أحزاب نفتقدها حتى خارج السرب..!؟    ياسين وليد ينصب عشاشة مديرا لوكالة دعم المقاولاتية    حوالي 42 ألف مسجل للحصول على بطاقة المقاول الذاتي    مشروع "بلدنا" لإنتاج الحليب المجفف: المرحلة الأولى للإنتاج ستبدأ خلال 2026    بطولة العالم للكامبو: الجزائر تحرز أربع ميداليات منها ذهبيتان في اليوم الأول    هلاك 44 شخصا وإصابة 197 آخرين بجروح    سكيكدة : رصد جوي لأشخاص يضرمون النار بغابات تمالوس وسكيكدة    اسبانيا تعلن حجز أكبر شحنة مخدرات منذ 2015 قادمة من المغرب    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: حضور لافت في العرض الشرفي الأول للجمهور لفيلم "بن مهيدي"    حج 2024 :استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    الفريق أول السعيد شنقريحة يترأس أشغال الدورة ال17 للمجلس التوجيهي للمدرسة العليا الحربية    الجزائر العاصمة.. انفجار للغاز بمسكن بحي المالحة يخلف 22 جريحا    المركز الوطني الجزائري للخدمات الرقمية: خطوة نحو تعزيز السيادة الرقمية تحقيقا للاستقلال التكنولوجي    معسكر.. انطلاق المسابقة الوطنية الثانية للصيد الرياضي والترفيهي بالقصبة بسد الشرفة    المهرجان الوطني "سيرتا شو" تكريما للفنان عنتر هلال    معسكر : "الأمير عبد القادر…العالم العارف" موضوع ملتقى وطني    من 15 ماي إلى 31 ديسمبر المقبل : الإعلان عن رزنامة المعارض الوطنية للكتاب    اجتماع لتقييم السنة الأولى من الاستثمار المحلي في إنتاج العلامات العالمية في مجال الملابس الجاهزة    بطولة العالم للكامبو: الجزائر تحرز أربع ميداليات منها ذهبيتان في اليوم الأول    بحث فرص التعاون بين سونلغاز والوكالة الفرنسية للتنمية    السيد مراد يشرف على افتتاح فعاليات مهرجان الجزائر للرياضات    جامعة بجاية، نموذج للنجاح    رئيس الجمهورية يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    السفير بن جامع بمجلس الأمن: مجموعة A3+ تعرب عن "انشغالها" إزاء الوضعية السائدة في سوريا    شهداء وجرحى مع استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزة لليوم ال 202 على التوالي    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: فيلم "بنك الأهداف" يفتتح العروض السينمائية لبرنامج "تحيا فلسطين"    انطلاق الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر للرياضات    إستفادة جميع ولايات الوطن من خمسة هياكل صحية على الأقل منذ سنة 2021    السيد دربال يتباحث مع نظيره التونسي فرص تعزيز التعاون والشراكة    السيد بوغالي يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    حج 2024: آخر أجل لاستصدار التأشيرات سيكون في 29 أبريل الجاري    شلغوم العيد بميلة: حجز 635 كلغ من اللحوم الفاسدة وتوقيف 7 أشخاص    رئيس أمل سكيكدة لكرة اليد عليوط للنصر: حققنا الهدف وسنواجه الزمالك بنية الفوز    "الكاف" ينحاز لنهضة بركان ويعلن خسارة اتحاد العاصمة على البساط    خلال اليوم الثاني من زيارته للناحية العسكرية الثالثة: الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي    السفير الفلسطيني بعد استقباله من طرف رئيس الجمهورية: فلسطين ستنال عضويتها الكاملة في الأمم المتحدة بفضل الجزائر    معرض "ويب إكسبو" : تطوير تطبيق للتواصل اجتماعي