وزارة الداخلية تنجز دراسة ميدانية حول ترقية الديمقراطية التشاركية على المستوى المحلي    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 64718 شهيد و 163859 مصاب    تنظيم الطبعة ال27 من الأسبوع الوطني للقرآن الكريم ببومرداس ابتداء من الاثنين المقبل    اختتام معرض التجارة البينية الإفريقية: إشادة بالنجاح الباهر وترسيخ دور الجزائر في تحقيق النهضة الاقتصادية القارية    سوناطراك: حشيشي يبحث بميلانو تعزيز الشراكات مع كبريات شركات الطاقة العالمية    باتنة: افتتاح المهرجان الثقافي الدولي للسينما إمدغاسن في طبعته الخامسة    رسالة أبو تريكة إلى أمّة محمّد    هالاند يسجّل خماسية    شيري الجزائر تراهن على التصدير    هذا جديد جامعة ورقلة    بللو يزور أوقروت    ثعالبي يلتقي ماتسوزو    فرنسا: اعتقال نحو 500 شخص في احتجاجات "لنغلق كل شيء"    وفد برلماني يشارك في ذكرى تأسيس كوريا الشعبية الديمقراطية    الأمين العام الجديد للمحكمة الدستورية يؤدي اليمين القانونية    الجزائر تدعو إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن الأممي    جريمة الاحتلال الصهيوني في الدوحة تؤكد أنه عصابات إرهابية    ندوة دولية بجنيف تفضح الانتهاكات المغربية    تعاون جزائري-صيني في البحوث الزراعية    "الحلاقة الشعبية".. خبيرة نفسانية بدون شهادة    استلام دار الصناعة التقليدية بقسنطينة قريبا    حملة لتنظيف المؤسّسات التربوية السبت المقبل    "صنع في الجزائر" يبهر الأفارقة جودة وسعرا    ممتنّون للرئيس تبون.. طبعة الجزائر فاقت التوقّعات    معرض التجارة البينية الإفريقية 2025: الجزائر تفتك حصة الأسد من الصفقات الموقعة    القضاء على إرهابيين اثنين وآخر يسلّم نفسه بأدرار    عزوز عقيل يواصل إشعال الشموع    تكريم مرتقب للفنّانة الرّاحلة حسنة البشارية    معرض التجارة البينية الافريقية: تتويج جناح زامبيا بلقب أفضل جناح خلال التظاهرة    الصين ترغب في تعزيز التعاون مع الجزائر في مجال تسيير الكوارث الطبيعية والمخاطر الكبرى    "أغانٍ خالدة" لشويتن ضمن الأنطولوجيا الإفريقية    كرة اليد (البطولة الأفريقية لأقل من 17 سنة إناث) : الكشف عن البرنامج الكامل للمباريات    تعاون جزائري نيجيري    وفد حماس في قطر ينجو من الاستهداف الصهيوني    الخبير ميريفيروي يؤكّد ضرورة توحيد البيانات    رئاسة الجزائر لمجلس السلم و الأمن الإفريقي: التزام ثابت و مقاربات فعالة لخدمة قضايا القارة    تهديدات بالقتل بسبب الكسكس!    شرطة العفرون تطيح ب3 متورطين    عرض شرفي لمسرحية جديدة حول غزّة    بوغالي يدعو من القاهرة إلى جعل الاتحاد البرلماني العربي منصة لتعزيز التكامل بين الدول الأعضاء    سجود الشُكْر في السيرة النبوية الشريفة    فتاوى : زكاة المال المحجوز لدى البنك    عثمان بن عفان .. ذو النورين    ولاية الجزائر: تنظيم حملة تنظيف تخص المؤسسات التربوية السبت المقبل    تواصل سقوط أمطار رعدية على عدد من ولايات شرق الوطن    إعادة هيكلة مواد ومواقيت ابتداء من هذا الموسم    شراكة جزائرية- نيجيرية في مجال الأدوية ب100 مليون دولار    جمباز: الجزائرية كيليا نمور تشارك في ثلاث محطات كبرى في نهاية 2025    درّاج جزائري يتألق في تونس    التأهّل إلى المونديال يتأجّل    التأهل إلى المونديال يتأجل وبيتكوفيتش يثير الحيرة    قطاع الصيدلة سيشهد توقيع عقود بقيمة 400 مليون دولار    عقود ب400 مليون دولار في الصناعات الصيدلانية    "الخضر" على بعد خطوة من مونديال 2026    هذه دعوة النبي الكريم لأمته في كل صلاة    شراكة بين "صيدال" وشركة "أب في" الأمريكية    الإعلان عن قائمة الوكالات المؤهلة    الإسلام منح المرأة حقوقا وكرامة لم يمنحها أي قانونعبر التاريخ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مالك‮ بن‮ نبي‮ وجمعية‮ العلم
نشر في الشروق اليومي يوم 02 - 05 - 2007


محمد‮ الهادي‮ الحسني
علّمنا الإسلام أن لا نقدس الأشخاص، وترك فينا رسول الله عليه الصلاة والسلام ما إن تمسّكنا به لن نَظْلم أحدا، أو نزعم العصمة لأحد، حيث قال صلى الله عليه وسلم : "كل بني آدم خطّاءون". لقد قبض الإمام مالك رضي الله عنه قبضة من أثر الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: "كلّكم رادٌّ ومردودٌ عليه إلا صاحب هذا القبر". (مشير إلى قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم). ونحا الإمام الشافعي رضي الله عنه نحو الإمام مالك فقال: "رأيي صواب يحتمل الخطأ،‮ ورأيُ‮ غيري‮ خطأ‮ يحتمل‮ الصواب‮".
