معرض التجارة البينية الافريقية : تنظيم جلسة نقاش رئاسية حول منطقة التجارة الحرة القارية    معرض التجارة البينية الإفريقية 2025: الجزائر تقود التحول الاقتصادي لإفريقيا    العدوان الصهيوني على غزة : ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 64231 شهيدا    الدرك الوطني يضع مخططا أمنيا وقائيا خاصا بمناسبة المولد النبوي الشريف    الطبعة الأولى للصالون الدولي لطب الجلد التجميلي والتجميل وطب الأسنان من 18 إلى 20 سبتمبر    معرض التجارة البينية الإفريقية : نيجيريا تستضيف الطبعة الخامسة سنة 2027    تساقط أمطار رعدية مصحوبة بالبرد بأربع ولايات جنوبية يومي الخميس والجمعة    الأونروا تؤكد وجود عائلات فلسطينية بقطاع غزة محرومة من "ضروريات الحياة"    الأمم المتحدة : تكثيف الهجوم الصهيوني على غزة سيدفع المدنيين إلى "كارثة أعمق"    فرصة للترويج للمنتجات الجزائرية و ولوج الأسواق الإفريقية    المجلس الشعبي الوطني يشارك في أشغال مؤتمر حول الموارد المائية بأديس أبابا    المغرب يمارس إرهاب دولة مكتمل الأركان    تضع برنامجا يعكس الموروث الثقافي الجزائري وأبعاده الإفريقية    وزير الثقافة يستقبل المدير العام للمنظمة العالمية للملكية الفكرية    المنفي يبرز أهمية الطبعة الرابعة من معرض التجارة البينية الإفريقية في تحقيق التكامل الإفريقي-الإفريقي    بداري يستقبل المدير العام للمنظمة العالمية للملكية الفكرية    1100 شهيد في قطاع غزة خلال ثلاثة أسابيع    صهاينة يستبيحون الأقصى    10 ممثّلين للجزائر    ناصري يستقبل رئيس وزراء جمهورية بورندي    الذّاكرة الوطنية رافعة استراتيجية لبناء الجزائر المنتصرة    فتح مناصب بمديرية الشؤون الدينية والأوقاف للجزائر    التصدّي للاحتيال عبر البطاقة الذهبية وتطبيق "بريدي موب"    منصّة تفاعلية لتكوين موظفي مديرية الأملاك الوطنية    شراكة بين "صيدال" وشركة "أب في" الأمريكية    لقاءات مثيرة والقمة في تيزي وزو    حين يُزهر التراث وتخضب الحنّة أجواء الفرح    الشرطة تستقبل 4670 مكالمة هاتفية    هلاك شخص في حادث دهس    "المحاربون".. خطوة نحو المونديال    صرح علمي يستقبل 6 آلاف طالب جديد    سهرة فنية بشطايبي تكشف عن روح البيّض في قلب عنابة    تتويج الفائزين في مسابقة "قفطان التحدي"    المدرب سيفكو يريد نقاط اللقاء لمحو آثار هزيمة مستغانم    معرض التجارة البينية الافريقية: تنظيم عدة مسارات سياحية للوفود المشاركة    برنامج ثقافي وفني متنوع بالعاصمة لمرافقة معرض التجارة البينية الإفريقية    معرض التجارة البينية الافريقية 2025 .. أبرز المواضيع والفعاليات في طبعة الجزائر    تصفيات مونديال 2026: المنتخب الوطني يجري حصته التدريبية الثانية بسيدي موسى    مدير جديد لديوان الخدمات الجامعية    بنك الجزائر ينظّم يوماً تكوينياً    إحباط عدة محاولات تهريب وترويج للسموم    الفاف تمدّد الآجال    أول قرار لإيمان خليف    الإعلان عن قائمة الوكالات المؤهلة    اجتماع عمل تقني بين قطاعي