ما عدنا نقرأ "شفاه غليظة" ولا "شماريخ" ولا "نبوت الخفير"، ولا غيرها من القصص المتينة السبك التي وضعها الأديب المصري محمود تيمور (1894-1973م) خلال النصف الأول من القرن العشرين، ضاع هذا الكاتب في الزحمة كما يقال، مثلما ضاع غيره من عظماء الأدب الذين لم تمسسهم الشهرة بعصاها السحرية، وما أكثر ما يضيع العظماء في دارتنا العربية في زمننا هذا! محمود تيمور هو في الحقيقة قرين الكاتب الفرنسي جي دو موباسان في مضمار القصة القصيرة، وهو أيضا قرين تشيكوف الأديب الروسي، وقرين الأديب الأمريكي أو.هنري. كلهم جاؤوا في فترة واحدة تميزت بتسارع الكشوف العلمية في أخريات القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، وإذا كان فن القصة القصيرة قد ولد قبل تلك الفترة في عدد من الأوساط الأدبية الأوروبية، فإنه رسخ كفن طويل الباع بظهور أولئك العظماء من الكتاب القصصيين في اللغات الأوروبية، كما أنه رسخ في الساحة الأدبية العربية بفضل محمود تيمور في المقام الأول. وقد نسي القراء العرب والباحثون من أهل النقد والتاريخ الأدبي هذا الكاتب تماما مثلما نسي الفرنسيون وأهل الأدب الكاتب النابغة أناتول فرانس، صاحب القلم الرشيق والروايات الجميلة ذات اللغة الرائقة الرفيعة. محمود تيمور، رغم بعض المنتقدين، يظل صاحب أسلوب عربي متين، استطاع بفضله أن يعبد الطريق دون الكتاب القصصيين الذين جاؤوا بعده، ففي وقت كان كتاب القصة يبحثون عن طريقة لنقل الحوار العامي إلى اللغة العربية الفصيحة، وتقصر بهم هممهم عن إيجاد المقابلات اللغوية العربية لمثل هذا الحوار، ما كان محمود تيمور يجد صعوبة في نقل أدق تفاصيل الحياة الشعبية المصرية إلى اللغة العربية بفضل تحكمه في هذه اللغة واطلاعه على الآداب الأوروبية. في مرحلة الشباب الأول، قرأت معظم ما كتبه هذا القصصي، واستحسنته بطبيعة الحال، لأنني كنت في تلك المرحلة أبحث عن طريقة في الكتابة تمكنني من نقل مجريات الحياة اليومية والشعبية الجزائرية إلى اللغة العربية، وقرأت بعده كتابات العبقري يحيى حقي ونجيب محفوظ وصولا إلى يوسف إدريس وزكريا تامر وغيرهم من فطاحل الكتابة القصصية القصيرة، ولعل الساحة الأدبية العربية تغيرت تغيرا كليا في زمننا هذا، إذ ما عدنا نشهد نفس الزخم القصصي الذي تميزت به خلال النصف الأول من القرن العشرين، فقد تحول كتاب القصة القصيرة أنفسهم إلى كتابة الرواية ظنا منهم أن المجد لا يمكن أن يجيء إلا عن طريق الكتابة الروائية والنفس القصصي الطويل، ولعلهم اتبعوا في ذلك سيرة ما يحدث في الأدب الأوروبي الحديث، أجل، القصة القصيرة في هذا الأدب تكاد تكون ميتة رغم تشجيع ناشري الصحف في المقام الأول، وبعض دور النشر الأخرى، أما في الولاياتالمتحدة فإن هذا الفن ما زال مزدهرا، بل إنه ينافس الرواية الطويلة، والمجلات المتخصصة والملاحق الثقافية تفرد صفحات عديدة للمتميزين ولغير المتميزين في هذا الفن. كان محمود تيمور طفرة أدبية بحق، وسيظل منارة في الفن القصصي رغم لجوء بعض الكتاب إلى السهل في مضمار الكتابة والنشر معا، وأنا أتمنى اليوم أن أعيد قراءة جميع ما كتبه، لا لأنه رائد هذا الفن الجميل فحسب، بل لأنه يعيد إلي صورا جميلة من الزمن الماضي ومن اجتهادي في سبيل التحصيل العلمي والأدبي.