من أجل ذلك ليس على أحدٍ حرج عندما يتناول شخصا، أو هيئة، أو فكرة، ويقول في ذلك بأدلّة ما يحسبه صوابا أو خطأً، وليس على غيره حرجٌ إذا ردّ عليه بأدلة وذهب إلى عكس ما ذهب إليه، فالمهم كما يقول الأستاذ مالك بن نبي : »إن النقد يجب أن لا يكون موقف عداء، يتبادل فيه خصمان الشتم والضرب بالأقلام والجُمَل، بل موقفا فكريا يتبادل فيه اثنان آراءهما«. (في مهب المعركة. ط.دار الفكر ص:142)، وبتواضع العالِمِ وموضوعيته يقول الأستاذ مالك بن نبي: »إنه من الممكن أن يرى أحد القراء اعوجاجا فيما أكتب، وأن يتفضل بتوجيه نقده‮ لي،‮ فمرحبا‮ بهذا‮ النقد،‮ وشكرا‮ لصاحبه‮ مادام‮ واضحا‮ في‮ مبرراته‮ وبرهانه‮ حتى‮ أستفيد‮ منه،‮ لا‮ مجرد‮ قول‮ تُمليه‮ وتصحبه‮ العاطفة‮«. (‬في‮ مهب‮ المعركة‮. ص‮:‬142‮).‬
لقد تساءل كثير من الناس عن رأي مالك بن نبي في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وقد سُئِلْتُ شخصيا من كثير من الطلبة عن رأي الأستاذ مالك بن نبي في هذه الجمعية، فكنتُ أجيب بما أعلم وبما أفهم، وهو أن الأستاذ ابن نبي يَقْدُرُ الجمعية حق قدرها، من حيث مبادئها، وغايتها، وأعمالها، ويعتبرها النور الذي أشرقت له ظلمات الجزائر، والأمل الذي أنعش روح الجزائر، والعمل الذي بعث الجزائر من مرقدها، وقد جاء في إحدى مقالاته: »لقد بذلتُ شطرا من حياتي في سبيل الحركة الإصلاحية، وشهدت في مناسبات مختلفة بالفضل لجمعية العلماء التي‮ قامت‮ في‮ الجزائر‮ بنشر‮ العلم‮ والدين،‮ وتكلمت‮ مرات‮ في‮ معاهدها‮ دون‮ أن‮ أكون‮ عضوا‮ من‮ أعضائها‮«. (‬في‮ مهب‮ المعركة‮. ص‮:‬140‮).
