية المشرقية بمنأى عن صالونات السياسة وألاعيبها ، فهي منذ الصغر مشروع زوجة لمصاهرة داخل العائلة أو داخل دائرة ضيقة لمن يتوسلون بها إلى شرف النسب السلطاني بما يرفعهم وجاهة ويقربهم حظوة ، لكن الأقدار سارت بها إلى نهايات أخرى لم تكن بالضرورة غاية حلمها ومطمح شبابها . فقد انقضى فصل الربيع من سنة 1957 م ولم يحمل مفاجآت غير سارة لعائلة جدها الأكبر حسين باي الذي أبى إلا أن يمزج دمها بالدم التونسي وهو القادم قبل 252 سنة (سنة 1705) ليتزوج بامرأة تونسية كافية ، قد لا يكون لهذا الزواج أي معنى في مجتمع مشرقي يعد فيها الأزواج نسائهم عدا، لكن صيرورة الأحداث بعدئذ جعلت له معنى آخر بعدما أضحى نسله تونسي الدم والأرض والسلطان ، نسل أبى في أحلك الظروف والليالي أن يتملص من التونسة أو يدير الظهر لها . لكن صيف 1957 م وفي الثلث الأخير
( 25) من شهر جويلية حمل لهيبا لا يرد ولا يصد ، حين استطاع أن يحرق آخر أوراق العائلة المالكة، ويرغمها على التنازل عن العرش والرحيل عشية إعلان الجمهورية التونسية الأولى، ويقذف بها خارج حركة التاريخ التونسي المعاصر ومساره المطرد باستمرار بانقلاب أبيض لما تكتب تفاصيلها بعد .نهاية وإن تشابهت في بعض منعطفاتها مع نهاية بورقيبة ذاته صاحب الانقلاب بعد 30 سنة من ذلك التاريخ، لكن سلوى ترفض التشبيه وتقول شتان بين بورقيبة الذي وضع في قصر مجهز بكل المستلزمات الحياتية والطبية وبين جدها محمد الأمين الذي وضع في سجن ومات تحت الإقامة الجبرية .
بورقيبة حذر الباي وتوعده إن أعلن تونس دولة جمهورية
قبل أسبوعين من إعلان الجمهورية طوقوا القصر وبدلوا الجيش، الذي أصبح جيشا تونسا بعد أن كان جيش الباي، هكذا بدأت سلوى تحكي قصة بداية النهاية، كان الوقع شديدا والبلية عظيمة ؛ ليس لأن الباي يرفض إقامة نظام جمهوري للدولة التونسية، لأنه كان المبادربهذا المشروع، يوم عزم قبل أشهر على دعوة الساسة ورجال الإعلام ليعلن عن تنازل دستوري عن نظام البايات ليحل محله النظام الجمهوري تكون فيه للباي سلطة أدبية شكلية على التونسيين على غرار سلطات الممالك الأوربية الحديثة من بريطانيا إلى بلجيكا ، لولا أنه تلقى وعيدا من غريمه بورقيبة الذي هدده بما لا يحمد عقباه إن أعلن عن هذا النظام، فقد كان بورقيبة كما تقول يريد أن يكون له شرف هذا الإعلان وبالشكل الذي يريده لدولة تونس الحديثة، ليس هذا مثار العجب، ولكن العجب أن الرجل الذي وقف وراء هذا الانقلاب التاريخي اسمه بورقيبة وليس غيره ، فهذا السياسي المناور كان الصديق الحميم للباي وعائلته، والمتودد الكبير إليه، ولم يدر في خلد أحد أن ينقلب عليه، فقد كانت سلوى تناديه بكنية عمي بورقيبة، وكثيرا ما ردد هذا الأخير أمام الباي قوله: يا وجه النور لولاك لما أخذت تونس استقلالها ! لم ينس بورقيبة أن الباي هو من وقع على استقلال تونس قبل عام من هذا، ولكن للسياسة والسياسيين منطقهم الخاص الذي لا يتناغم بالضرورة مع منطق الأشياء والأفكار . ليس مهما الآن المنطق وقد حدث ما حدث . فبعد إعلان الجمهورية جاء الأمر بإخلاء القصر ممن فيه ، كان على محمد الأمين باي آخر بايات تونس أن يشد الرحال إلى وجهة أخرى في انتظاره ويستعد لنكبة ستطال عائلته المتكونة من ثلاثة ذكور و09 بنات وصهره بن سالم وولي العهد سيدي حسين باي. لم يشرفه من انقلبوا عليه بأي مفاوضات أو اتفاقيات للتنازل عن العرش، فالأمر دبر بليل دون مشورته . كما أن الباي وهو يغادر القصر إلى سجن النساء بمنوبة، وهو عبارة عن قصر قديم، لم يطلب دعم الجيش حقنا للدماء وسدا لباب الدخول في الفتنة، ولم يرد لهذه المحطة أن تخلد، فقد رفض تصويره لحظة الخروج والعبور الأخير.