الصناعة الصيدلانية والصحة    الوزير الأول يترأس اجتماعا لتنفيذ قرار رئيس الجمهورية    أكثر من 300 فلسطيني قضوا جوعاً في غزة    غزة تحت القصف الصهيوني المكثف والدمار الممنهج    بداري يعاين أشغال التهيئة جامعة هواري بومدين    انطلاق تصوير فيلم "نضالهن" من قسنطينة    النظام الوطني للتنظيم الصيدلاني: اجتماع عمل تقني بين قطاعي الصناعة الصيدلانية والصحة    تصفيات مونديال 2026: المنتخب الوطني يجري حصته التدريبية الأولى بسيدي موسى    نسج شراكات استراتيجية لتعزيز السيادة الصحية للقارة    الإسلام منح المرأة حقوقا وكرامة لم يمنحها أي قانونعبر التاريخ    المولد النبوي يوم الجمعة    يوم الجمعة الموافق ل 5 سبتمبر القادم    ذكرى المولد النبوي الشريف ستكون يوم الجمعة الموافق ل 5 سبتمبر القادم    لا إله إلا الله كلمة جامعة لمعاني ما جاء به جميع الرسل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الديمقراطية والشعبوية وفك السحر عن صندوق الاقتراع
نشر في الحياة العربية يوم 16 - 11 - 2020

لئن كانت الحداثة بمجملها مبنية على خيبة مستدامة، الخيبة من «انفكاك سحر العالم» إذا ما استعدنا مقولة رائد علم الإجتماع الألماني ماكس فيبير، أي الخيبة من رؤية الأشياء من حولنا تتحرّك بالحسابات الباردة والدقيقة لا بالتعاويذ وطلاسم السحر، كذلك هو حال الديمقراطية.
مع أنّ الديمقراطية نفسها، في احيائها الحديث، المبني على أسطورة غفلة التاريخ عنها زهاء ألفي عام، منذ انقطاع نسلها في التجربة الإغريقية، ثم انبعاثها من جديد في غير حُلّة مع الثورات البرجوازية، طوّرت وعيها لنفسها على أنها المنقذ من هذه الخيبة من اندثار السحر في العالم، انما بالاعتماد على الحسابات الباردة والدقيقة، لأنه بمستطاعها إعادة الدفء من خلال هذه الحسابات، ومعه المعنى، بل إعادة «تسحير» العلاقات الإجتماعية، عند الإحتكام الى ميزان دقيق.
يجد هذا الميزان كماله العملي المشتهى في فرز للأصوات لا تشوبه شائبة من بعد اقتراع يجري في ظروف تنافسية، مفتوحة على تداول السلطة، ويراعى فيه مقياس العدل بين كل من الناخبين والمرشحين.
ثمة رهان في المشروع الديمقراطي للأزمنة الحديثة إذاً على مداواة سحر العالم وإعادة تسحيره، بالاحتكام الى هذا العقل الحسابي نفسه، من خلال ضبط قواعده كعقل انتخابي.
قبل الحداثة كان على السياسة أن تأخذ بعين الاعتبار الأعداد والأرقام في المجالات الاقتصادية والمالية كما العسكرية، لكن السياسة لم يكن لها أعدادها هي، وأرقامها هي. مع الحداثة، وبشكل أكثر تصميما، مع شيوع وانتظام الانتخابات ومناسبات الاحتكام للعبة الصندوق بشكل عام، صار المنطق الحسابي محور السياسة نفسها، ومن داخلها.
وفي السياسة، استعادت الأعداد والأرقام التي أقامت على امتداد آلاف السنين علاقات وثيقة مع دنيا السحر والسّحَرة والمنجّمين، شيئاً من «المسحورية» الشاحبة التي هجرتنا. كلما زادت دقة الرقم الذي يخرج من الصناديق والمحتسب بشكل بارد كلما مدّ هذا الرقم منتظريه بحرارة الظفر أو الهزيمة.
