في أقصى الشمال الشرقي من الجزائر حيث تعانق الجبال البحر، وتتمايل أشجار الكينا مع نسيم المتوسط، تتربّع عنابة عروس الساحل الجزائري، حاملة في تفاصيلها عبق التاريخ، وعمق الحضارات. إنها المدينة التي جمعت بين دفء الشرق وأناقة البحر الأبيض، المدينة التي لا تكتفي بجمال الطبيعة، بل تفوح من أحيائها وبيوتها رائحة الأصالة والتقاليد، خاصة حين يدقّ موسم الأعراس، وتعلو الزغاريد، وترتفع أصوات "الفقيرات" ، معلنةً قدوم ليلة من ليالي المجد النسوي والعائلي... "ليلة الحنّة". عنابة أو "بونة" كما يسميها أهلها الأصيلون، لا تشبه غيرها في طقوسها، فكلّ ما فيها له نكهة خاصة؛ من لهجة سكانها، إلى لباس نسائها، إلى حنّتها التي لا تُعد مجرد تقليد، بل مرآة لهوية مجتمع بأكمله، وطقس تتوارثه الجدات، وتحرص عليه الأمهات، ويُزفّ فيه الحلم إلى الواقع، وتُكتب فيه أولى حروف الحياة الجديدة للعروسَين معاً. طقوس تبدأ بالقلب وتنتهي بالذهب في عنابة، الحنّة ليست مجرد صبغة تُخضب بها الأيدي، بل هي موروثٌ ثقافي، ومشهد احتفالي مكتمل التفاصيل، وعنوان للبركة، والطهارة، والفرح. لا يمكن أن تكتمل فرحة العروس دونها. ولا يُتصوّر أن يُختتم موسم الزواج أو الختان دون نكهتها، ولونها، ورائحتها الممزوجة بالزهر والعطور الشرقية. ومنذ عقود طويلة يحتل طقس الحنّة مكانة مقدّسة في الموروث الشعبي العنّابي، بل هو أهم مرحلة رمزية قبل الزفاف. وتُجهّز له العائلة بكل عناية ودقة، حيث تبدأ التحضيرات قبل أيام. وتُحضَّر الصواني والأطباق الخاصة. وتُختار النساء اللائي سيتولين خلط الحنّة، وهي مهمة لا تُعطى لأيٍّ كان، بل تُسند غالبا إلى الجدّات، والنساء المسنّات؛ باعتبارهن حافظات سرّ "الخلطة" ، وناقلات البركة عبر الأجيال. زيٌّ ملكي يليق بليلة الحنّة في تلك الليلة التي تنتظرها العروس بشوق، تتحوّل من فتاة إلى ملكة تُتوَّج بالتقاليد، تلبس ما يُعرف ب"الدلالة العنابية" . وهي لباسٌ تقليدي فخم لا يُلبس إلا في المناسبات الكبيرة. ويتكوّن من: قندورة الفتلة العنابية المطرزة بخيوط الذهب الرفيعة بلون عنّابي فخم، والقاط العنابي الذي يُرمز به إلى العزّ والفخامة. والشاشية المطرزة التي توضع على الرأس، وتُعد رمزًا للجاه. ومجوهرات تقليدية من الذهب الخالص؛ مثل "الجبين"، و"الخلخال"، و"الخواتم"، التي تزيد من جمالية العروس. وفراش الذهب: وهو غطاء تراثي فاخر يوضع على العروس، يرمز إلى مكانتها في العائلة، وغلاوتها عند أهلها. وتجلس العروس في وسط الغرفة، محاطة بقريباتها، وتُحضَّر لها الحنّة في صحن أبيض بلّوري، يُزيَّن بالشموع الملوّنة، والورود، وقطع الحلوى التقليدية مثل "المقروط" و"الصامصة". حنّة العروس: ذهب، دعاء، ورجاء حين تضع النساء الحنّة في يدَي العروس لا يكتفين بالتزيين فقط، بل يرافق الأمر طقوس دعائية، حيث يُتلى عليها دعاء بالستر، والرزق، والخلَف الصالح، والراحة في بيت الزوج. وتوضع في راحة يدها اليمنى قطعة من الذهب من نوع "لويز"، وهي عملة تقليدية قديمة ترمز للرخاء. ويُعتقد أنها تجلب الحظ الجيد، وتحفظ العروس من الحسد والعين. وغالبا ما يتم لفّ يدَي العروس بقطعة من قماش الحرير أو الدانتيل. وتُترك الحنّة تتغلغل ببطء في الجلد، في عملية ليست جمالية فقط، بل روحية، وممتلئة بالمشاعر، لأنها اللحظة التي تدرك فيها العروس أنها على أعتاب حياة جديدة. "حنّة العريس"... الفرح الرجولي بطابع تراثي كما للعروس حنّتها فإن للزوج نصيب من هذه الطقوس. تُقام سهرة خاصة تُعرف باسم "حنّة العريس"، يحضرها أصدقاؤه وأقاربه و"الجبرانة" . وهي مناسبة يُعبّر فيها الرجال عن فرحتهم بالزوج. تُقدَّم له الحنّة في صحن " بلار " أبيض. وتوضع له في أحد أصابعه، عادة الخنصر؛ تعبيرا عن بداية مرحلة الرجولة. ثم تُوزّع الحنّة على الحاضرين، خاصة العزاب، في تفاؤل شعبي واسع بأن تُسرّع لهم الحنّة من زواجهم. وتعمّ الأجواء الأهازيج والزغاريد، ورائحة الزهر والبخور. ويُقدَّم الشاي والحلويات في طقس اجتماعي متكامل. الحنّة والسحر... الخوف من القلوب المريضة رغم فرحة هذه الليلة إلا أن أهل عنابة يتعاملون مع الحنّة بحذر بالغ؛ لأنهم يؤمنون بقوة طاقتها الروحية، ويخشون من استغلالها في السحر أو الشعوذة؛ لذلك تحرص العائلات على ألا يأخذ أحد شيئا من الحنّة خارج البيت. وتُدفن بقاياها أو تُرمى في أماكن محددة، في تقليد متوارث لحمايتها من الاستخدام السيئ. حنّة الختان... رمز السيف والرجولة وحتى في ليلة الختان لا تغيب الحنّة عن المشهد؛ فهي تُوضع في إصبع الطفل الذي سيُختن في ليلة تسبق يوم الختان، حيث تجتمع العائلة، ويُقام احتفال مصغّر. وتقوم الجدّة أو الأم بوضع الحنّة في إصبع الصغير وسط زغاريد الحاضرات. وتُزيَّن الغرفة بالشموع والورود. وهذا الطقس يُمثّل رمزية سيف الإسلام. ويُعبر عن دخول الطفل في عالم الرجولة، والتكليف الديني.