لم يعد هناك حنين سياسي لما يسمى أحداث 5 أكتوبر ,1988 الذي ستطل علينا ذكراها غدا؟ ما جرى كان إبعادا للأحادية الحزبية لأنه مباشرة أعلن عن إصلاحات عميقة في النصوص الأساسية للبلاد منها الدستور، بإدخال ما يعرف بالتعددية التي قننت رسميا في وسط من الخلافات الحادة آنذاك بين تيار الحساسيات والتشكيلات التي لها طابع ديني، هل يعترف بها ويمنح لها الاعتماد أم لا؟ ما حدث حدث،ولا مجال اليوم للبكاء على الأطلال، لأن المسؤولية جماعية سواء بالنسبة للسلطات العمومية آنذاك أو للأحزاب التي تم الإعتراف بها، التي دخلت المعترك السياسي بدون برامج، همها كان الإغتراف من الخزينة العمومية وتحويل فضاء الحوار إلى هرج ومرج والجري وراء المقاعد البرلمانية والمجالس الشعبية والولائية وغيرها. فهل نجحت التجربة السياسية بإبعاد الحزب الواحد وإحلال محله التعددية السياسية؟ من الصعوبة إصدار أي حكم لأن المسار كان طويلا ومعقّدا ومتداخلا لكل مرحلة خصوصياتها!؟ والأحزاب المتولدة عن هذه التجربة أرادت بين عشية وضحاها تغيير كل شيء دون مراعاة حد أدنى من الأخلاقيات في خطابها، مستعملة تارة لغة التهديد وتارة أخرى لغة الوعيد، من خلال الخروج في مسيرات من ساحة ''أول ماي'' إلى ''ساحة الشهداء'' رافعة شعارات تثمن الفعل الديمقراطي من جهة وتدعو إلى مطالب تعجيزية تارة أخرى... هذا الحماس السياسي الفياض كان شكلا من أشكال بلورة فكر سياسي معين، على ضوء سنوات طوال من الأحادية الحزبية، سيّرت البلاد وفق منطق نتاج تراكمات تاريخية، إلا أن هذه الأحزاب لم تكن بديلا لحزب جبهة التحرير الوطني في الشق المتعلق بالفعل الصادر عن الخبرة في التعامل مع الملفات الكبرى. وجلّ هذه الأحزاب دخلت المعترك الإنتخابي خاصة على مستوى المجالس المنتخبة إلا أنها ارتكبت أخطاء لا تغتفر كونها راحت تواجه السلطات العمومية بدلا من التعامل معها وفق مبدأ المصالح المشتركة للبلد. من هنا اختلطت المفاهيم والمبادئ في أبجديات التسيير عبر المجالس البلدية والولائية، وهذا عندما تحولت مهمة الخدمة العمومية إلى معارضة، ولم يستطع رؤساء المجالس هذه من نزع القبعة الحزبية، بل سيّروا المرفأ العمومي بعقلية ''ضيقة جدا'' لا تتعدى دائرة ''الغنيمة السياسية'' و''المكسب الإنتخابي'' من سجل الإنحراف الكبير، لأنه مازلنا حتى الآن نعاني من هذه الذهنية الخطيرة المعشعشة في هذا الوسط. هذه الأخطاء المرتكبة حتى الآن أدت إلى ذلك الإنسداد على مستوى هذه المجالس التي عطلت مصالح المواطنين، وجمّدت التنمية المحلية وأخرت انطلاق المشاريع على أكثر من صعيد، ولا نستغرب اليوم من عدم صرف نفقات الميزانية في التسيير والتجهيز بسبب هذه النظرة المحدودة. هذه العيّنة فعلية وعملية عندما أرادت التشكيلات خوض غمار العمل الميداني فوقعت في مطب غياب العنصر الكفء والقادر على تقديم تلك الإضافة المطلوبة منها في مجال ما يعرف بالمناجمنت الإداري. أما على مستوى قيادات الأحزاب، فإن الأمل الذي كان معقود على اختصار ذلك الكم الهائل من عدد التشكيلات من 60 حزبا إلى حوالي 4 أو ثلاثة أو حزبين لم يحصل، لأن المشرّع في القوانين المتعلقة بالحضور على الساحة الوطنية لم يشر إلى هذه المسألة صراحة وإنما اكتفى بتحديد النسب المتحصل عليها خلال المواعيد الإنتخابية ل''تقرير مصير'' أي تشكيلة، وهذه النقطة كذلك هناك جدل حولها الآن، هل تقصى تلك الأحزاب أم يعاد لها الإعتبار من خلال مواصلة مسار نشاطها !؟.. لأن الإشكال القائم اليوم، هو أن الأحزاب تعاني من أزمات خطيرة منها انعدام الانخراطات كلية والنزيف المسجل في هجرة المناضلين لأحزابهم، وانتقالهم من موقع إلى آخر دون أي إجراء انضباطي من قبل السلطات العمومية أو الحزب الذي فوضه لعهدة معينة أو قبل انخراطه كعضو في تشكيلته. هذه المسائل قد تبدو بسيطة، لكن من خلال القراءة الأولية لها بعد مرحلة (5 أكتوبر 1988) تبيّن بأن هناك غيابا ملحوظا في التكوين السياسي للمناضلين وتبني تلك العقيدة الحزبية، أي الفكر الإيديولوجي المحرّك للعمل السياسي الذي هو عبارة عن قناعات عميقة.. وفي هذا الشأن، بأن الحزب الوحيد الذي ظل وفيا لمبادئه منذ انطلاقته هو حزب العمال الذي أظهر قدرة فائقة في متابعة الملفات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى، داعيا في كل مرة إلى تعديلها وتصحيحها بما يتماشى مع والتحولات والإصلاحات الجارية على أكثر من صعيد، في حين أن الأحزاب الفاعلة الأخرى أرادت التكيّف ومسايرة الخيارات الكبرى للبلاد دون إبداء أي رأي معدل ومصحح لها. اليوم، تغير المعطيات تغيرا جذريا، وهذا من خلال طرح خيارات صعبة وهي أما أن نتبع هذا النهج ونعني العودة إلى تجربة الانفتاح الديمقراطي والتي أظهرت محدوديتها في بناء مؤسسات قوية، قادرة على حلّ مشاكل المواطنين والاستجابة لتطلعاتهم، أم أن نتبع مسعى التنمية الوطنية الشاملة ذات الفائدة على المجتمع !؟. الجزائر اختارت التنمية الوطنية الشاملة وفي نفس الوقت لم تغلق الفضاء الإعلامي المرئي أو المسموع أو المقروء على أحد، ويخطئ من يعتقد ذلك، خاصة الذين يتبجحون اليوم بهذا الإدعاء الباطل... ويكفي ما يقولونه حاليا في مواقعهم عبر الأنترنت من كلام يتحملون مسؤوليته. الأولوية اليوم، لبناء مؤسسات قوية بإمكانها المساهمة في إنجاز آمال المواطن... هذه الفضاءات ماهي إلا الإنشغالات اليومية الملحة من عمل وصحة وتعليم ونقل...السياسة في نهاية المطاف مسكها وخاتمتها هذا القطاع ونقصد التسيير الراشد. ------------------------------------------------------------------------