بثّث مجموعة “إيسماس” (المعهد العالي لمهن فنون العرض والسمعي البصري) عبر صفحتها ب”فيسبوك”، عرض “انتحار الرفيقة الميتة” للمسرح الجهوي للعلمة للكاتب محمد بخوش والمخرج فوزي بن براهيم -وذلك في إطار البرنامج الذي تُخصّصه المجموعة لفترة الحجر المنزلي الصحي بسبب تفشي وباء كورونا المميت- وهو عمل فلسفي وجودي يتطرق لمختلف الصراعات النفسية التي تواجه الإنسان. زينة.ب ويصور “انتحار الرفيقة الميتة” وهو عبارة عن عمل مقتبس عن رواية “فيرونيكا تقرر أن تموت” للأديب البرازيلي باولو كويلو، على مدار أكثر من ساعة من الزمن، المعاناة النفسية ل”الرفيقة” التي ترغب بشدة في الانتحار بحثا عن السلام الروحي وبعد أن فقدت لذة التمتع بالحياة فتحس بأن الدنيا بأكملها تطبق عَلى أنفاسها، لكنها في كل مرة تفشل، وفي آخر محاولة يتم إدخالها لمصح للأعصاب، وهناك تلتقي بمجموعة من المرضى، حيث تبدأ رحلتها الجديدة إلى جانب حالات مختلفة ومتفاوتة ممن يعانون من مشاكل نفسية وعصبية، لتفهم بعدها أن الانتحار الحقيقي هو انتحار النفس أولا. يبدأ العرض تحت إضاءة خافتة تخدم الموضوع، وهناك توجد الرفيقة وهي تحاول النوم بعد أن أتعبها الأرق، تتقلب وتنكمش مثل جنين فوق سريرها يسار الخشبة، تشعر بضيق فلا تكاد تسمعها، تبحث عن السكينة فلا تجدها، دقائق من الصمت تتلاعب فيها البطلة بالجمهور الذي ينتظر ما ستفعله، تطرح الرفيقة الأسئلة الوجودية، وتتناقش مع نفسها وتفكر في حياتها ودواخلها وكذا محيطها. يتعرف الجمهور تدريجيا إلى الرفيقة، هذه المرأة الشابة التي تموت وتحيا داخل قوقعتها وتعيش في أحزانها، فتتبلور الفكرة العامة للحياة التي تعيشها، يشاهد الجمهور غرفتها وأشياءها كالعلب الكرتونية التي شكلت لوحة تكعيبية رافقت العرض إلى غاية النهاية، هذه الأمور التي تزيد من مخاوفها رغم الألفة؛ غرفة بها ثريا خشبية يتسلل ضوءها الخافت على ظلمتها المادية والمعنوية، فسلم خشبي يقدم ظلّه أفقا تصويريا. تتسارع أحداث المسرحية وتفشل الرفيقة في الانتحار لتجد نفسها في مصحة خاصة، حيث تتجلى أمامها تباعا شخصيات هي نماذج لما قد نجده في أي مجتمع، الكل يخطط للخروج من هذا المكان المغلق إلا أنهم يخضعون لمراقبة فوقية تعذبهم وتستنطقهم، وبعيدا عن فكرة الموت الفردي الذي تسعى إليه هذه الجميلة التائهة، ينبعث جنون جماعي أفرزته محطات حياتية لمجتمع عاش الحرب الأهلية وفقد الحب وسكنه الخوف فضل الطريق إلى الحلم بالغد. تلاعب المخرج فوزي بن ابراهيم بالإضاءة التي أدت دورا كبيرا في العرض، حيث ساهمت بقوة في تحديد مشاعر القلق والتعاطف بين الممثلين داخل المصحة حيث سرد كل مريض قصته التي أوصلته إلى هذا المكان، وكلها قصص مهمة زادت من تعبئة قصة الرفيقة، وهناك تحدثوا وعبّروا عن مشاعرهم، ما يجعل المشاهد يحس أنه واحد منهم باعتباره يمر أو مر بظروف قاسية. تأتي البداية بموسيقى كلاسيكية سرعان ما ينقض عليها قرقابو عمي بوسعدية الذي زرع في نفس الرفيقة روحا تحررية، لكنها تعود بعد ذلك لعزلتها، وقد لعبت الموسيقى دورا كبيرا في العمل فقد عوضت حوارات كثيرة ورافقت أيضا لحظة انتحار الرفيقة، لذلك كان على المسؤول عنها عبد القادر صوفي أن يتقن استعمالها في هذه اللحظة الصعبة وهي التحضير للموت حيث استعمل أغانٍ من التراث كالڤناوة ومقاطع للراحلة بڤار حدة، وهذا يعني أن الاقتباس لم يكن سوى في القصة وإنما هناك لمسة محلية من خلال الإشارة إليها بالموسيقى وأسماء الممثلين. اعتمدت لغة العرض على المزيج بين اللغة العربية الفصحى والعامية، وذلك لخدمة المشاهد الذي ربما تصعب عليه الفصحى فتأتي العامية لتوضح أكثر لأن العرض فلسفي وجودي وعميق