سايحي يُعوّل على المعهد الوطني للعمل    أوشيش يدعو لنبذ خطابات الفتنة    الجزائر لن تتسامح مع محاولات المساس بوحدة الوطنية    بن قرينة يشرف على لقاء بالعاصمة    حين يصبح الخطر داخلياً.. ترامب وتفكيك أميركا    أمحق ديمقراطية وأسحق حرية!    المفتاح الأساسي لإنهاء حرب السودان    فتاوى : سجل في موقع مراهنات وأعطوه هدية    من أسماء الله الحسنى .. الحليم    لجنة النقل تستمع إلى ممثلين عن وزارتي الداخلية والعدل    التوقيع على اتفاقيتين هامتين لدعم مشاريع البحث العلمي    الحدث العلمي يندرج في إطار جهود الدولة لحماية الأسرة    خنشلة : مظاهرات 11 ديسمبر 1960 تاريخ مشرف    الفريق أول شنقريحة ينصب المدير المركزي لأمن الجيش    اللعبان بركان وبولبينة ضمن قائمة"الخضر"في ال"كان"    أمطار رعدية معتبرة وثلوج بالمناطق الشمالية والشرقية    الصحافة المكتوبة نحو المجهول..!؟    اعتراف دولي جديد بريادة الجزائر    لن نسكت عن أي مخطط خبيث يستهدف منطقة القبائل    أطالبكم بالمزيد من الجهود المتفانية خدمة للوطن    السيادة ووحدة التراب الوطني خط أحمر    قضية الشّعب الصحراوي تحظى بالاهتمام    تحرك بغليزان لاحتواء فوضى التجارة العشوائية    حجز 6 أطنان من المواد الإستهلاكية الفاسدة    تيميمون تحتضن المهرجان الدولي للكسكس    بوعمامة يشارك في افتتاح المتحف الليبي    خدمة "أرقامي" تحمي الهوية الرقمية للمشتركين    بوقرة مُحبط ويعتذر    منصب للجزائر في اليونسكو    عصرنة 20 قاطرة وتزويدها بأنظمة متطورة    المخزن يواصل التورط في إبادة الشعب الفلسطيني    أبو يوسف القاضي.. العالم الفقيه    نحو إنتاج 150 ألف قنطار من البطاطا الموسمية بغليزان    بوقرة يعتذر وينهي مسيرته مع المحليّين بخيبة جديدة    "الأم الناجحة".. استعراض لخطوات الحفاظ على الموروث الوطني    ليفربول يحسم مستقبل محمد صلاح    اتحاد الحراش وجمعية الشلف ووفاق سطيف يحسمون التأهل    إضراب الطلبة يثير موجة تضامن واسعة    وزير العمل يدعو إلى اعتماد الرقمنة لجعل المعهد الوطني للعمل فضاءً مرجعيًا للتكوين المتخصص    احتلت المرتبة الأولى وطنيا..أم البواقي ولاية رائدة في إنتاج الشعير    غرداية.. إطلاق وتدشين مشاريع تنموية جديدة    عودة مفاجئة وثنائي جديد..بيتكوفيتش يعلن عن قائمة "الخضر " لكأس أمم أفريقيا 2025    الدور ال16 لكأس الجزائر:اتحاد الحراش يطيح بشبيبة القبائل، جمعية الشلف ووفاق سطيف يحسمان تأهلهما    بسبب مشاركة المنتخب الوطني في البطولة الافريقية للأمم-2026..تعليق بطولة القسم الممتاز لكرة إلى اليد    استحداث علامة مؤسّسة متسارعة    بوعمامة يشارك في اختتام ملتقى الإعلام الليبي    مسابقة لأحسن مُصدّر    سيفي غريّب يدعو إلى التوجه نحو فصل جديد    دربال يؤكّد أهمية تعدّد مصادر مياه الشرب    صالون دولي للأشغال العمومية والمنشآت الطاقوية بالجنوب    الجزائر تُنسّق مع السلطات السعودية    مظاهرات 11 ديسمبر منعطف فاصل في تاريخ الثورة    40 فائزًا في قرعة الحج بغليزان    الاستغفار.. كنز من السماء    الاستماع لمدير وكالة المواد الصيدلانية    صهيب الرومي .. البائع نفسه ابتغاء مرضاة الله    إجراء قرعة حصّة 2000 دفتر حج    إجراء القرعة الخاصة بحصة 2000 دفتر حجّ إضافية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«عودة اليهودي الضال»: أسئلة اجترار النمط
نشر في الاتحاد يوم 08 - 10 - 2017


صبحي حديدي