ورغم أن أبا عبد الله الصغير الذي أرغم على التنازل عن عرش غرناطة قبل 04 قرون و65 سنة كان أفضل حالا عندما غادر بمفاوضات تلاها التوقيع على معاهدة استسلام حفظ بها ماء الوجه، إلا أن محمد الأمين باي لم ينظر النظرة الأخيرة لقصره وهو يغادره ولم يبك ملكه كما بكى أبو عبد الله الصغير، لا هو ولا ولي عهده، ولم تهمس أي امرأة في أذنيهما قائلة ابكيا مثل النساء ملكا لم تحافظا عليه مثل الرجال ، كما قالت عائشة الحرة لابنها ذات عبور من غرناطة إلى المغرب على قمة جبل ما زال إلى اليوم يعرف بجبل بكاء العربي ! لم يسمح للباي بحمل ما ثقل أو خف من مال ومتاع، فقد أرغم على الخروج بجبة قمراية – جبة صيف- ظل بها إلى أن أقبل الشتاء ببرده القارس ، وبالكاد وعن طريق وساطات أعيد له لباسه ليدفع به قر الشتاء ، ولم يحمل معه من المال إلا سرة نقود بها بضع مئات من الدنانير، كانت مورد إنفاقه الوحيد الذي سرعان ما نفذ ، ليظل ثلاثة أيام دون أكل ، كان المعتمد الذي يحرسه وهو في سجنه بقصر يقطر سقفه ماء يقول له : ذق ما ذاقت الأمة .
أرغمت على مغادرة القصر حافية القدمين
هكذا تروي سلوى مأساة جدها، قبل أن تعود بذاكرتها إلى الوراء وتتحدث عن نفسها قليلا ، ما تزال ذاكرة جسدها الذي تجاوز 70 سنة تستحضر فاجعة العبور، ما تزال تذكر كيف أرغمت على مغادرة القصر حافية القدمين ! فقد خرجت مع العابرين – تقول - بحذاء ملكي يليق بأحفاد البايات، لكن المحافظ الذي كان يراقب العبور بادرها بالقول: هذا حذاء جديد انزعيه . فنزعته وغادرت بدون حذاء ! ، بيد أن أحد الجنود رق قلبه لحالها فأمدها بشلاكة تدفع عن قدميها الناعمتين صدمات الحصى وأوساخ التراب . ما تزال سلوى تذكر كيف انقضت بعض النسوة على حلي ومجوهرات القصر لحظة خروج البايات ، هي تعرف من هن ولكنها تحتفظ بالأسماء ربما ليوم ما قد تبوح بذلك للتاريخ . بعد أسبوعين غادرت النساء ، وكانت الوجهة حيا شعبيا ناحية باردو اسمه حي بوشوشة، اكترت العائلة مسكنا هناك غير مؤثث، ولم تجد أمها سوى الكرطون فراشا ، لكن حِلم الجيران دفع بهم لرحمة أعزاء قوم ذلوا ، فساهموا معهم في تأثيث البيت، بعد ثماني أشهر لم تجد العائلة ما تدفع به ثمن الكراء فأرغمت على مغادرة المسكن بأمر من العدل المنفذ ( المحضر القضائي) ، وكان الشارع ملاذها الوحيد في هذه اللحظات العصيبة، فمن القصر إلى الشارع ومن فراش وثير إلى افتراش الأرض، ما تزال تذكر بكاء شقيقها ، قبل أن تمد لهم الممثلة دليلة رشدي يد