وبلغ إعجاب الأستاذ مالك بن نبي بجمعية العلماء وأعضائها إلى حدّ إهداء إحدى مقالاته إلى هؤلاء الأعضاء قائلا: »أهدي هذه السطور إلى إخواني أعضاء جمعية العلماء، لأنهم أصحاب الفضل والمزية في تكوين جانب كبير من العقل الجزائري، وفي تحضير رواد الثقافة في البلاد«. (في‮ مهب‮ المعركة‮. ص‮:‬127‮). ولم يكن العلماء في مجموعهم أقل إعجابا بالأستاذ ابن نبي، وقد فتحت جريدتا جمعية العلماء (البصائر، وLe jeune musulman) صفحاتهما له، فنشر فيهما عدة مقالات، ووصفه أحد أعضاء جمعية العلماء بأنه »عبقري من عباقرة العصر الحديث في قطرنا الذي لايزال يخرّج عظماء الرجال‮. ولقد‮ أخرج‮ الأستاذ‮ كتبا‮ قيمة‮ قبل‮ كتابه‮ الأخير‮ وهو‮ (‬وجهة‮ العالم‮ الإسلامي‮) منها‮ الظاهرة‮ القرآنية،‮ وعوامل‮ النهضة‮ الجزائرية،‮ ولبيك‮«. (‬جريدة‮ البصائر‮. ع‮:‬322‮. في‮ 10‮ /‬‮ 6‮ /‬‮ 1955‮).
وقد حدّثني الشيخ عبد الرحمان شيبان أن الإمامين محمد البشير الإبراهيمي والعربي التبسي كلّفاه أن يتصل بالأستاذ ابن نبي ويعرض عليه باسمَيْهما أن جمعية العلماء على ما تعانيه من قلة ذات اليد على استعداد لتقديم ما يحتاج إليه من مساعدة. إن هذا الإعجاب المتبادل ليس معناه عدم الاختلاف الفكري، أو انتقاد بعض المواقف. فقد اعتبر الأستاذ ابن نبي أن »العلماء لم يكونوا على جانب من الخبرة بوسائل الاستعمار في مجال الصراع الفكري حتى يفطنوا إلى هذا الانحراف، ولم يكن لديهم من حدة المزاج وصرامة الإرادة ما‮ يكفي‮ حتى‮ يتداركوا‮ الموقف،‮ وربما‮ كان‮ هذا‮ السبب‮ الأول‮ في‮ فتور‮ علاقاتي‮ بهم،‮ ولسوء‮ التفاهم‮ بيننا‮ فيما‮ بعد،‮ خاصة‮ بيني‮ وبين‮ الشيخ‮ العربي‮ التبسي‮«.‬
‮(‬مذكرات‮ شاهد‮ للقرن‮. دار‮ الفكر‮. ط‮ 1984‮. صص‮ 319‮ -‬‮ 320‮).
إن الملاحظة التي أود التنبيه إليها، والتي ينبغي مراعاتها عند قراءة بعض آراء الأستاذ ابن نبي هي أنه كان يعبّر عن فكره الشخصي، بصرف النظر عن صوابه أو خطإه، ولذلك فهو قد يتطرف في بعض مواقفه؛ أما العلماء فهم يعبرون عن جمعية تضم آلافا من الأعضاء، وتسيّر مئات من المدارس، ومثلها من النوادي، وتعلم عشرات الآلاف من التلاميذ، وكل أولئك يجعلها تُلينُ القول حينا، وتناور حينا، وهذا ما عناه الإمام ابن باديس في قوله الحكيم: »تستطيع الظروف أن تُكيّفَنا، ولكنها لا تستطيع بإذن الله إتلافنا«.
ولا شك في أن الأستاذ ابن نبي، الذي خبر أساليب الاستعمار، يعرف أن هذا الاستعمار قد يغمض عينيه عن موقف أو رأي متطرف لشخص من الأشخاص، بل قد يستغله في الدعاية لتلميع وجهه »الديمقراطي«؛ ولكن هذا الاستعمار لن يتسامح مع جمعية تملك برنامجا، وتسعى لأهداف، وتقود عشرات‮ الآلاف‮ من‮ البشر‮.