إذا كانت الوطنية هي أعلى درجات الوعي الإنساني والشعور بالمسؤولية، الممزوج بقيم الحب والوفاء والاستعداد للتضحية من أجل الوطن، فإن مظاهر التعصب التي تولدت لدى مكونات المجتمع نتيجة الهوس بالجلد المنفوخ، أفرغت هذه القيمة الحضارية من محتواها، واختزلتها في شعار: "وان تو ثري فيفا لا لجيري" الشهير، الذي أصبح علامة عالمية مسجلة باسم الجزائريين، تصدح بها حناجرهم كلّما تألق المنتخب الوطني لكرة القدم في محفل كروي، أو فاز بلقاء مصيري. لكن، ماذا لو طبقنا هذا الشعار وآمنا به في حياتنا اليومية؟ ماذا لو تحوّل هذا الشعار من مجرّد كلام شاعري نردّده في مدرجات ملاعب الكرة إلى أفعال في الواقع، ترفع راية الوطن عاليا في الاقتصاد، والسياحة والخدمات والاتصالات والعلاج وغيرها..؟. الحقيقة هي أنّ هتافات "وان تو ثري فيفا لالجيري"، التي زلزلت مونديال إسبانيا في 1982، إثر تألق رفقاء بلومي في ملحمة خيخون، لما أعادوا كتابة تاريخ الكرة عقب فوزهم على ألمانيا، وقبلها في 1975 لما فازت الجزائر على فرنسا، ما تزال حاضرة فقط في التظاهرات الرياضية، وتصدح بها الحناجر فقط في "الفتوحات" الكروية. لا يمكننا أن نقول "وان تو ثري فيا لالجري"، وقد انتشر الفساد والتلاعب بالمال العام وسوء التسيير، وكذا الظلم والتهميش والدسائس التي تحاك هنا وهناك ضد الإطارات المخلصة لهذا البلد. كيف يحق لنا أن نتباهى بهذا الشعار ومظاهر الغش تتكرّر في امتحانات مختلف أطوار التعليم من الابتدائي إلى البكالوريا، وهناك من لم يحصل على هذه الشهادة، وتمكن من ولوج الجامعة والتخرّج منها بشهادات في الطب والمحاماة؟! كيف يُصبح ل"وان تو ثري فيفا لا لجيري" معنى والآلاف من الفقراء يتزاحمون على قفة العار ليحصلوا على مواد غذائية منتهية الصلاحية في رمضان؟ كيف نقول هذا الشعار، وقد استوردنا "المايونيز" بالأطنان، وحتى المسامير وفرشاة الأسنان...؟!. نقول "وان توثري فيفا لا لجري" لو نتمكن من تحقيق إقلاع اقتصادي خارج المحروقات، وتكون لدينا منتجعات سياحية يتدفق عليها السياح من كل حدب وصوب، ونتمتع بالمشي في شوارعٍ ومدنٍ نظيفة على الطريقة الأوروبية، ومستشفيات يعامل فيها المرضى على أنهم بشر. نردّد "وان تو ثري فيف لالجيري" بكل فخر واعتزاز، لما نحرّك مخابر البحث في جامعاتنا التي أصبحت وسيلة للاغتراف من المال العام مقابل صفر أبحاث وصفر نتائج. من حقنا أن نهتف بهذا الشعار الرنان، لما تزول مظاهر الرشوة والبيروقراطية في إدارة شؤون البلاد والعباد، ويصبح الرجل المناسب في المكان المناسب، ويكون للنخبة دورٌ فاعل في صناعة القرار. نقول هذا الشعار لمّا نبجّل علماءنا ونمجد خبراءنا ونجلّ الوطنيين من أبناء جلدتنا، ونقدّر فنّانينا، ويصبح لنا برلمانٌ شرعي، يراقب أداء الجهاز التنفيذي، ويحاسبه على كل صغيرة وكبيرة، ويطالبه في كل مرة بالحصيلة. باختصار نحن بحاجة إلى "وان تو ثري فيفا لا لجيري" في كل الميادين والاختصاصات، تترجمها سلوكياتٌ راقية تخضع للضمير والوازع الأخلاقي والديني بالدرجة الأولى، لتنصهر في قيمة أخلاقية وحضارية اسمها "حب الوطن"، الذي هو من الإيمان.