الأستاذ محمد الصادق مقراني باحث في التاريخ في كل مرّة نستذكر مقولة ديدوش مراد، الذي قال يوما "إذا استشهدنا فدافعوا عن ذاكرتنا"، هي الذاكرة التي نعود إليها لنقف أمام تضحيات شهدائنا الأبرار وما قدّموه من تضحيات جسام لهذا الوطن، فمن واجبنا أن نتذكر هؤلاء الرجال الذين ضحوا بأنفسهم وبكل غال ونفيس من أجل أن ننعم بالأمن والحرية والاستقلال، ومن بين هؤلاء الشهيد دراع محمد الصادق، الذي استشهد وعمره لا يتعدى 29 سنة. ولد الشهيد محمد الصادق دراع في 27 جانفي 1932 بمدينة جيجل، تابع دراسته الابتدائية إلى أن تحصل على شهادة التعليم الإعدادي عام 1950، كانت رغبته متابعة التعليم بثانوية (كوليج) ببجاية، إلا أن إدارة هذه المؤسسة أغلقت أبوابها في وجهه بإيعاز من شرطة المباحث العامة لمدينة جيجل. توجه الشهيد إلى مدرسة تكوين المدرسين بقسنطينة ووهران عام 1952،حيث كان ينجح بتفوق في الامتحانات الكتابية ويقصى من الامتحان الشفوي، حينها أيقن بأن الاستعمار الفرنسي قد أغلق في وجهه أبواب المدارس التابعة له شأنه شأن بقية إخوانه الجزائريين. * نشاطه السياسي والثوري انخرط مبكرا في صفوف الكشافة الإسلامية بجيجل وتعاطف مع حركة انتصارات الحريات الديمقراطية، وكان يتابع باهتمام تطور النشاطات الحزبية وخاصة تلك التي كانت تنشط بمسقط رأسه، ومع اندلاع الثورة التحريرية سارع الشهيد للانخراط بها في 10 أوت 1955، حيث اتصل بالشهيد بومعزة محمد، الذي كلفه بإنشاء الخلايا الأولى للثورة بجيجل رفقة العديد من رفاقه. و في سنة 1957 عين كاتبا لمركز قيادة القسم الرابع- الناحية الثانية- المنطقة الأولى- الولاية الثانية . و في سنة 1958 يحوّل إلى الناحية الثالثة بالمنطقة نفسها، ليشغل منصب مسؤول الاتصالات والأخبار بالقسم الأول، وذلك إلى غاية 1960، ليعين بعدها مسؤولا سياسيا وعسكريا بالقسم الأول الناحية الثالثة- المنطقة الأولى – الولاية الثانية. أصيب الشهيد بجروح خلال إحدى المعارك التي خاضها ضد العدو بمنطقة فرجيوة، وتم علاجه في مستشفى جيش التحرير الوطني الكائن بدوار بني عافر التابع للناحية الثانية، عاد بعدها لمزاولة نشاطه العسكري بالمنطقة نفسها إلى أن وقع في كمين آخر نصب له من قبل العدو . * واجه العدو ببسالة وبندقيته بيده وفي 14 أفريل 1961 خرجت قوات العدو المتكونة غالبيتها من الحركى إلى مشاتي دوار الروسية ببلدية لعياضي برباس بولاية ميلة، فقاموا كعادتهم بعمليات التعذيب والاستنطاق والنهب والسلب والتخريب، وفي المساء عند عودتهم اصطدموا بمجاهدين اثنين، حيث أسفر الاشتباك عن استشهاد دراع محمد الصادق، المدعو الجيجلي، ونجا المجاهد رمضان شكرود، الذي لايزال على قيد الحياة.
و عن ظروف استشهاد البطل دراع محمد الصادق يقول رفيقه المجاهد شكرود رمضان " في صبيحة 13 أفريل 1961 كنت رفقة ستة مجاهدين، وهم الشهيد محمد الصادق دراع، المجاهد لعريبي أحمد، المدعو المروكي، المجاهد اسماعيل مقدم، المجاهد ابراهيم كوكو وآخر لا أتذكر اسمه مختبئين في إحدى المخابئ بالقرب من مشتة أولاد طاق بالروسية ببلدية لعياضي برباس، ننتظر حلول الظلام الدامس للخروج من مخبئنا ومواصلة طريقنا. وأثناء تواجدنا بالمخبأ سمعنا طلقات الرصاص ولم نكن نعرف ما كان يجري بالخارج، وعلمنا فيما بعد أن الحركى والقومية كانوا يقومون بحملة تمشيطية بالمنطقة، و مع حلول الظلام قرّرنا الخروج فرادى لمواصلة المسير واتجهنا إلى دار أحد المجاهدين بمشتة الكاف للتزود بالمؤونة، فكان لنا ذلك حيث أكلنا وشربنا. و عند مغادرتهم الدار، طلب المجاهد أحمد لعريبي، من سيدة كان يعرفها أن تقوم بوضع علامة بيضاء في حالة عدم مجيء عساكر فرنسا لمساكن الدوار، لأنه سوف يلجأ رفقة مرافقيه إلى مكان غير بعيد عن المشتة. و يواصل المتحدث ذاته حديثه قائلا: أكملنا طريقنا إلى أن وصلنا إلى مكان غير بعيد من مشتة اسوايب، وهو مقابل أيضا لمشتة الكاف، وكان هذا المكان يطل مباشرة على هذه الدار التي أوتنا وأطعمتنا، فانقسمنا إلى قسمين واختبأنا في مخبئين صغرين لأن عددنا لا يسع لذلك، كنت