‬ إن المأخذ الكبير الذي أخذه الأستاذ ابن نبي على العلماء هو مشاركتهم في المؤتمر الإسلامي في سنة 1936. والحقيقة هي أن العلماء لم يكونوا مجرد مشاركين في ذلك المؤتمر، بل كانوا هم أُسُّهُ وعمادُه، ولولاهم لما أمكن لذلك المؤتمر أن يُعْقَد، لأن الأطراف المشاركة فيه (النخبة الليبرالية، والشيوعيون) لم يكن في مُكْنَتِها تجنيد بضع مئات من الجزائريين. فالفضل في حشد تلك الآلاف المؤلفة من الجزائريين لأول مرة يعود للعلماء. وقد عرفت فرنسا خطر ذلك التجنيد عليها، وعلمت أن العلماء هم الذين كانوا سببا فيه، فدبرت مكيدتها بقتل المفتي‮ كحول،‮ واتهمت‮ العلماء‮ بالتحريض‮ على قتله‮ لتبطش‮ بهم،‮ وتقضي‮ على المؤتمر‮ الذي‮ جمع‮ الجزائريين‮ على الحد‮ الأدنى‮ من‮ المطالب‮ التي‮ قد‮ يتحملها‮ ذلك‮ الوقت‮.‬
إن الأستاذ ابن نبي نفسه لا ينكر قيمة فكرة المؤتمر الإسلامي، وما أحدثه من تأثير، وقد عبّر عن ذلك بقوله: »قد كنّا متفقين على أن المؤتمر أكبر انتصار حققه الشعب الجزائري على نفسه أولا، ثم على كل القُوَى التي تسعى لإبقائه في الوحل. إنه من الصعب أن نعبر عما يختلج‮ في‮ نفس‮ الآخرين‮ في‮ ظرف‮ يهزّنا‮ هزّا،‮ وإنما‮ كنت‮ واثقا‮ من‮ أن‮ الظرف‮ رَجَّ‮ الاستعمار‮ رجًّا،‮ وأنه‮ دقّ‮ في‮ معسكره‮ ساعة‮ خطيرة‮«. (‬مذكرات‮... ص‮:‬364‮).‬
إذن،‮ فماذا‮ يَنِْقمُ‮ الأستاذ‮ ابن‮ نبي‮ من‮ العلماء؟
يرى الأستاذ ابن نبي أن العلماء أخطأوا إذ سلموا قيادة المؤتمر إلى السياسيين الذين لا يهمهم إلا مصالحهم الشخصية، حيث اتخذوا المؤتمر سُلَّماً يصعدون عليه لتحقيق مآربهم، فيقول: »إن الظروف السانحة وضعت العلماء أُمَنَاءَ على مصلحة الشعب فسلموا الأمانة لغيرهم، لأنهم لم يكونوا في مستواها العقلي، وسلموها لمن يضعها تحت أقدامه لتكون سلّما يصعد عليه للمناصب السياسية«. (مذكرات...ص:368. وانظر فصل »دور السياسة والفكرة«، وفصل »دور الوثنية« في كتاب »شروط النهضة« للأستاذ ابن نبي). يبدو‮ لي‮ أن‮ العلماء‮ عندما‮ قدّموا‮ أولئك‮ السياسيين‮ كانوا‮ واعين‮ تمام‮ الوعي،‮ وأنهم‮ استهدفوا‮ من‮ ذلك‮ التقديم‮ عدة‮ أهداف‮ هي‮:
1‮) أظهروا‮ للفرنسيين‮ أن‮ »‬النخبة‮« الجزائرية‮ (‬ليبرالية‮ وشيوعية‮) التي‮ تعلمت‮ في‮ مدارسهم،‮ واعتنقت‮ مبادئهم‮ متمسكة‮ بشخصيتها‮ الإسلامية‮ وإن‮ قصرت‮ في‮ حقها‮.
2‮) أظهروا‮ للفرنسيين‮ والرأي‮ العام‮ العالمي‮ استعداد‮ الجزائريين‮ للتعامل‮ مع‮ الواقع‮ الذي‮ لا‮ يستطيع‮ في‮ ذلك‮ الوقت‮ ‮ محليا‮ وعالميا‮ ‮ تقبل‮ أكثر‮ من‮ تلك‮ المطالب‮.
3) أظهروا للنخبة التي كانت تحسن الظن بالفرنسيين أو ببعضهم أنهم لن يُنِيلُوا الجزائريين أدنى حق من الحقوق. وذلك ما وقع، حيث رفضت المطالب البسيطة التي قدمها المؤتمر للمسؤولين الفرنسيين، وهذا ما دفع فيما بعد كثيرا من تلك النخبة »يعود إلى وَكْرِه بعد هَجْره‮«.