كان الفرنسي ألبير لوندر (1884 1932) أحد أبرز المشتغلين بصحافة التحقيق واسع النطاق؛ وقد سافر، لإنجاز تحقيقاته المثيرة، إلى أصقاع عديدة في أربع رياح الأرض، من صربيا وتركيا وألبانيا وروسيا البلشفية، إلى الصين والهند والمغرب العربي وغويانا والسنغال والكونغو، فضلاً عن بريطانيا وأوروبا الوسطى وفلسطين. وخلال تجواله في المواقع الثلاثة الأخيرة، أنجز 27 تحقيقاً مفصلاً عن أوضاع اليهود، نشرها ينة 1929 في جريدة «لو بتي باريزيان»، واسعة الانتشار آنذاك، في ذروة صعود موجات العداء للسامية؛ ثمّ جمعها، لاحقاً، في كتاب تحت عنوان «عودة اليهودي الضالّ». وثمة جائزة في فرنسا تحمل اسم ألبير لوندر، تأسست سنة 1933 وتُمنح للصحافي الأفضل، في ميدان التحقيقات ذات الطابع الجسور غالباً. والرجل بات قدوة في التفاني المهني عند صحافيين فرنسيين بارزين، من أمثال إدفي بلينل، رئيس تحرير موقع «ميديا بارت» الشهير، المستقلّ، والذي كان له قصب السبق في نشر تحقيقات بالغة الخطورة حول ملفات سياسية واقتصادية واجتماعية حساسة. وفي مناسبة صدور الترجمة الإنكليزية لكتابه «عودة اليهودي الضال»، مؤخراً، ليس أسوأ من أن يتمّ تجيير إرثه المميز، خاصة حول العداء للسامية، لصالح المزيد من تزييف التاريخ بصدد الهولوكوست؛ كما نلمس في سلسلة المراجعات التي تناولته، خاصة تلك التي وقّعها كتّاب يهود، أو يهود صهاينة. تأويلات أمثال بيير أسولين وبنجامن باليانت ودايان كول وأوسي ديف وبنجامن آيفري وسواهم، تنتهي، على نحو صريح أو آخر مبطن، إلى تكريس ذلك الانشطار الشاقولي في شخصية اليهودي: قبل الهولوكوست، وبعده، حين حصرته عذابات العداء للسامية في تنميط امرئ ذليل مستسلم، يُساق إلى أوشفيتز ومواقع المحرقة الأخرى هنا وهناك في أوروبا الشرقية؛ ثمّ، في التنميط الثاني، بعد تأسيس الاحتلال والاستيطان، حيث توجّب أن تصعد صورة «اليهودي الجديد»، مواطن دولة إسرائيل، ال»صبّاري» المقاتل، حسب الكليشيه المعتمدة في الأدلة السياحية الإسرائيلية، المشتقة سماته من نبتة الصبّار: شوكية صلبة في وجه الخارج، وطرية عصارية حلوة في الداخل! هنالك، مع ذلك، معضلة شائكة، لا تخلو من تناقض جلي يستدعي الحرج وبعض التلفيق: كيف يمكن استئصال الشخصية الأولى، الحزينة الكسيرة الباعثة على الإشفاق والرأفة؛ وفي الآن ذاته استمرار تحويل الهولوكوست في جوانبه المأساوية والكارثية التي تستدرّ الدموع بالضرورة إلى هوية لمواطن اليهودي، ول« اليهودية» ذاتها وفي ذاتها؟ أيضاً: كيف يمكن تحويل كوارث التاريخ اليهودي، وليس الهولوكوست وحده بالطبع، إلى «حكاية قومية» عن البطولة والمقاومة والفداء والصمود والنصر، بدل الدموع والعويل والبكاء والرثاء؟ الخيار حُسم، حسب باروخ كمرلنغ أستاذ علم الاجتماع في الجامعة العبرية، القدس المحتلة؛ حين جرى استبدال ثقافة الموت السلبي (مثال قلعة «مسادا» الحصينة، التي سقطت على يد القائد الروماني باسوس سنة 73 م، وكيف عمد اليهود المدافعون عنها إلى الانتحار الجماعي بدل الاستسلام)، بثقافة الموت الإيجابي دفاعاً عن إسرائيل (والأمثلة تتكاثر، بمناسبة أو من دون مناسبة)، وما يقترن بهذه الثقافة من ضرورات حبس الدموع. وثمة، إلى هذا، سلسلة «دروس تربوية» يتوجب أن تتعلمها إسرائيل/ ، المحتلة المتعسكرة المستوطنة العنصرية؛ وإسرائيل/ الشعب، أو «الأمّة» عند بعض صهاينتها، في مستوى الانتماء إلى العصر وحقائقه ومعطياته. ينبغي، مثلاً، الكفّ عن تأثيم الشعب الألماني كابراً عن كابر، بحجة أنه شعب يجري العداء للسامية في عروق أبنائه، وبالوراثة البيولوجية. وهذا، بالطبع، لا ينفي التبصّر في سؤال كبير رديف: «كيف أتيح لأمّة عظيمة، أنجبت أمثال غوته وشيللر، أن تنفّذ تلك الفظائع؟». كذلك، في مثال ثانٍ، تجب مراجعة، وربما التخلّي نهائياً عن، ذلك التأويل اليهودي الديني الأصولي، الذي يردّ الهولوكوست إلى فكرة تهديم الهيكل، وإلى «الكراهية الأزلية» المزعومة