ومنصات للتجارة الإلكترونية    رئيس الجمهورية يترأس مراسم تقديم أوراق اعتماد أربعة سفراء جدد    نحو إنشاء بوابة إلكترونية لقطاع النقل: الحكومة تدرس تمويل اقتناء السكنات في الجنوب والهضاب    حلم "النهائي" يتبخر: السنافر تحت الصدمة    تسخير 12 طائرة تحسبا لمكافحة الحرائق    بطولة وطنية لنصف الماراطون    القيسي يثمّن موقف الجزائر تجاه القضية الفلسطينية    هزة أرضية بقوة 3.3 بولاية تيزي وزو    الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين الدوليين إلى تمويل "الأونروا"    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    "المتهم" أحسن عرض متكامل    دعوة لدعم الجهود الرسمية في إقراء "الصحيح"    العدالة الإسبانية تعيد فتح تحقيقاتها بعد الحصول على وثائق من فرنسا    معركة البقاء تحتدم ومواجهة صعبة للرائد    اتحادية ألعاب القوى تضبط سفريات المتأهلين نحو الخارج    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تقويم عام لكسب الحركة الإسلامية المغاربية
نشر في المواطن يوم 09 - 04 - 2009

من المهم أن نشمل المنطقة المغاربية بنظرة مجملة لكسب حراكها الإسلامي منذ انطلاقته في بدايات السبعينيات من القرن المنصرم.
1- بنوع من الإجمال والتجوز يمكن أن نسجل بيقين انتصار معركة الهوية الإسلامية العربية في جملة هذه الأقطار الثغور المحاطة بأمم غربية كبرى ذات أطماع فيها، وحاولت أكثر من مرة استلحاقها وابتلاعها.
لقد أدركت الحركة الإسلامية هذه المنطقة وقد نجحت حركة التغريب أو العلمنة في تهميش الإسلام وحضارته وحصره في العالم القديم، بينما العالم الحديث من مدارس وجامعات ومنتديات وإدارة ومال قد قطعت شوطا بعيدا من التفرنس واستكمل عهد الاستقلال في كل من المغرب وتونس فرنستها، حتى كان الخطاب الطلابي في الجامعات خلال الستينيات وشطر من السبعينيات قد تمحّض للغة الفرنسية، إلا أنه منذ نهاية السبعينيات وبعودة الاتجاه الإسلامي القوي نجح في فرض العربية لغة الخطاب الطلابي، ولم تمر غير عشرية حتى تمكنت الحركة الإسلامية بفضل الله من إعادة الإسلام إلى قلب الحداثة ليكون الموقف منه هو موضوع الصراع الرئيس، واستمرت عودته تتأكد في قلب ساحات الحداثة ومعاركها: الحداثة السياسية والاجتماعية والثقافية.
ورغم ما استهدف به من كيد (بدرجات مختلفة) بلغت حد الاستئصال، يمكننا بيقين التأكيد اليوم أن الإسلام قد كسب معركة الهوية حتى عاد نظام علماني شرس كالذي يحكم تونس ينافس على الشرعية الدينية ساعيا للحصول على أسهم من أرصدة الصحوة عبر فتح قنوات إعلامية إسلامية وتوجيه الدعوة إلى رموز الإسلام السياسي مثل الشيخين القرضاوي والعودة لزيارة تونس.
2- ومع ذلك لا تزال المعركة الثقافية محتدمة بين دعاة التعريب وحماة التفرنس على امتداد المنطقة المغاربية (عدا ليبيا) لا تكاد تحرز تقدما خطوة حتى يتم التراجع عنها. بعد نصف قرن من الاستقلال لا تزال الفرنسية سيدة الموقف في الإدارة وشؤون المال وفي التعليم الجامعي والثانوي وحتى التعليم الابتدائي، بل تم التراجع عن برنامج التعريب في الجزائر بعد الانقلاب على الجبهة الإسلامية 1992، ولم تنجح مشاركة إسلاميين آخرين بالتشريعي والتنفيذي في المحافظة حتى على ما كان قد تحقق. ربما يحاجون بأنه دون مشاركتهم التراجع سيكون أفدح، ربما.