العون قائلة لأمها حسيبة : أنا بنت الشوارع بيتي مفتوح تفضلوا في كل وقت، فاستقرت العائلة مؤقتا عندها أسبوعين، قبل أن تنتقل لتسكن مع عمتها بحي بلفيدار وسط تونس لستة أشهر كان مع الأم أربعة أبناء ، في هذه الأثناء طرحت مشكلة مورد الرزق فاتجهت الأم حسيبة إلى زوجة الزعيم بورقيبة وسيلة طالبة المساعدة، فكان رد هذه الأخيرة بقولها : أخرجي ابنتك لتشتغل ! هكذا قررت حفيدة الباي سلوى بنت الأكابر ترك مقاعد الدراسة والخروج للشغل ضمانا لقوت العائلة ، كانت سلوى تدرس بالثانوية ، ربما كان حلمها أن تكون طبيبة أو مهندسة أو عالمة تعيش حياة الرفاه ، لكن الأقدار انتهت بها إلى الكد وراء لقمة عيش عائلتها جنبا إلى جنب مع عامة الشعب، هي الآن صاحبة مطعم الوليمة بتونس العاصمة ، وظيفة لا تليق كما تقول بحفيدة باي بينما نجح أشقاؤها علميا في تجاوز مصاعب تلك الفترة ، فبين طبيب ومهندس تتوزع مهامهم اليوم ، توفر مورد للرزق من عرق سلوى البنت الكبيرة شجع العائلة على كراء مسكن جديد استقروا فيه بحي
بوشوشة .
عادت زوجة الباي تنزف دما من الداخلية وماتت بين ذراعيه دون كلام
مضى عامان على صيف الغضب قبل أن يطلق سراح أبيها من حبس الجديد ، الذي بقي فيه وحيدا هناك ، بينما بقي جدها الباي عاما ونصف العام بمنوبة، ثم حول إلى سكرة، وفي هذه الأثناء استلم ديغول الحكم بفرنسا، ونظرا للصداقة المتينة التي كانت تربطهما فقد أرسل هذا الأخير للباي من يدعوه ليكون ضيف فرنسا ، لكن الباي رد على رسول ديغول بالقول : بلغه أن لا باي خرج من بلده أو سلم بلده ، كما دافع عنه سلطان المغرب مما أغضب بورقيبة. في سنوات العجاف توفيت زوجة عمها ، فذهبت البنت فاطمة ذات 28 سنة إلى بورقيبة تلتمس منه أن يخرج أحد الأشقاء ليتقبل تعازي الناس لكن بورقيبة رفض كما توفيت زوجة الباي جنينة ، ولوفاتها قصة مأساوية ، فقد جيء بشاحنة شرطة كما تقول سلوى وأخذت جنينة لوزارة الداخلية ، وأثناء اعتقالها طلب الباي أن يؤخذ هو بدلها، لكنهم رفضوا طلبه، وبعد ثلاثة أيام من الاعتقال جيء بها مجروحة تنزف دما من فمها ومؤخرتها، وماتت بين ذراعي الباي دون أن تنطق بكلمة . بعد سكرة اكتروا للباي مسكنا بحي لافاياط بتونس العاصمة ، كان مسكنا للبوابين كما تقول ، وكان راتبه 90 دينارا وثمن الكراء 45 دينارا . وفي هذا المسكن مات آخر البايات سنة 1962 بعد خمس سنوات من التشريد والمعاناة وهو يطفئ شمعة عقده الثامن ، هذا الباي الذي وقع استقلال تونس في 20 مارس 