أفشل الشعب التركي انقلابا عسكريا كاد أن يطيح بنظام الرئيس رجب طيب أردوغان، بعد أن خرج إلى الشوارع متصديا لمئات الدبابات التي حاصرت الهيئات الرسمية والمواقع الحساسة في مختلف المدن التركية بنية الانتهاء مع حكم حزب العدالة والتنمية الإسلامي. النداء الذي وجهه الرئيس اردوغان باتجاه الشعب التركي للخروج إلى الشوارع كان كافيا لأن يزرع الشك وسط مدبري المحاولة الانقلابية الذين فوجئوا بردة فعل شعبية ولم يكونوا يعتقدون أن الأتراك سيخرجون بالآلاف لإرغامهم على العودة إلى ثكناتهم، ضمن تصرف زادهم اقتناعا أن مسعاهم مآله الفشل المحتوم. حتى الرئيس اردوغان عندما وجه نداءه لم يكن هو الآخر متأكدا من تلبية أنصاره لمطلبه والمغامرة بصدور عارية أمام أفواه مدافع الدبابات والطائرات المروحية عكسته اللهجة الخافتة التي كان يدعو فيها الشعب إلى رفض منطق العسكر قبل أن يرفع من حدتها بمجرد أن رأى طلائع أنصاره يتوافدون تباعا على الساحات العمومية في مختلف المدن الكبرى رافضين منطق لغة السلاح والعودة إلى الوراء. طوى الرئيس التركي بعد هذه التجربة المريرة صفحة لم يكن يعتقد أنها ستواجهه وهو الذي انتخب بأغلبية ساحقة وبعد أن اعتقد أنه الرجل القوي في بلد تمكن منذ وصوله إلى سدة الحكم من تحرير تركيا من القوى العلمانية المحافظة وأبعد جنرالات الجيش المناوئين له وكرس مبدأ الديمقراطية وحرر المبادرة الاقتصادية بطريقة جعلت بلاده ترتقي سلم الدول الصناعية من أسفله إلى المرتبة الخامسة عشرة بفائض ميزانية قياسي وبناتج داخلي خام انعكس على رفاه المواطن التركي البسيط الذي تحول من شريحة الفقراء إلى شريحة الطبقة المتوسطة. يمكن القول أن ذلك ما شفع للرئيس التركي وحزب العدالة والتنمية في تجاوز هذا "الامتحان المحنة" بعد أن اقتنع التركي البسيط أن العودة إلى زمن حكم العسكر سيعيده حتما إلى سنوات الفقر والفاقة. وعاشت تركيا ليلة شك لم يفهم فيها الأتراك ما يحدث وهم يرون مئات الطائرات تحلق في أجواء العاصمة أنقرة ومدينة اسطنبول قبل أن تخرج الدبابات إلى الشوارع في مشهد لم تتعود عليه أجيال الأتراك الحالية واعتقدوا أنه أصبح في حكم الماضي بانتهاء حكم الجنرالات. شكل فشل الانقلاب انتصارا للشعب التركي وحتى بالنسبة لأحزاب المعارضة وأجنحة في مختلف القوات المسلحة التي رفضت كسر عصا الطاعة ضمن ثالوث كرس الممارسة الديمقراطية في بلد لم يعد سكانه يريدون العودة الى عصر الانقلابات التي ميزته سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. كلها عوامل جعلت التساؤل يطرح حول دوافع الانقلابيين لخوض مغامرة غير محسوبة العواقب حتى وإن رفعوا شعار فرض الديمقراطية ودولة القانون؟. كانوا مجموعة عسكريين خذلهم انعدام التنسيق والتضامن مع أغلبية وحدات الجيوش التركية وأعطوا الاعتقاد أن ما يقومون به مجازفة غير محسوبة العواقب نهايتها الفشل المحتوم. فماذا يمثل تمرد ألفي عسكري من إجمالي تعداد جيش قوامه نصف مليون مجند في مختلف القوات وجهاز أمن شكل قوة مضادة أخلطت عليهم حساباتهم وأرغمتهم في النهاية على الاستسلام في مشهد لا يشرف أي عسكري مهما كانت رتبته؟! فهل يعني ذلك أن الرؤوس المدبرة للانقلاب عندما لم يجدوا السند والدعم المرجو من قياداتهم لم يجدوا بدا سوى مواصلة المغامرة على اعتبار أن الرجوع إلى الوراء أصبح مستحيلا داخل مؤسسة قاسمها المشترك الانضباط وانصياع المرؤوس لرئيسه ضمن قاعدة "نفذ ثم احتج". لا يعني هذا القول أبدا أن الانقلابيين لم يخططوا لمحاولتهم، حيث راعوا صيرورة تفاعلات السياق الدولي في أوروبا والعالم، حيث تم ربطها بدور تركيا التي ألقت بكل ثقلها في الحربين الدائرتين في سوريا والعراق ودخولها