وفي تونس طبقت سياسة استئصالية على التيار الإسلامي وسياسة تجفيف الينابيع على كل ما يمت للإسلام بصلة، حتى تحولت الصلاة سنوات طويلة علامة تصنيف سياسي وحظر الحجاب ولا يزال، وصودرت الكتابات الإسلامية حتى التراثي، حتى إن شيوعيا قد نصب مسؤولا عن الشؤون السياسية في وزارة الداخلية، قد تبجّح أنه لم يعد يقرأ في البلاد كتاب إلا بعد إذنه، وذلك بعد الانقلاب على نتائج انتخابات 1989 التي فازت فيها حركة النهضة بأغلبية الأصوات، فتقرر تزييف النتائج ومعاقبة الفائزين بالاستئصال.
ولا يزال الوضع التونسي محكوما بنتائج تلك الانتخابات التي رجت النظام بقوة وهو يتلمّس خطاه نحو إحكام قبضته على البلاد، فلم يهضم تلك الطفرة، وأقدم وهو في حالة ذهول على شطب النتائج والتضحية بشعارات التغيير التي يحملها، وقرر تصفية هذا الخصم المتعذر استيعابه ضمن الأوعية الضيقة المعدّة. وظلت تلك الصدمة تمثل كابوسا متحكما في جملة سياسات السلطة، لتتحول عداوتها للتيار الإسلامي العقيدة الأساسية للدولة. وجاءت الأحداث الخارجية لترسخ أقدامها على هذا الطريق بدءا بالانقلاب على الجبهة الإسلامية في الجزائر وصولا إلى 11 سبتمبر/ أيلول مرورا بكل أحداث الإرهاب.
أما الجزائر فهي الأخرى لا تزال محكومة بكوابيس انتخابات 1992 التي انقلب عليها العسكر، زاجين البلاد في أتون من الفتن ضمن مناخات اجتماعية تمور بالغضب تتحرك على أرضية مشبعة بثقافة ثورية متجذرة، طالما احتضنتها الجغرافيا وأمدّتها بالحماية. لقد مر أزيد من عقد ونصف العقد على ذلك الانقلاب الرهيب، فتعرضت الجزائر لكوارث عظمى بذريعة حمايتها من الخطر الإسلامي، ولا يزال الكابوس المتحكم في عسكرها المنقلب على إرادة الشعب وفي ملحقاته المدنية، هو الهروب من العودة إلى شبح الجبهة.
لقد جربوا كل السياسات واستبدلوا عديد الرؤساء وأجروا سلسلة من الانتخابات ورفعوا لواء مشاريع المصالحات مع الجميع بما في ذلك حملة السلاح، ولكنهم سدّوا كل سبيل لعودة الجبهة ورموزها إلى ساحة السياسة في أي صورة، بما يشبه الإعدام السياسي المؤبد، بما يؤكد الطبيعة الاقصائية الأمنية المتحكمة.
لقد عرفت الجزائر منذ التسعينيات حتى الآن خمسة رؤساء ومئات من الوزراء، ولكن شخصية واحدة لم تتحرك من موقعها قيد أنملة: لقد ظل رئيس الاستخبارات العسكرية في موقعه لا يبرحها، شاهدا لا يخطئ على موقع السلطة الحقيقية.
لقد تعاون كل المشاركين في المسرحية السياسية على انتزاع شبح الجبهة من الأذهان، ولكن جاءت أحداث غزة لتعيد عقارب الساعة إلى بداية التسعينيات وكأن شيئا لم يحدث، إذ قاد علي بلحاج وإخوانه مسيرة مليونية رفعت نفس الشعارات. الشعوب لا تنسى، وبالخصوص شعب صلب عنيد مثل شعب الجزائر، قد اجتمعت عليه الأزمة السياسية والاجتماعية، بما يؤكد الطبيعة المصطنعة للنظام السياسي القائم على غرار شقيقه في تونس.