1956 ، وأنشأ المجلس التأسيسي وكان على أهبة إعلان النظام الجمهوري ، كان بعض السياسيين والنقابيين ومنهم فرحات حشاد يأتونه خفية ليأخذوا منه اقتراحات بشأن الدستور . لم تشفع له انجازاته هذه وإنجازات أسلافه فتقبل المعاناة بصبر وجلد ولم يشتك أبدا تقول حفيدته مفتخرة بشخصية جدها هذه . ويوم وفاته تقول اتصلنا بوزارة الداخلية لإعلامهم بذلك ففوجئنا بهم يقولون يجب أن يدفن اليوم وبسرعة وجاءت سيارة شرطة لهذا الغرض وأخذ ودفن على عجل . وبدفن الباي دفنت دولة البايات وانتهى حلم العودة واستعادة الملك الضائع ، فالدول كالبشر لها أعمار ومراحل ولابد لكل بداية من نهاية. ومنذ ذلك الحين شرع في وضع تاريخ جديد لتونس يقوم على محاولة محو معالم عائلة الباي التاريخية ليس فقط بالمدرسة والشوارع ولكن حتى على مستوى دفاتر الحالة المدنية ، فلقب سلوى لم يعد بعد اليوم باي ، بل أضحى حسيني نسبة إلى الجد الأول للعائلة مجردا عن صفته الملكية .
طلقنا السياسة ولا نريد إلا رد الاعتبار لتاريخ العائلة و إنصافها
في جوابها عن سؤال النصر عن آمالها بعد أن روت بحرقة تفاصيل الآلام ، قالت سلوى إننا تونسيون ونعتز بوطنيتنا التونسية ولا علاقة لنا بتركيا - التي كانت عائلة الباي تؤدي لها بيعة الخلافة قبل إلغائها سنة 1924م - ولا نتقن حتى لغتها، وتبعا لذلك نريد أن نكون تونسيين وأن ترد لنا حقوقنا ، ليست حقوقا سياسية كما قد يتبارد إلى الفهم ؛ لأن العائلة طلقت السياسة ولم تعد لها بها رغبة ، ولكن حقوقا تاريخية بإعادة الاعتبار للعائلة وتاريخها المشوه الذي حاولوا وصمه بالخيانة ، فالعائلة ساهمت في نهضة تونس وتاريخها ، ولئن أرغمت على قبول الحماية الفرنسية عام 1881 تقبلا لأخف الأضرار والجارة الجزائر مستعمرة بالكامل ، فإن ذات العائلة هي التي وقعت على استقلال تونس ، وبين هذا وذاك تعتز العائلة بإصلاحات حكامها وعلى رأسهم خير الدين التونسي صاحب الإصلاحات التعليمية والسياسية، فمن مدرسة الصادقية التي أنشأها تخرج كبار ساسة وأعيان ومثقفو تونس ، والبايات بتونس هم الذين أصدروا أول دستور حديث مكتوب في تاريخ الدول المسلمة ، بل في التاريخ العالمي الحديث، كعهد أمان، وأول من بدأ تحرير المرأة التونسية هو جدها آخر البايات من خلال إصداره لقانون منع تعدد الزوجات سنة 1956 م . وبعد تصحيح تاريخ 250 سنة ، تريد سلوى أن تنبه المعنيين أن قصر قرطاج بيت الحكمة ملك خالص لأب الباي اشتراه من ماله الخاص وليس ملكا للحكومة .