لم تعرف ديمقراطية الأثينيين القديمة الانتخابات. عرفت الآغورا، تجمهر الأحرار من المواطنين نحو أربعين مرة في السنة للتقرير في شؤون كيانهم السياسي. وعرفت اعتماد القرعة لعدد كبير من الوظائف الحكومية والقضائية الأساسية اللازمة في فترة ما بين اجتماعين للآغورا. لكنها عرفت أيضاً، بل كان هذا شرطا أساسيا لاشتغالها وجود ديكتاتور ضامن لها، هو «الستراتيج» كما في حال بيريكليس، الذي كان في الآن نفسه قائد الجيش والخطيب الشعبي المفوه.
ديمقراطية العصر الحديث مختلفة. تطورت هي الأخرى من تقبل احتياج بيريكليس جديد ضامن لها، الى الشكوى منه، الى درجة ان مفردة ديكتاتورية صارت تفهم مع الوقت على أنها شيء نقيض للديمقراطية، بعد أن كانت بالأساس تلازم الديمقراطية كخيالها.
تختلف ديمقراطية العصر الحديث عن ديمقراطية أثينا، لكن في الأساس كان همّ باعثي الفكرة بعد قرون طويلة من حجر التاريخ عليها، وتبرّم الفلاسفة منها بل احتقارهم لها، هو تمثل الأثر الأثيني كما فهموه، وليس الشط عنه. ما كان الهدف عند روسو مثلا أن ينقسم الناس بين أكثرية وبين أقلية في مواقعة انتخابية، بل أن توفر استعادة الفكرة الديمقراطية، بالعقد الاجتماعي، الباب لانبثاق الارادة العامة، إرادة الشعب كله.
اشكالية الأكثرية والأقلية التي هي في أساس فهمنا الديمقراطية التمثيلية والانتخابية كانت لا تزال أمرا غير مفكر به في بدايات المشروع الديمقراطي الحديث، وهذا كما يوضح لنا المفكر الفرنسي المعاصر بيار روزنفالون يترك آثاره العميقة الى اليوم. لأن الديمقراطية مبنية على استمرارية هذه الحيلة الخيالية، وهو أن الشرعية التي تخرج من الصناديق تمثل جميع المواطنين وليس فقط الذين أدلوا بأصواتهم للمرشحين الفائزين. تقوم هي اذا على مساواة خيالية، افتراضية، يدرك الجميع انها غير قائمة عملية، بل غير ممكنة، بين أكثرية، لنقل 51 بالمئة، وبين الارادة العامة.
كيف تعبّر أكثرية بالنصف زائد واحد من الناخبين عن الارادة العامة، وهي لا تمثل الا أقلية من المواطنين ككل، وأقلية بعد أقل عدداً من مجموع السكان في بلد ما؟ هذا سؤال سيبقى مفتوحاً في المشروع الديمقراطي للأزمنة الحديثة، لا سبيل لتقديم إجابات نهائية، كاملة، عليه، لا سبيل الا لمداواته. يسفر عن ذلك موجات صعود وهبوط تجاه الخيبة من الديمقراطية، وتجاه كون الديمقراطية في الأساس هي الشكل السياسي للتحكم بالخيبة التي يثيرها انسحاب السحر من العالم، وصيرورته عالماً مقروءاً بغير السحر، عارياً بلا طلاسم.
وروزنفالون يلتقط هذا الإشكال، أي الاختلاف بين الأكثرية التي تخرجها صناديق الإقتراع وبين الحيلة الخيالية بأن ما يخرج من هذا الصناديق ان هو إلا صوت الإرادة العامة نفسه، ليسبر من خلاله مسارات الافتراق بين الشعب المتخيل وبين الشعب الفعلي، مثلما هو يتتبع التفاوت بين ندرة الشعب الموجود بالفعل، أي الموجود ككتلة هادرة متمردة، أي «الشعب – الحدث» في ميادين الثورات، وبين صعوبة ارساء الشعب كمقولة فعلية ممأسسة لها ديمومة. ينطلق من ذلك كله في محاولة لفهم المشترك بين مجموع الظواهر، على امتداد العالم، التي توصف ب«الشعبوية».