كما‮ أن‮ تقديم‮ العلماء‮ لأولئك‮ السياسيين‮ كانت‮ له‮ عدة‮ مبررات‮ هي‮:
1‮) لم‮ يكن‮ للعلماء‮ وقت‮ يضيعونه‮ في‮ التجمعات‮ والندوات،‮ حيث‮ كان‮ التعليم‮ يستغرق‮ كل‮ أوقاتهم،‮ ويستنزف‮ كل‮ جهودهم‮. وقد‮ عبر‮ الإمام‮ ابن‮ باديس‮ عن‮ هذه‮ الفكرة‮ عندما‮ عرضت‮ عليه‮ رئاسة‮ المؤتمر‮.‬
2‮) لا‮ يسمح‮ القانون‮ للجمعيات‮ بالخوض‮ في‮ العمل‮ السياسي،‮ ولهذا‮ شارك‮ العلماء‮ في‮ المؤتمر‮ بصفاتهم‮ الشخصية،‮ وليسوا‮ ممثلين‮ للجمعية،‮ حتى‮ لا‮ يورطوها‮.
3‮) إدراك‮ العلماء‮ وتطبيقهم‮ لقاعدة‮: »‬اعملوا‮ فكل‮ مُيَسَّرٌ‮ لها‮ خُلِقَ‮ له‮«‬،‮ وهو‮ يدل‮ على سعة‮ صدورهم،‮ وتفتح‮ عمولهم،‮ واستعدادهم‮ للعمل‮ مع‮ مواطنيهم‮ وإن‮ اختلفوا‮ مع‮ بعضهم‮ سياسيا‮ وفكريا‮.‬
4) ان العلماء لم يكونوا »سُذّجا« أو غافلين، فقد كانت عيونهم مُفتَّحة، وآذانهم راصدة، وعقولهم مُتَنَبهة لكل ما يصدر عن أولئك السياسيين من أقوال وأفعال، وكانوا شِهاباً رَصَداً. فكلما زاغ زائغ من السياسيين ردّوه ردّا جميلا إلى الرشاد، فإن أصرّ على الزيغ، أو تمادى‮ في‮ الغيّ‮ أسمعوه‮ ما‮ لا‮ يرضى‮ من‮ القول،‮ وكشفوا‮ للجزائريين‮ انحرافه‮ وضلاله،‮ فانفضّوا‮ من‮ حوله‮.‬
هناك‮ نقطتان‮ أخريان‮ أود‮ أن‮ أشير‮ إليهما‮ وهما‮:‬
* أولا: ذكر الأستاذ ابن نبي أن جريدة جمعية العلماء (البصائر) نشرت مقالتين يصف صاحبهما (وهو الأستاذ اسماعيل العربي) كتاب »شروط النهضة« »بأنه في مجمله مقتبس من مقالات نشرتها جريدة باريسية كبرى، هي لسان الحكومة الاستعمارية تقريبا بإمضاء مراسلها في القاهرة« (مالك‮ بن‮ نبي‮: الصراع‮ الفكري‮ في‮ البلاد‮ المستعمَرة‮ دار‮ الفكر‮. ط‮.‬1981‮ ص‮:‬38‮).‬
لقد راجعت جريدة البصائر فوجدت المقالين منشورين في العدد 87 بتاريخ 18 جويلية 1949، وفي العدد 89 بتاريخ 8 أوت 1949. فما وجدت فيهما إشارة إلى أن الكتاب مقتبس من مقالات نشرتها جريدة فرنسية لمراسلها في القاهرة وإن كان فيهما نقد لمنهج الأستاذ ابن نبي وأسلوبه.
ولعل‮ الأستاذ‮ ابن‮ نبي‮ لم‮ يقرأ‮ المقالين،‮ واعتمد‮ فيما‮ قاله‮ على ما‮ نقله‮ إليه‮ نازغٌ‮ يريد‮ أن‮ ينزغ‮ بينه‮ وبين‮ الجمعية،‮ أو‮ بينه‮ وبين‮ كاتب‮ المقالين‮.‬ كما أشيرُ إلى أن الشيخ أحمد بوزيد قصيبة كتب مقالا عن الكتاب المذكور وصفه بأنه »رسالة قيمة، طرق فيها عدة مواضيع تهم تهضتنا الجزائرية الحاضرة، وتصدى لمختلف نواحيها بالبحث والدرس العرض والنقد وننبّه القراء إلى جوب تناول هاته الرسالة التي تعد فتحا جديدا في تاريخ نهضتنا الحديثة، ولأهمية موضوعها وطرافته، يجدر بكل مهتم بالشؤون العامة ومستقبل بلاده أن يقتنيها، ويطلع على ما جاء فيها. ويا حبذا لو تترجم إلى اللغة العربية ليعمّ بها النفع« (جريدة البصائر ع:72. في 21 مارس 1949).