آثار البايات نهبت ولحظة خروجنا من القصر انقضت ثلاث نسوة على الحلي والمجوهرات
عائلة الباي المكونة اليوم من 250 إلى 300 فرد تعيش حياة عادية وسط الشعب بعضها بتونس وبعضها بسويسرا، بل إن بعضهم تقول سلوى يعاني الفقر ، وليس غريبا أن تعيش العائلة بين عامة الشعب وتصاهر وتختلط بهم فزوجة آخر البايات بنت الشعب ، ولكن نبحث عن رد الاعتبار قبل كل شيء ، والسعي لجمع تراث الباي الذي تقول عنه قد نهب ولم يبق منه شيء سواء النياشين أو الحلي أو الألبسة أو الأثاث فكلها فقدت ، وبعض تراثه بيع بسويسرا، ولا شيء بحوزة العائلة لتكوين متحف يليق بتاريخ البايات .سلوى تؤكد على انتمائها الإسلامي بنظرة عصرية فلا ترى مانعا من كونها مواظبة على العبادة والصلاة وتفتحها على قضايا العصر لباسا وفنا وسياحة ورياضة ، وهذا منذ عهد الباي . وفي خضم هذا تتمنى الرفاه للشعب التونسي والأمن والرقي . سلوى الناقمة على بورقيبة توقفت في الحكم على زين العابدين بن علي ، وقالت: إحقاقا للتاريخ لم يعطنا بن علي ولم يأخذ منا شيئا . لفت نظري وأنا أحاورها صور للبايات بالنياشين معلقة على جدار المطعم سألتها عن ذلك فقالت : هذه صور 19 بايا حكموا تونس ولم نكن نستطيع في عهد بورقيبة تعليقها بخلاف الحال الآن ولكن للأسف كل هؤلاء تنوسوا وشوه تاريخهم باستثناء منصف باي الذي لم يستطيعوا محو اسمه وهو الذي نفته فرنسا للصحراء الجزائرية ، ولكنهم اكتفوا بإطلاق اسمه على سوق فوضوي معزول بالعاصمة ، وبنظرة مستقبلية يطبعها التفاؤل تتمنى سلوى رد الاعتبار للعائلة ولا أدل على ذلك من أنها لما مرت مند أشهر في حصة شاهد وشواهد التلفزيونية تلقت ألف اتصال هاتفي لمواطنين بعضهم يبكي وبعضهم يتساءل وآخرون يبدون تعجبهم من تغييب وتشويه كل هذا التاريخ .
هذا ما أعرفه عن الجزائريين والأيام أثبتت صدق ظني فيهم
لم يغب الحديث عن الجزائر أثناء الحوار وعلاقة بايات تونس ببايات ودايات الجزائر ، لكني بادرتها قبل أن أرتشف آخر رشفات قهوة الباية الحفيدة مع زميلي الأستاذ كمال بن يخلف الذي أصر على مرافقتي ، بسؤال إن سبقت لها زيارة الجزائر ، فقالت : للأسف لم أتشرف بذلك وأملي أن أزورها ، ولكني أحمل نظرة إكبار وإعجاب بالجزائريين وتاريخهم ، فقد قيل إنهم أوفياء وأبطال ورأس مالهم شرف الكلمة وقد أثبتت الأيام صدق ذلك .
غادرنا المطعم تحت وقع سؤال عريض فحواه هل يمكن أن يغلب التطبع الطبع ويعاكس نظرية ابن خلدون الذي يقف تمثاله شامخا بشارع بورقيبة على بعد مئات الأمتار من مطعم الباية ؟ ، أم أن الطبع يغلب مهما طال الزمن فأعزاء القوم وإن طأطأوا رؤوسهم مؤقتا للعواصف إلا أن ذلك محض محنة قد تتلوها منحة وليل قصير يعقبه فجر جديد ، قد لا تشرق شمسه بالضرورة من قصور قرطاج التي لم يعد إليها كل من أخرج منها من عهد حنبعل إلى زين العابدين بن علي ، ولكنها في النهاية تنصف عابريها بإعادة الاعتبار لهم عبر صفحات التاريخ وإن غدا لناظره قريب بتونس التي تتجه لترسيخ العدالة الانتقالية وتحقيق المصالحة الوطنية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.