أن يكون الشعب ساطعاً مجسداً حيناً، وضامراً مشتتاً حيناً آخر، وأن تقوم الديمقراطية التمثيلية والانتخابية على حيلة أن الأكثرية الخارجة من الصناديق تعادل عمليا الارادة العامة، كل هذا يوجد توتراً عميقاً في المشروع الديمقراطي الحديث يدفع أكثر فأكثر باتجاه ظواهر شعبوية من أنماط مختلفة، شعبوية يمينية وأخرى يسارية، لكن أيضاً شعبوية عمودية (الحاجة لأن يكون هناك قائد هو صوت للشعب كله) واخرى أفقية (أن لا تفرز الحركة الشعبية ولو حتى ناطق بلسانها، وعلى افتراض انها وجدت للتخلص من كل العلاقات العمودية).
ما يجمع الشعبويات عند روزنفالون أنها تزاوج جميعها بين فكرتين متناقضتين تماماً. الأولى أن السلطة ينبغي أن تكون لكل واحد منا نحن هذا الشعب، والثانية ان السلطة ينبغي أن لا تكون لأحد، لأن كل مصادرة للسلطة من طرف مجموعة أو جهاز هي مصادرة لها من هذا الشعب «المتخيل».
يستحق فكر روزنفالون، وبخاصة كتابه الاخير «قرن الشعبوية» الذي يرى فيها أيديولوجية قرننا بامتياز، مناقشة عن كثب وعلى حدة، لأنه من أثمن ما كتب في هذا الشأن، الا أنه، واذا كان مشروع روزنفالون الفكري يميل بالاساس الى تضمين الديمقراطية ما يتخطى اختزالها في اللعبة الانتخابية، فإن الموقف الذي يميل الى هكذا اختزال، له مساحة يظهر فيها أكثر تسامحا مع الخيبة التأسيسية للزمن الحديث من سواه. فبخلاف الرؤى العاملة على تعميق وتجذير الديمقراطية والمشتكية دوما من مغبة اختزالها في صندوق اقتراع، كان الاقتصادي وعالم الاجتماع النمساوي الأمريكي جوزيف شومبيتر متصالحا مع هذا الاختزال. اعتبر انه ليس من الضرورة ان يختار المواطنون بعقلانية أو عن معرفة مرشحيهم المفضلين، بل ان معيار صلاح النظام الديمقراطي يتقوم عندما يختارون هم عن عاطفة وحماسة ولألف سبب مختلف، وعندما لا يكون منتظرا من المرشحين هم أيضا أن يكونوا قد ختموا العلم والخبرة، بل ان يكونوا رواد أعمال في المجال السياسي، كما نظرائهم في الاقتصاد، ويسوقون لبضاعة، ولأنفسهم كبضائع. المستثمر او المقاول الجيد عند شومبيتر هو من يغامر أكثر، ويخاطر اكثر، وليس، كما عند فيبير، من يحاول تفادي الخسارة والمخاطرة أكثر، وهذا يجب أن ينطبق على الانتخابات أيضاً. الديمقراطية الانتخابية هي اذا عند شومبيتير حصيلة عقلانية لاجتماع لا عقلانيتين، واحدة عن الناخبين، والثانية عند المرشحين، وهذا بحد ذاته يعود فيضفي على الديمقراطية سحراً، ويمنحها دوراً على خطى إعادة تسحير العالم.
بيد ان فك السحر عن العالم لا يستقيم من دون فك السحر عن الديمقراطية نفسه، وهذه إلى حد كبير هي قضية عصرنا: كيف نفك السحر عنها من دون أن تتوارى معه. كيف لا نفكه تماماً. كيف نحمي سحرها. كي نحمي السحر من الأساس في عالم بلا سحر.
القدس العربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.