مَن يتتبع جل توصيات المنظمات الدولية التي تعنى بمسائل التنمية، سيرى أنها تدعو إلى ضرورة إصلاح بعض مظاهر الخلل الهيكلي في بعض الاقتصادات من خلال تخفيض النفقات وقيام دولها بوضع خطط اقتصادية شاملة قصيرة وطويلة الأجل، بهدف توجيه اقتصاداتها إلى أنشطة تساعد على تنويع مصادر دخلها القومي وتعددها والإسراع في جهود التنمية المستدامة… والعمل على زيادة الاهتمام بإنتاج المعرفة من خلال تهيئة البيئتين التشريعية والاقتصادية الملائمتين بما يؤدي إلى توفير الظروف المناسبة لهذا العنصر المهم الذي يمكن أن يوفر مصدراً آخر من مصادر الدخل؛ كما أن العديد من هاته التوصيات تتوقف عند ضرورة الاستثمار في العامل البشري، فمن دونه تضيع مصالح الشعوب والأجيال. فدول مثل اليابان وكوريا الجنوبية التي لا تملك أي موارد طبيعية استثمرت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في المورد البشري فأصبحت دولاً متقدمة، وأصبح البحث العلمي فيها متطوراً، وغدت دولاً يضرب بها المثل… فمن مسؤولية الجميع اليوم في الوطن العربي الاستثمار في العقول والإقدام على اتخاذ قرارات شجاعة لتحقيق الملائمة بين التكوين العلمي والمهني والتقني وبين مستلزمات الاقتصاد العصري، وتشجيع البحث العلمي والابتكار، والانخراط في اقتصاد ومجتمع المعرفة والاتصال. ومأسسة البحث العلمي وتوفير المناخ المؤسساتي له والموارد المالية الكفيلة هي التي جعلت الدول الصناعية تصل إلى ما وصلت إليه من تطور وتنمية في مجالات متعددة؛ وعندما يحدث فيها نقص أو تغيير سلبي نرى كيف أنها تخسر نقاطاً كبيرة في سلم الدول المتطورة. ففرنسا مثلاً لا تستثمر إلا 2.2 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي في البحث والتطوير، وهو أقل من بعض الدول الأخرى؛ وعلى الرغم من أن هذا الرقم يعتبر استثماراً كبيراً، فإنه أقل من بعض الدول الأخرى التي تضع ميزانيات أعلى للبحث العلمي مثل إسرائيل 5.5 في المائة وكوريا الجنوبية 4.9 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي؛ وهو أقل من التي تستثمر أكثر من 3 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي في مجال البحث العلمي والتكوين الجامعي مثل الولاياتالمتحدة الأميركية والسويد وسويسراواليابان والنمسا وألمانيا. وهو ما جعل فرنسا بشهادة كبار الخبراء تتأخر في السنين الأخيرة صناعياً وتنموياً. قد يقول قائل إنها مسألة موارد وأزمات مالية، وأنا أقول إنها مسألة إرادة. فبلجيكا مثلاً دولة صغيرة وكانت منذ أزيد من عقد ونصف العقد لا تستثمر إلا 2 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي في مجال البحث العلمي، أما اليوم فهي تستثمر 3.4 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي في هذا المجال؛ وهذا ما يجعل فرنسا تحتل المرتبة 17 عالمياً بعد أن كانت تحتل المراتب الأولى عالمياً؛ زد على ذلك أنها كانت تحتل المرتبة الثامنة عالمياً في مجال إنتاج المقالات العلمية المحكمة، فبدأت تحتل اليوم الرتبة 13 عالمياً. وهناك ملاحظة أخرى أود أن أسطرها في هذا التحليل، هو أن العديد من الوزراء والمسؤولين الاقتصاديين والسياسيين في الدول الغربية يكونون بعيدين عن أبجديات البحث العلمي المتطور، وهو ما ينعكس على سياساتهم العمومية؛ وقد بحثت مطولاً في إعطاء تفسير للتأخر الجزئي لفرنسا في مجال التصنيع فوجدت أن النخبة الحاكمة بعيدة عن عالم البحث العلمي. فالمدارس الكبرى التي تتخرج منها هاته النخبة الحاكمة لا يكمل فيها المتخرجون إعداد أطاريح الدكتوراه، ف30 في المائة من مهندسي كليات العلوم التقنية، و20 في المائة من مهندسي مدرسة المناجم وأقل من 10 في المائة من خريجي المدارس العليا للتجارة ومعاهد العلوم السياسية لا يكملون أبحاثهم في مسلسل الدكتوراه؛ وما زلت أتذكر أنني لمَا كنت أتابع دراستي في معهد العلوم السياسية بتولوز الفرنسية، لم نكن إلا أربعة طلبة من مجموعتنا المكونة من 30 طالباً من الذين ناقشوا دكتوراتهم. إن الثلاثية: جامعة – بحث علمي متمكن – صناعة، هي التي تبني الأمم المتقدمة وتقوي صناعاتها وتساهم في بناء الحاضر والمستقبل. فاليابان دولة مساحتها محدودة جداً ولكنها تمثل ثاني اقتصاد في العالم، ولا يخلو بيت من بيوتات العالم إلا وتجد آلة أو حاسوباً أو هاتفاً صنع في هذا البلد؛ فاليابان عبارة عن مصنع كبير قائم على ثلاثية: جامعة – بحث علمي متمكن – صناعة، وعلى سياسات عمومية ثاقبة في مجال الصناعات المتطورة والاستثمارات الواقعية، يستورد كل المواد الخامة لإنتاج مواد مصنعة تصدرها لكل أقطار العالم؛ ونأخذ بلدة أوروبية وهي سويسرا. فعلى الرغم من عدم زراعتها للكاكاو فإنها تنتج وتصدر أفضل شوكولاتة في العالم؛ كما أنه رغم طبيعة جغرافيتها وضيق مساحتها الزراعية فإنها تنتج أهم منتجات الحليب في العالم. الشرق الأوسط