وكان للوضعين الانقلابيين على الإسلاميين في كل من تونس والجزائر انعكاساته السلبية على الوضع في موريتانيا، حيث تعرض التيار الإسلامي لعدد من الحملات انتهت بسقوط نظام ولد الطائع والاعتراف بالحركة الإسلامية ودخولها البرلمان ومشاركتها حتى في السلطة التنفيذية وذلك قبل أن ينقلب العسكر مرة أخرى على الإرادة الشعبية، حيث وقفت الحركة الإسلامية الشابة في طليعة المنادين بعودة الديمقراطية ورفض الاعتراف بالانقلابيين معبرة عن مبدئية وأصالة ووعي راق، بزّت شيوخ المعارضة التقليدية. ورغم تفرنس قطاع من النخبة هنا إلا أن موريتانيا تظل قلعة شامخة لعلوم الشريعة وعلوم العربية وآدابها.
أما المغرب فإن الرياح الانقلابية التونسية الجزائرية على الإسلاميين وعلى الديمقراطية لم تهزّه، ولم تستخفّه، وذلك راجع إلى ما تتمتع به الدولة هنا من شرعية تاريخية ودينية مستقرة، فقد استوت العلاقة بين الملك والشعب على قدر كبير من الاعتراف المتبادل بما أمكن معه إرساء نظام سياسي يتمتع بقدر من الديمقراطية تستوعب معظم المكونات السياسية بمختلف اتجاهاتها بما فيها المكونات الإسلامية عدا جماعة العدل والإحسان وفصيل البديل الحضاري ومجموعات يسارية راديكالية وأخرى سلفية جهادية، حيث يتم مع غير العنيف منها مثل العدل والإحسان تعايش قلق، ولك أن تقول علاقة حذرة تشبه علاقة إخوان مصر بالسلطة، إلا أن سيف الدولة مسلول على الجماعات السلفية المنتهجة سبيل العنف.
ويحتل هنا حزب العدالة والتنمية موقع وسطا أحله في الصف الأول من الأحزاب المتنافسة على الحكم، وذلك بعد رحلة طويلة من الراديكالية إلى الوسطية. ويبقى المشكل الاجتماعي: مشكل التفاوت المشط بين جمهرة الشعب وبين طبقة الحكم المحظوظة المحتكرة للسلطة والثروة، بما فاقم أوضاع الفساد والفقر والبطالة والغضب الشعبي، التحدي الأساسي الذي يواجه النظام المغربي ونخبته السياسية المشتركة في العملية السياسية، كما تواجه بقية أنظمة المنطقة (باستثناء ليبيا) وتمثل تحديا جادا للاستقرار ووقودا لحركات التغيير. أما المشكل الثقافي فيظل محوره الصراع بين الفرنكفونية العلمانية وبين العربية الإسلامية التي تترجح كفتها.
ويبقى الوضع في ليبيا ذا خصوصيات، منها ضعف الاختراق الثقافي الغربي وسيادة الثقافة العربية الإسلامية دون مزاحم لغوي للعربية عدا في بعض أقسام الجامعة التي تعتمد الإنجليزية لغة تدريس، مما لا ضرورة له. وفي العلاقة مع الإسلاميين، بعد سنوات من المواجهة بين مجموعات تنتمي للتيار الإسلامي بعضها إخواني وبعضها ينتمي للتيارات الجهادية، بادرت مؤسسة القذافي التي يشرف عليها نجله سيف الإسلام بفتح حوار معهم، بدأ مع المجموعة الإخوانية في السجون وخارجها، انتهى إلى الإفراج عنهم وإعادتهم إلى وظائفهم وصرف مرتباتهم خلال سجنهم، وعودة الكثير من مهاجريهم، حيث الحوار دائر معهم حول صيغة مناسبة لنشاطهم.