كما‮ غطّى‮ الشيخ‮ باعزيز‮ بن‮ عمر‮ مناقشة‮ لكتاب‮ شروط‮ النهضة‮ وقعت‮ في‮ مقر‮ الطلبة‮ بالعاصمة‮ (‬جريدة‮ البصائر‮ ع‮:‬74‮. في‮ 4‮ أفريل‮ 1949‮).‬
*‬‮ ثانيا‮: أشار‮ الأستاذ‮ ابن‮ نبي‮ إلى ‮»‬أن‮ مفهوم‮ الإصلاح‮ لا‮ يعني‮ شيئا‮ واحدا‮ في‮ عقل‮ تمرن‮ في‮ المنطق‮ الكارتزياني‮ (‬نسبة‮ إلى ديكارت‮) وفي‮ عقل‮ كونه‮ علم‮ الكلام‮« (‬مذكرات‮... ص‮:‬376‮).‬
ويفهم من سياق الحديث أن الأستاذ ابن نبي يشيد بالعقل الذي تمرن في المنطق الكارتزياني، وينعى على العقل الذي كوّنه علم الكلام. ويبدو لي أن الأستاذ ابن نبي متناقض مع نفسه في هذه النقطة، فلطالما أشاد بالإمام محمد بن عبد الوهاب، والإمام محمد عبده، والإمام ابن باديس حيث سمّى النهج الذي توجد فيه مجلة الشهاب لابن باديس »شارع الفكر« وهؤلاء وغيرهم من أعلامنا كوّن عقولهم علم الكلام، كما أن كثيراً من الذين انتقدهم مالك بن نبي، وندد بانحرافهم الفكري والسلوكي تمرنوا في المنطق الكارتزياني. وإن أكثر مصائب أمتنا ثقافيا،‮ وسياسيا،‮ واقتصاديا‮ ‮ سببه‮ أصحاب‮ هذا‮ المنطق‮ الكارتزياني،‮ والأمثلة‮ قديما‮ وحديثا‮ لا‮ تحصى‮.‬
لقد عرضتُ هذه الآراء في كلمة مرتجلة ألقيتها في ملتقى عن مالك ابن نبي عقد في جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة يوم 2 فبراير 2005، وقد اقترح بعض الحاضرين كتابتها ونشرها، وهاأنذا ألبّي رغبتهم وأنشرها في ذكرى تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. إن قادة جمعية العلماء الرواد، وإن الأستاذ مالك بن نبي قِمَمٌ فكرية شامخة، ليس في تاريخ الجزائر فقط؛ ولكن في تاريخ الفكر الإسلامي المعاصر أيضا، فرحمهم الله جميعا. وكفى المرء نبلاً أن تُعَدَّ مَعَايِبُه.
*) زعم الدكتور عبد الصبور شاهين في حوار له نشر في مجلة الوحدة الجزائرية ع431. في 28 سبتمبر 1989. ص:21 ) أن الأستاذ »مالك بن نبي لم يكن يعرف العربية حتى آخر أيام حياته«. وهذا مناقض للحقيقة، فقد تتلمذ مالك بن نبي في »مدرسة« قسنطينة التي كانت تخرّج القضاة، والمترجمين... ونشر مقالات في جريدة البصائر. (الأعداد 66، 220 و224). وقد غطى الأستاذ علي الجندوبي (التونسي) محاضرة للأستاذ ابن نبي ألقاها في تونس فقال: »وها نحن نقدم صورة إجمالية على هذه الشخصية وحديثها الذي دام أكثر من ساعة ونصف، وقد أجاد القول هذا النابغة‮ باللغة‮ العربية،‮ معتذرا‮ على تفوهه‮ ببعض‮ ألفاظ‮ بالإفرنسية‮ كاصطلاحات‮ علمية‮...«. (‬جريدة‮ البصائر‮. ع‮.‬47‮ في‮ 30‮ /‬‮ 8‮ /‬‮ 1948‮).‬
وقد حضرت محاضرة ألقاها الأستاذ ابن نبي في الكويت في سنة 1966 أمام صفوة العلماء والأدباء الموجودين آنذاك بالكويت، وتكلم بلغة عربية سليمة... وحاضر في الملتقيات الأولى للفكر الإسلامي، أمام علماء ومفكرين من أنحاء العالم الإسلامي، بلغة عربية سليمة، ودقيقة، وليست‮ فضفاضة‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.