بقلم: هيفاء زنكنة في الأشهر التي سبقت غزو العراق عام 2003 أطلقت منظمات إنسانية دولية التحذير تلو التحذير عن كارثة إنسانية مقبلة سيعيشها المدنيون إذا ما تم شن الهجوم العسكري بدون الأخذ بنظر الاعتبار حياة المدنيين. لم تصغ الدول العظمى صاحبة القرار أو الدول العربية التابعة لها إذ لم تكن حماية المدنيين ومستقبلهم من أولوياتها وأقصى اهتمام أولته للضحايا عبر سنوات الاحتلال وتنصيب حكومات محلية تحمي مصالحها هو اعتبار المدنيين ضحايا ثانويين في مخطط يستحق التضحية بالملايين إن اقتضى الأمر. ليطبقوا بذلك مقولة مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية في فترة الحصار في التسعينيات بأن محاولة تغيير نظام صدام حسين نعم يستحق موت نصف مليون طفل عراقي. نعيش هذه الأيام استنساخ سياسة أولبرايت بمستويات متعددة. بين أيدينا اليوم تحذير أصدرته لجنة الصليب الأحمر الدولي في 29 جويلية عن استعداد ما يسمى بقوات التحالف بقيادة أمريكا والقوات العراقية من جيش وأمن وميليشيات الحشد المدعومة إيرانيا لاسترداد مدينة الموصل ثاني مدن العراق من تنظيم الدولة الإسلامية موضحة بأن العمليات العسكرية (معظمه قصف جوي) ستؤدي إلى إجبار نحو مليون شخص إلى النزوح من ديارهم في الأسابيع والأشهر المقبلة مما سيتسبب في مشكلة إنسانية كبرى آخذين بنظر الاعتبار أن هناك 10 ملايين عراقي يحتاجون إلى مساعدات إنسانية الآن منهم 3 ملايين ونصف المليون من النازحين الذين سيرتفع عددهم بشكل كبير عند انطلاق عملية استرداد الموصل حسب روبير مارديني المدير الإقليمي للجنة الدولية للصليب الأحمر في الشرقين الأدنى والأوسط. أثار مارديني في تصريحه أيضا قضية معاملة الفارين من الاقتتال ووجوب معاملتهم بشكل إنساني. وكانت قوات النظام وميليشيات الحشد الشعبي من بينها حزب الله وعصائب الحق وقوات بدر قد اعتقلت وعذبت أعدادا من الفارين بالإضافة إلى قتل واختفاء المئات من سكان الفلوجة والصقلاوية ويبقى مصير الكثيرين مجهولا حتى اليوم. والأدهى من ذلك إساءة معاملة النازحين ومعظمهم من النساء والأطفال الذين تم فصلهم عن الرجال وقصف مخيماتهم التي من المفترض أن تكون محمية من الدولة. وكانت المنظمات الإنسانية قد حذرت مما سيجري بناء على سيناريو التحرير السابق الذي أنجزته قوات النظام والميليشيات في مدن أخرى. وها هي ذات المنظمات تصدر تحذيرها من جديد وسط أجواء النزاع المحموم حول السماح بدخول الميليشيات مدينة الموصل بالإضافة إلى القصف الجوي التحالفي خاصة بعد أن هدد قائد ميليشيا عصائب أهل الحق أن من يعترض على مشاركة فصائل الحشد الشعبي في معارك التحرير سيسحق بالأقدام ولا يلومن إلا نفسه. وأعلن العميد أيرج مسجدي المستشار الأعلى في الحرس الثوري الإيراني السبت الماضي إن بلاده ستشارك رسميا في معركة الموصل وأكد وزير الدفاع العراقي خالد العبيدي دور إيران وأنها تقدم الدعم للقوات الأمنية العراقية بصورة مباشرة وغير مباشرة من أجل تطهير الموصل. مما يعني باختصار شديد أن كل من هب ودب من الدول العظمى إلى الدول الإقليمية والميليشيات والمنظمات الإرهابية التابعة لها سيتنافس على تطهير و تحرير مدينة الموصل. ولكن ما هو رأي أهل الموصل أنفسهم بعيدا عن ساسة الحكومة الذين يدعون تمثيلهم وعن أجهزة الإعلام المطبلة للحرب العالمية على الإرهاب ( أمريكا وحلفائها) وتلك المقسمة إقليميا حسب معادلة سنة _ السعودية _ شيعة _ إيران ومحليا وفق محاصصة شيعة _ سنة _ أكراد بدون ذكر لبقية أبناء الشعب؟ صوت أهل الموصل غير مسموع أيضا بسبب القمع وتكميم الأفواه الذي يمارسه إرهابيو الدولة الإسلامية وألا يسمح بتمرير أية معلومة خارج نطاق أجهزة إعلامها إلا فيما ندر. هناك مثلا حوالي ثلاثة مواقع فقط يخاطر أصحابها بحياتهم لنقل يوميات الرعب التي يعيشها أهل الموصل بالإضافة إلى الاتصالات الهاتفية الحذرة مع الأهل بالموصل. وتتغربل الصورة أكثر حين يتمكن أحد السكان من الهرب ويختار الحديث بشكل علني عما يحدث. الصحافية هبة نزار واحدة ممن اختاروا الحديث بعدما اتهمها تنظيم الدولة الإسلامية ب(الردّة) ونجحت في الهرب من مدينتها الموصل. في مقابلة مع صحيفة (المدن) الإلكترونية تحدثت بالتفصيل عن بطش التنظيم وكيف يحكم المدينة بالشفرة والسكين وما تتعرض له النساء من قيود لا علاقة لها بالإسلام. كما تحدثت عن استشراء الخوف مشيرة إلى أن أهالي المدينة لا يعانون من التنظيم فحسب بل ومن قصف التحالف الذي يؤدي غالباً إلى كوارث. ففي إحدى المرات دمّر القصف 25 منزلاً. تخيّل! حصلت كارثة في المدينة تشبه أحداث 11 سبتمبر في الولاياتالمتحدة. يومها ضرب التحالف مخازن للأسلحة وسط الأحياء الشعبية. انفجرت المخازن وبدأت الانفجارات تتوالى لتدمّر كل شيء. يومها قامت المدينة ولم تقعد. لم يتحدث الإعلام عمّا حدث في ذلك اليوم. كنا نُقتل ونُذبح وسط سكوت الجميع. وحين سئلت هبة عن صحة مايقال بأن أهل الموصل لا يثقون بأحد أجابت بمرارة تفطر القلب وليس لدي ما أضيفه عليها: أعتقد أن هذا صحيح. لقد تركَنا العالم لمصير أسود بين الوحوش. يسألون اليوم إن كان أهل المدينة سيتعاونون مع الحشد الشعبي في حال دخوله. لا أظن هذا. تريد الناس دخول قوات جديدة إلى المدينة كي تفسح لهم مجالاً للهرب. لم يعد هناك أي مجال للثقة والناس متأكدة أنه في حال ذهب داعش من الممكن أن يأتي ما هو أفظع منها في المستقبل.