ولم يتوقف الحوار عند هؤلاء بل تعداه إلى "مساجين الجماعة الإسلامية المسلحة" ولا يزال جاريا في اتجاه تسوية تنهي العمل العنيف وتحرر بقية المساجين ليبحثوا مثل غيرهم من المواطنين عن السبل المتاحة للمشاركة في مشروع إصلاحي تقوده مؤسسة القذافي في اتجاه إرساء وضع دستوري عادي، فيما لو نجح سيمثل نقلة من نظام المؤتمرات الشعبية إلى وضع دستوري، حيث تسهر مجموعة من الخبراء منهم بعض رجال الحركة الإسلامية مثل الشيخ علي الصلابي على إعداد وثيقة دستورية لليبيا الغد. ولا يزال المشروع يتراوح بين قوى الدفع وقوى الجذب.
3- يتضح من المشهد العام للمنطقة من زاوية الوضع الإسلامي ما يلي: أ- يمكن من الزاوية الثقافية تصنيف دول المنطقة إلى صنفين: صنف معتدل في موقفه من الإسلام والثقافة العربية حتى وإن وجد في النظام استئصاليون وبخاصة في الجزائر وفي المغرب حيث توجد نخبة فرنكفونية ذات نفوذ واسع في الوسط الثقافي والإعلامي والسياسي لكنهم قد لا يمثلون الاتجاه العام، وهو ما يجعل الصراع مع الحركة الإسلامية (وإن يك له وجه ثقافي) صراعا بين الإسلام والعلمانية ولكنه ليس وجهه الأبرز، وجهه الأبرز هو الصراع السياسي. وهذا الصنف تمثله غالبية دول المغرب العربي: من موريتانيا إلى ليبيا.
أما الصنف الثاني فنموذج استئصالي يكاد ينفرد به النموذج التونسي متأثرا بمؤسسه الرئيس بورقيبة الذي انتزع قيادة الحركة الوطنية، بجهد منه وبعون من المحتل، استبعادا لبدائل أسوأ، فأسس الدولة وفق خلفيته الفرنسية المتطرفة في موقفها الديني، كما كان شديد الإعجاب بنموذج أتاتورك، أضيف كل ذلك إلى عقده الشخصية وتشيطنه.
ولئن كان هذا الصنف من النخبة له وجود متنفذ في الجزائر وفي المغرب وفي موريتانيا لكنه لا يتمتع بنفس النفوذ ولا له نفس التراث الذي له في تونس باعتباره هنا المؤسس للدولة، فصبغها بصبغته وشن منذ انتصابه حملة واسعة على الإسلام مؤسسات وعقائد وشرائع وشعائر، مما أورث قطاعا واسعا من النخبة التونسية أصولية علمانية متطرفة، حملت رسالة تهميش الإسلام أو إعادة صياغته وفق النموذج الغربي، وهو ما جعل منها طبقة مستعلية عن جماهير الشعب منعزلة عنها محتقرة لها، شبيهة بعلاقة البيض بالسود في نظام التمييز العنصري، قد أحسن توصيفها المؤرخ المعاصر الشهير الأستاذ محمد الطالبي في كتابه عنهم "الانسلاخيون" وهو ما عسّر مسعى الحركة الإسلامية في التعايش معها، رغم منهج التيسير الذي انتهجته.