أنا رفقة الشهيد محمد الصادق دراع وأحمد لعريبي، أما البقية فكانوا في مخبأ آخر، نمنا ونهضنا على الساعة 11 صباحا فدار حديثا بيننا عن كيفية الخروج من مخبئنا، وفي الوقت نفسه، كنا نراقب ما يجري بالخارج ونقيم الحراسة بالتداول طيلة يوم 14 أفريل 1961. ويضيف المجاهد شكرود رمضان، قائلا: إن المرأة التي كلفها المجاهد لعريبي أحمد بوضع إشارة بيضاء في إحدى زوايا المنزل لم تقم بوضعها، ويعني أن مجموعة من الحركى والقومية قد جاؤوا للمشتة، حيث كان هؤلاء يترددون على المنطقة بكثرة بسبب تواجدهم الدائم وقيامهم بعملية شق الطريق بين السقيفة و لعياضي، وقد أكد ذلك أيضا أحد المجاهدين الذي كان يقوم بترصد تحركاتهم، فقررت الخروج من المخبئ، لأني كنت ملزما بالذهاب إلى مركز السقيفة لمقابلة سعاة البريد لمعرفة مجريات الأحداث بالمنطقة بصفتي مسؤولا عن الجهة، فقام الشهيد دراع محمد الصادق بمرافقتي غير أنه تخلف في السير، حيث كنت متقدما عليه ولم يتبعني فاتجه إلى مركز غير بعيد بمشتة الكاف وكان يظن أنه سيجد الشيخ العربي صاحب الدار لوحده، وعندما اقترب من المكان تفاجأ بوجود مجموعة من الحركى والقومية يقومون بتفتيش الدار، فانطلق مسرعا لينفذ بجلده فخرج هؤلاء الحركى مهرولين وكانوا يظنون أن جنود جيش التحرير قد حاصروهم، فارتبكوا في بداية الأمر ثم اكتشفوا أنهم ليسوا محاصرين، فبدأت أطلق عليهم وابلا من الرصاص حتى أقوم بتغطية الشهيد لكنهم صوّبوا رشاشاتهم نحوه لأنه كان في مكان مكشوف فتمكنوا من القضاء عليه. قاوم الشهيد مقاومة باسلة ولم يستسلم أمام عدد الحركى الكبير الذين حاصروه من كل مكان، إلا أن نفذت ذخيرته التي كانت بحوزته، أما أنا فقد تمكنت من الهرب وواصلت طريقي متجها لمركز السقيفة مرورا بمشة قرقوس بجبال الحلفاء.
* عائلة دراع سخّرت أفرادها لخدمة الثورة ترعرع الشهيد وسط عائلة ثورية عرفت بنضالها في الحركة الوطنية وعدائها للمستعمر الغاشم قبل اندلاع الثورة التحريرية المظفرة، أبوه البشير دراع كان مناضلا في صفوف حزب الشعب، سجن وعذب بالمكتب الثاني من قبل الرقيب روبار، المعروف في تلك الفترة بمدينة جيجل بأعماله الإجرامية. و للشهيد شقيقتين، الأولى حسينة المولودة في سنة 1936 والأخرى نسيمة المولودة في سنة 1937 كانتا من بين مؤسسي الخلايا النسوية الأولى للثورة بجيجل. قبض على حسينة أول مرة سنة 1957، مثلت أمام محكمة بجاية، حيث حكم عليها بستة أشهر سجنا، وبعد الإفراج عليها مباشرة عادت إلى النضال من جديد فألقي عليها القبض ثانية سنة 1958 فتعرضت للتعذيب أثناء استنطاقها من قبل عساكر المكتب الثاني بجيجل، وتمت عملية محاكمتها فيما بعد. أما نسيمة، فقد تمكنت من الهرب والتحقت بالثورة بجبال جيجل سنة 1958، حيث عينت من قبل الشهيد رويبح حسين كممرضة ومرشدة على مستوى المنطقة الأولى الولاية الثانية التاريخية، أصيبت بجروح لمرتين في عدة معارك خاضتها ضد العدو، تم القبض عليها فيما بعد من قبل عساكر فرنسا. وللشهيد أيضا شقيقين، وهما خير الدين، المولود سنة 1940، وهو من الطلبة الذين شاركوا في إضراب 19 ماي 1956، قبض عليه وسجن، وعبد المجيد، المولود سنة 1942، وهو الآخر من بين الذين انضموا للثورة، عذب هو أيضا من قبل الشرطة الفرنسية بسبب مشاركته في مظاهرات 5 جويلية 1961 بمدينة جيجل. هذا القليل من نضالات وتضحيات عائلة دراع البشير التي كانت من بين العائلات الجيجلية التي استجابت لنداء الثورة منذ بدايتها فضاقت ويلات التعذيب والتنكيل ودفعت كبقية الأسر الجيجلية المعروفة العديد من الشهداء. وللإشارة، فإن الشهيد دراع محمد الصادق، سميت باسمه متوسطة ببلدية عين البيضاء أحريش بولاية ميلة، تخليدا لمآثره وأعماله البطولية بالمنطقة، وكذا ثانوية بمسقط رأسه بمدينة جيجل. ليبقى الشهيد محمد الصادق دراع مثالا للتضحية والنضال، إذ يجب دوما التذكير بمناقب وأعمال هؤلاء الشهداء الذين وهبوا أنفسهم وأرواحهم من أجل تحرير الجزائر، والشهيد نموذج للعديد من النماذج أخرى، وما أكثرها في بلد فقد مليون ونصف مليون من الشهداء.