حربا مفتوحة ضد حزب العمال الكردستاني وفي وقت مازال فيه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تحت وقع صدمة خروج بريطانيا من تحت مظلة الاتحاد الأوروبي ثم محاولة الدول الآسيوية والأوروبية بحث مستقبل علاقاتها والعمل على تعزيزها من خلال عقد قمة العاصمة المنغولية ألان باتور، قبل أن تأتي عملية مدينة نيس الفرنسية لتشكل الحلقة المواتية لعملية انقلابية كان يسود الاعتقاد أن نهايتها النجاح المحتوم. بغض النظر عن النهاية التي عرفتها هذه المحاولة وعمليات التطهير التي سيعرفها الجيش التركي، فإن ملابسات الانقلاب تدفع إلى التساؤل من جهة أخرى حول سر عدم تفطن أجهزة الأمن العسكري التركي لتحضيرات عملية بهذا الحجم والخطورة إلى الحد الذي جعل الحكومة التركية تبقى مشدوهة وهي ترى تلك الوحدات تغزو الشوارع وجعل حتى عامة الناس لا يفهمون شيئا حول ما يحدث من حولهم؟. وبقدر ما شكلت العملية الانقلابية الفاشلة ضربة قوية لتجانس أقوى مؤسسة دستورية في تركيا بالنظر إلى درجة الشك التي ستدب بين أفرادها حول ولاء هذا وعداء الآخر فإنها كانت في المقابل انتصارا كبيرا للرئيس أردوغان الذي تأكد من شعبيته وراح يؤكد أنه منتخب ديمقراطيا من طرف 45 مليون تركي ضمن رسالة قوية بأنه لا توجد هيئة قادرة على زحزحته مهما كانت قوتها وحتى وان كانت مؤسسة الجيش. وهي أيضا تجربة سيحفظها الجيش التركي وسيكون تاريخ 15 جويلية تاريخا مرجعيا له بعد أن يقتنع كل عناصره أن زمن الانقلابات قد ولى وأن العسكري مهما كان سيخضع لإرادة المدني الذي عينه. وهو انتصار سيجعل أردوغان يعزز تصوراته لفرض النظام الرئاسي الذي يسعى إلى إقامته تعزيزا لصلاحياته وإخضاع كل الهيئات لسلطاته بما فيها القوات المسلحة وتفادي أية قلاقل أخرى لاحقا. العالم تحرك من أجل.. الشرعية توالت ردود الأفعال الدولية المنددة بالمحاولة الانقلابية ضد نظام الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أبدت من خلالها معظم العواصم انشغالها لما جرى في تركيا من تطورات. وسارع الرئيس الامريكي، باراك اوباما، إلى تأكيد مساندته للرئيس التركي وحث كل القوى السياسية في تركيا على دعم "الحكومة المنتخبة ديمقراطيا" بقيادة الرئيس رجب طيب اردوغان. وطالب بيان البيت الأبيض كل القوى التركية إلى ضبط النفس وتفادي كل عمل عنف وتفادي حدوث حمام دم". وطالب الأمين العام الاممي، بان كي مون، بعودة سريعة وسلمية للسلطة المدنية في تركيا وقال إنه يرفض كل تدخل للعسكريين في شؤون أية دولة". وطالب الاتحاد الأوروبي، من جهته، في بيان أصدره بعودة فورية للنظام الدستوري في تركيا. وأكد رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك ورئيس اللجنة الأوروبية، جون كلود جونكير ورئيسة الدبلوماسية الأوروبية فديريكا موغريني في بيان مشترك أنهم يتابعون عن كثب تطورات الأحداث في تركيا التي تبقى حليفا استراتيجيا للاتحاد الاوروبي. وعبرت فيدرالية روسيا، من جهتها، عن "قلقها البالغ" من تطورات الوضع في تركيا. وأكد ناطق باسم قصر الكريملين أن الرئيس فلاديمير بوتين يتابع التطورات في هذا البلد لحظة بلحظة. ودعا جونس ستولتنبيرغ الأمين العام للحلف الأطلسي الأطراف التركية إلى التزام الهدوء وإلى احترام المؤسسات المنتخبة ديمقراطيا في تركيا. وهو النداء الذي وجهته السلطات الفرنسية التي حرصت على التأكيد على ضرورة تفادي كل أعمال عنف واحترام النظام الديمقراطي. أما الوزير الأول اليوناني الكسيس تسيبراس فقد أكد دعمه للحكومة التركية المنتخبة ديمقراطيا. أما السلطات الإيرانية فقد أعربت عن قلقها البالغ للتطورات التي عرفتها تركيا مؤكدة أن الاستقرار في جارتها يبقى أولوية ملحة.