وربما يكون عهد بن علي متجها للتخفيف بعض الشيء من غلواء هذا التطرف العلماني، بعد أن ظهر سافرا رفض الشعب له. ثم لأن بن علي لا ينتمي لهذه النخبة الأصولية العلمانية، إلا أن نزوعه العارم إلى الانفراد بالحكم وطبيعته الأمنية انتهت به إلى النظر للحركة الإسلامية على أنها الخطر الأعظم على مشروعه الانفرادي بالحكم، فاستهدفها بالاستئصال، وبخاصة بعد النتائج المذهلة التي حصلت عليها النهضة في انتخابات 1989، وكانت مذهلة للنهضة نفسها، فصمم على إبعادها جملة من الساحة، فاستعان على ذلك بكل منافسيها السياسيين وحتى بخصومها العقائديين الذين دخلوا على الخط دافعين الخصومة السياسية إلى حرب شاملة على الإسلام وعلى الثقافة العربية الإسلامية، إلا أن هذا الجانب أخذ يتراجع شيئا ما في السنوات الأخيرة، دون المساس بخطة الاستهداف السياسي الشامل للحركة الإسلامية الذي لا يزال على حاله رغم إفراغ السجون ممن كانت تضمهم من مساجين النهضة (حوالي30ألفا) لم يبق منهم غير أخوين أحدهما الدكتور صادق شورو الرئيس السابق للحركة.
غير أن الآلاف الذين غادروا السجن ممن اجتازوا الجولاج النوفمبري محافظين على عقولهم ومشروعهم ولم يلفظوا أنفاسهم تحت التعذيب أو القتل البطيئ، غادروها هياكل منهكة ولكن تعمرها أرواح شامخة، غادروها إلى سجون متحركة، تحت الرقابة البوليسية اللصيقة ممنوعين من التوظيف الحكومي ومن السفر خارج البلاد وحتى داخلها، محرومين حتى من الحق في العلاج، خاضعين لخطة حصار تذكر بغزة (دون أنفاق) حصار وعزل سياسي وحتى اجتماعي. إنه الإعدام بالتقسيط.

ولا يعني هذا أن السجون قد استراحت فهي لم تلتقط أنفاسا منذ الاستقلال لا يغادرها فريق إلا لتستقبل آخر: حل الإسلاميون محل اليساريين والنقابيين، واليوم يحل فريق إسلامي من شباب الصحوة بالآلاف محل النهضويين. لقد كشف سياق التطور السنوات الأخيرة في تونس أنه كما فشلت خطة السلطة في تجفيف ينابيع الإسلام فشلا ذريعا أمام تدفق الصحوة الجديدة، فقد فشلت أيضا خطتها في استئصال النهضة وعزلها، فقد عادت إلى الساحة متحالفة مع طيف واسع من المعارضة الديمقراطية باتجاهاتها المختلفة ضمن حركة 18 أكتوبر. وذلك بعد أن أعادت النظر في مسيرتها فوقفت على عدد من أخطائها في تقدير المواقف والأوضاع، ولم تتردد في نشر نقدها الذاتي.
لقد أخذت الدولة أمام تدفق الصحوة تتراجع (على استحياء) عن خطة تجفيف الينابيع. ومن ذلك سماحها بإذاعة الزيتونة المتخصصة في إذاعة القرآن والمواعظ الدينية والتي احتلت في فترة وجيزة جدا المكانة الأولى بين الإذاعات الأخرى بما فيها الإذاعة الرسمية. هذا التراجع التدريجي عن سياسة الاستئصال مقض لمضاجع الاستئصاليين من الشيوعيين والبورقيبيين وهو ماض في سبيله ليعود بالصراع إلى مربعه الأساسي السياسي المستهدف للنهضة بصفتها السياسية المعارضة التي تشترك فيها مع المعارضات السياسية الجادة، وليكون حظها من الاستهداف بقدر ما تمثله من منافسة للسلطة الانفرادية.
وما تبدو هناك آفاق ولا مؤشرات لتراجع السلطة عن نهجها الاستئصالي إزاء النهضة ولا إزاء أي معارضة جادة ، فليس في تراث دولة الاستقلال في تونس غير تراث الاستبداد والانفراد. أما عن احتمالات انصلاحه فالذي لا يأتيه نظام في شبابه وقوته بعيد جدا أن يأتيه على الهرم، فالدولة تنفتح بقدر اطمئنانها إلى شرعيتها والعكس بالعكس.