يلزمه توضيحات لغوية تصل إلى الجميع، ورغم الموضوع الجاد والأداء الدرامي كانت هناك لحظات كوميدية مع شخصيتي الطبيبة المتربصة وعبدو. أما السينوغرافيا فقد كانت تحت إشراف حمزة جاب الله، الذي رغب في الاعتماد على مواد بسيطة موحدة اللون والشكل، تتمثل في علب كرتون وصفائح خشبية، وهناك حدث الصراع العميق بين الشخوص الثماني في المصح؛ الرفيقة اليائسة وزهوة المحامية، وعبدو الجندي المجنون، وسيراج الضابط الغامض، ومحسن المسرحي الباحث عن مشهده الضائع، إضافة إلى الطبيب صاحب مشفى المجانين والطبيبة المتربصة الثرثارة وعون الأمن المهوس بحراسة الجميع، وهنا حدث كل شيء وتحدث كل واحد عن آلامه ومشاكله، هنا تحت هذه الظلمة الخافتة، الجميع سواسية. من جهة أخرى برز الأداء النسوي ممثلا في كنزة بوساحة بدور الرفيقة وهاجر سيراوي بدور زهرة اللتين كشفتا عن قوة في الحضور وفصاحة جميلة وإلقاء بصوت دب في أرجاء قاعة مصطفى كاتب كاملة، فكانتا إلى جانب زملائهما اكتشافا جميلا، ثم رمزي قجة بدور عبدو، علي ناموس بدور الطبيب ومحمد نجيب بوسواليم بدور سيراج، بلال لعرابة بدور محسن، آمال دلهوم بدور الطبيبة المتربصة، أحمد قوادري بدور عون الأمن. تقول الرفيقة “أنا المسماة رفيقة.. قررت الانتحار .. إنها لحظة فخر واعتزاز .. فقد تحليت بالشجاعة الكافية للرحيل عن هذا العالم”. وكان فوزي بن براهيم قد صرّح خلال العرض الشرفي للعمل في مهرجان المسرح المحترف ديسمبر 2017، أنه انتقى من كل التيارات والمدارس المسرحية لإكمال هذا العمل، لكنه -حسبه- في الأخير يبقى عملا انطباعيا فهو يترك للمتلقي حرية التأويل، كما أنه أدخل بعض المشاهد الكوميدية لتبسيطه، فحتى وإن كان فلسفيا لا يجب أن تغطيه هالة التعقيد فهمه، لهذا اختار أسلوبا خفيفا يبتعد عن السوداوية التي غالبا ما ينفر منها الجمهور. يُذكر أن المخرج فوزي بن براهيم قد فتح بابا لتأويل نهاية العرض وإن كنّا سنعتبرها نهاية مفتوحة نوعا ما، وهذا عكس رواية كويلو التي كانت واضحة. فوزي بن براهيم ممثل ومخرج مسرحي وتلفزيوني من مواليد مدينة باتنة، أخرج عدداً من الأعمال المسرحية، من بينها “آخر المساجين” (2010)، و”مستنقع الذئاب” (2011)، و”جرعة حقيقة” (2012)، و”العَرْضة” و”سطو خاص” (2013)، و”زِيد نزيدك” (2014)، و”رقصة الهاوية” (2016)، و”انتحار الرفيقة الميتة” (2017)، و”العطب” (2018)، شارك كذلك ممثّلاً في عدد من المسلسلات الدرامية والأفلام السينمائية. وباولو كويلو الكاتب الذي اقتبست المسرحية من أحد أعماله، هو روائي وقاص برازيلي ولد في 24 اغسطس 1947، يؤلف حاليا القصص المحررة من قبل العامة عن طريق الفيسبوك. تتميز رواياته بمعنى روحي، كما يعتمد على أحداث تاريخية واقعية لتمثيل أحداث قصصه. يُذكر أن مجموعة “إيسماس” يقترح من خلالها طلاب وخريجوا المعهد العالي لمهن فنون العرض والسمعي البصري ايسماس عبر مجموعة افتراضية بمنصة “فيسبوك” باسم “Ismas share”، برنامجا يوميا متنوعا بين المسرح والسنيما بأعمال فنية مختلفة ومتنوعة سعيا -حسبها- لإرضاء كل الأذواق ولتخفيف حدة الأزمة العالمية التي جعلتنا حبيسي الجدران، وهي مجموعة تعنى بالمجال الفني من سينما، مسرح، رقص، فن تشكيلي، كتابة، نقد، ثقافة، مهرجانات، ندوات وغيرها موجهة إلى كل الفنانين ومحبي الفن. وفي إطار برنامجها اليومي تعرض ثلاثة أعمال متنوعة كل مساء متمثلة في عرض مسرحي وفيلم قصير وتختم بفيلم طويل وكلها أعمال جزائرية، حيث تكون هذه الأخيرة متبوعة بنقاش مصوّر، وهناك يُفتح المجال للمهتمين من محبي وصناع هذا الفن للتدخل وإبداء آرائهم حول العمل وكذا تقديم اقتراحاتهم ورؤيتهم ومشاركتهم كل تفصيل.