بين اليهودي والوثنيّ العام. وآن الأوان، في مثال ثالث، أن تُطوى نظرية إيلي فيزل التي ترفض أي وجه للمقارنة بين الهولوكوست وأيّ وكلّ مآسي الإنسانية، قديمها وحديثها: من إبادة الهنود الحمر (قرابة 70 مليون قتيل) إلى مذابح رواندا ربيع 1994 (قرابة مليون قتيل) كي لا نتحدّث عن فلسطين والعراق وسوريا واليمن… وفي المقابل، لا بأس البتة في مناقشة مختلف الآراء الأخرى التي تتصف بالحدّ الأدنى من الحجّة العقلية. المؤرخ البريطاني أ. ب. تايلور أعاد جذور الرايخ الثالث إلى مارتن لوثر، وذلك رغم أن الأخير كان وراء دمج «العهد القديم» في «العهد الجديد»، بحيث توحّد اللاهوت الديني الغربي في صيغة تراث يهودي مسيحي واحد. الألماني هانز أولريخ فيهلر رأى أنّ ألمانيا اختطت لنفسها طريقاً مختلفاً عن أمم أوروبا الأخرى (فرنسا وبريطانيا) منذ أواخر القرن التاسع عشر، وطوّرت بالتالي سلسلة خصائص تكوينية ذاتية مهدت الهياكل الاجتماعية والفلسفية والسياسية والإيديولوجية لولادة النازية. الماركسيون، من جانبهم، اعتبروا الهولوكوست مجرد مظهر من المظاهر الموروثة في الفاشية الأوروبية بصفة خاصة، والتي لا يمكن إلا أن تكون جزءاً من البنية الداخلية للنظام الرأسمالي نفسه. وأمّا المفكرة اليهودية حنّة أرندت فقد اعتبرت الهولوكوست تفصيلاً صريحاً فاجعاً، في تراث توتاليتاري عريض يضمّ النازية كما الشيوعية الستالينية والرأسمالية الوحشية، سواء بسواء. أخيراً، كيف بمعزل عن اجترار أسئلة التزييف العتيقة إياها ينطلي تجيير تحقيقات ألبير لوندر عن أوضاع اليهود المزرية خلال مطالع القرن العشرين؛ دون استعادة دور المؤسسة الصهيونية في إدامة عذاباتهم، وربما في صنتعة بعضها أيضاً؟ وكم من التجيير يحتاج أي تلفيق يسعى إلى التغطية على ذلك التواطؤ، المباشر الصريح، بين بعض القيادات الصهيونية وكبار ضبّاط الرايخ الثالث، خاصة أولئك الذين كانوا مسؤولين عن تصميم وتنفيذ ما عُرف باسم «الحلّ النهائي» لإبادة اليهود؟ وكيف جرى ويجري تسويق الهولوكوست لأسباب سياسية تطمس، وأحياناً تشطب تماماً، سلسلة الوقائع الإنسانية التي تسرد عذابات الضحايا وآلامهم وتضحياتهم؟ وكيف جرى الضغط على ضحايا الهولوكوست، وأحفادهم من بعدهم، للهجرة إلى فلسطين المحتلة رغم إرادتهم غالباً؟ وماذا، أخيراً وليس آخراً، عن «قضية كاستنر»، التي بدأت فصولها سنة 1945 حين بادر اليهودي الهنغاري مالكئيل غرينفالد (البالغ من العمر 71 سنة يومذاك، وأحد الناجين من الهولوكوست) على نشر كرّاس صغير يتهم فيه اليهودي الهنغاري رودولف كاستنر (القيادي الصهوني البارز وأحد أقطاب ال «ماباي»، حزب بن غوريون) بالتعاون مع النازيين خلال سنتَي 1944 و1945؟ سلسلة الوقائع التي سردها غرينفالد يتوجب أن يشيب لهولها الولدان من أحفاد الهولوكوست: لقد وافق كاستنر، بعد تنسيق مباشر مع الضابط النازي المعروف أدولف إيخمان قائد ال «غستابو»، على شحن نصف مليون يهودي هنغاري إلى معسكرات الإبادة؛ بعد أن طمأنهم كاستنر وبعض معاونيه إلى أنّهم سوف يُنقلون إلى مساكن جديدة، حتى أنّ البعض منهم تسابقوا إلى صعود القطارات بغية الوصول أبكر، والحصول على مساكن أفضل! وكان الثمن، في المقابل، هو إنقاذ حياة كاستنر وبعض أقربائه، وغضّ النظر عن هجرة 1600 يهودي إلى فلسطين. يبقى، بعد الوقائع الدامغة في وجه التنميط المضلل، أنّ تحويل «عودة اليهودي الضالّ» من كتاب وسلسلة تحقيقات نزيهة، إلى كراس دعائي صهيوني جديد، على غرار سفينة «الخروج» ورواية ليون أوريس وفيلم أوتو بريمنغر؛ يحتاج إلى ما هو أشدّ حذلقة ومكراً من مجرد إعادة تدوير المستهلَك، واجترار المجترّ!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.