ب-الحركة الإسلامية في المنطقة كما كسبت بدرجات مختلفة معركة الهوية، قد فرضت على نحو أو آخر وجودها السياسي مشاركة أو معارضة. لقد كسبت معركة الرأي العام عائدة بالإسلام إلى قلب الحداثة. لو أن باحثا تابع مثلا تطور الموقف من مسألة حقوق الإنسان في تونس لوضع يده بيسر على جانب من هذا التطور المهم.
عندما ظهرت الرابطة التونسية لحقوق الإنسان نهاية السبعينيات قفزت إليها القوى الماركسية وحاولت إقصاء الإسلاميين منها، بينما اليوم تهمشت الرابطة وارتفع نجم منظمات حقوقية قريبة من الإسلاميين تولت الدفاع عن قضاياهم دون حاجة إلى استجداء سطر في بيانات رابطة كانت تولي أولوية لسحب جواز سفر ليساري على آلاف من المساجين يسلخون، بل كثيرا ما تم التواطؤ عليهم بالصمت، بل حتى بالتوسط لدى دوائر حقوقية أوروبية لاستجلاب شهادات حسن سلوك للنظام، بينما اليوم يكاد موضوع حقوق الإنسان تحتكر الحديث عنه جمعيات قريبة من الإسلاميين، جزء من الرحلة العامة صوب الإسلام التي تقوم بها مجتمعاتنا تحت القصف واحتماء منه وبحثا عن أمل في مستقبل أفضل
ج- الحركة الإسلامية اليوم لا يقتصر عملها (مع غيرها) على الدفاع عن هوية البلاد، وما أعظمها وأشرفها من مهمة في منطقة ثغور تلفحها رياح عولمية مادية عاتية من جوارها القريبة محاطة بأمم عظيمة ذات أطماع ومشاريع توسعية، بل تنهض بمهام واسعة باعتبارها حركة مجتمعية لا يمثل السياسي فيها غير بعد من أبعادها وهو عندها خادم للثقافي. ولولا استبداد دولة الحداثة وشموليتها ومركزيتها المفرطة لكان للحركة الإسلامية مندوحة عن الصدام معها، ولكان انشغالها أعظم بخدمة الناس صحة وتعليما وتنمية.
كما تنهض الحركة الإسلامية بمهام تجديد النخبة من خلال استقطابها الكثيف للشباب وإنقاذه من التردي في عالم الجريمة والمخدرات ومشاغل الفارغين. كما تنهض بمهمة تجديد الإسلام، وهي حاضرة في الصف الأول في الدفاع عن استقلال البلاد وقضايا الأمة الكبرى مثل قضية فلسطين والعراق وأفغانستان.
كما تنهض حيثما توفرت لها فسحة من الحرية بدور طليعي على صعيد الرعاية الاجتماعية للفقراء واليتامى والمنقطعين ورعاية الأسر والتزويج. صحيح أنها عموما في المعارضة سواء أكان معترفا بها أم متعايشا معها على حذر أو تدور عليها الرحى، ولكن الثابت أنها المعارضة الأقوى في المنطقة بعد أن كسبت معركة الرأي العام ما يرجح كفتها في كل معركة انتخابية نزيهة، إن على صعيد طلابي أو نقابي أو سياسي، مما يجعل مسألة وصولها إلى الحكم مسألة وقت بإذن الله، وليس من مصلحتها ضمن أوضاع التجزئة وحتى إذا ذهبت إلى السلطة، فالأنفع لها وللبلاد ألا تذهب إليها منفردة حتى لو أعطتها ذلك صناديق الاقتراع، وإنما أن تحرص على عقد تحالفات تقود مهام التغيير وتمارس الحكم.

وتجربة فلسطين فيها عبرة وأي عبرة. والتدرج سنة كونية واجتماعية {مالكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا} سورة نوح.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.