يعاني المسلمون في العالم أجمع من وطأة شيطنة فظيعة للإسلام تجعلهم موضوعاً لاضطهاد ممنهج تتشارك فيه شبكات السيطرة الاقتصادية والسياسية والإعلامية في العالم، على اختلاف أشكالها وأعراقها وأديانها، بما فيها شبكات محسوبة على دول إسلامية. يمكن للباحث التاريخي إعادة جذور هذه الظاهرة لقرون عديدة سابقة فيها نقاط علام عديدة منها فتح الأندلس ووصول جيوش المسلمين لحدود فرنسا، والحروب الصليبية وآليات اشتغالها والأساطير التي تشكلت بنتيجتها على ضفتي المتوسط، وتمدد الإمبراطورية العثمانية وصولا إلى تهديد فيينا في قلب أوروبا، بل يمكن سحبها رجوعاً إلى حروب روما وقرطاجة وصراع الحضارات القديمة التي انتهت بسيادة كبيرة للحضارة الأوروبية ووضوح تسيّدها وتفوقها اقتصاديا وعسكريا وسياسيا مما خلق توتراً كبيراً بين أكبر أديان المعمورة: الإسلام والمسيحية، حيث أن أوروبا، منذ مجمع نيقية الكنسي تبنّت هذا الدين الشرقيّ واعتبرته أحد أكبر عناوين ثقافتها الظافرة. فرضت معادلة السيادة الثقافية والأخلاقية هذه إحساسا عارماً بالتفوق لدى الغرب وشعوبه قابله إحساس عارم معاكس بالهزيمة الحضارية لدى غالبية شعوب الإسلام، تجلّى في سؤال حارق لديهم لخصه كتاب شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ وهو ما جعل الغرب مجالهم الأول للمقارنة والتقليد والتنافس والتعلّق دون تحفظ أو الكراهية دون حدود. استلزمت ديمومة السيطرة الغربية على شعوب (العالم الثالث) آلة تنظير كبيرة لتبرير وإدامة التفوق بدعاوى عنصرية عرقية أو ثقافية، من قبيل تفوق الشعوب الآرية وتخلف الشعوب السامية، أو تخلف الدين الإسلامي، لا باعتبار هذا التفوق الغربي نتيجة لدورة تاريخية طبيعية فحسب، وتأسس بذلك الاستشراق وظهرت فلسفات واتجاهات فكرية وسياسية تحطّ من شأن الشعوب غير الغربية، وكان للمسلمين النصيب الأكبر من التنميط والتحقير، وهي نتيجة طبيعية لقرون طويلة من الحروب والمواجهات والتنافس على الجغرافيا والتاريخ والسياسة. كان تأسيس إسرائيل عام 1948 هو ذروة تحويل الاستشراق ونظرياته الأسطورية حول جغرافيا وتاريخ المنطقة إلى فعل كاسر وهمجي بحق شعوب المنطقة العربية، وهي للمناسبة، فكرة بدأت أثناء حملة نابوليون على فلسطين، وما لبث دهاقنة الاستشراق الغربيون أن تلقفوها وساهموا في تحقيقها قبل أن يتم تلبيسها على أيدي يهود غربيين منخرطين في المشروع الاستعماري الغربي. تراوحت ردود الفعل على هذه الحرب الثقافية لإخضاع المسلمين سياسيا واقتصادياً بين اتجاهات سياسية شتى استبطن بعضها أفكار الاستشراق الغربي للإسلام ودعت إلى استبدال الهوية الحضارية للشعوب الإسلامية بأخرى مفصلة وجاهزة في الغرب ولا حاجة سوى لتطبيقها بحذافيرها كي تمشي البلدان الإسلامية على صراط الحداثة المستقيم وتندفع باتجاه الازدهار والتقدم والتنمية. كان ذلك الأساس النظري لنشوء الحركات والاتجاهات الفلسفية والسياسية الاجتماعية العلمانية العربية الحديثة. ورفض بعضها الآخر الغرب وحضارته، أو تقبّل جزءا من حداثتها التقنية لكنه رفض أسسها الفلسفية وتطبيقاتها السياسية، وكان ذلك جذر أغلب حركات الإسلام السياسي، التي يمكن عدّها هي أيضاً نتاجاً للغرب لا استمراراً لتقاليد ثقافية سابقة فحسب. وفي تحدّ ذي مغزى لمنطق نظريات الاستشراق العنصرية فان الشعوب الاسلامية لم تغرق في رد الفعل النرجسي لهزيمتها الحضارية بل اقتدى أغلبها بمثال الدول الغربية واتجه لتحقيق دول حديثة ببرلمانات وأحزاب سياسية وصناعات وتجارة وسياحة وأدب وفن وسينما ومسرح... استغرقت هذه المرحلة أكثر من 50 عاماً هوت خلالها البلدان المذكورة إلى دكتاتوريات غاشمة تحالف فيها الاستبداد بالفساد، وكشفت عن فشل حضاري وثقافي واقتصادي وسياسي وتعرضت لهزائم عسكرية مخزية وانحدرت في أغلب الأحيان إلى مدارك من الوحشية ضد شعوبها لا يصدقها العقل. في دفاعها الفاشل عن تجاربها تعزو بعض هذه التجارب فشل التجارب القومية واليسارية العربية لوجود اسرائيل التي هزمت جمال عبد الناصر وحزب البعث السوري وضربت المفاعل النووي العراقي واستنزفت ميزانيات الدول العربية بالتسلح، لكن هذه الحجة على رجاحتها لا تنفي حقيقة أن إسرائيل كانت عاملاً مساعداً في إيصال الجيوش (تحت رايات القومية والبعث واليسار) إلى السلطة، فالتحدي الإسرائيلي خلق قابلية شعبية لعسكرة البلدان العربية كرد على إسرائيل. الحقيقة التي يجب تأكيدها هي أن حركات الإسلام السياسي غير مسؤولة عن هذا الخراب الهائل الذي طال البلدان العربية وهي تحصد عواقب الفشل الجذري العميق لأداء الحركات العلمانية (من أفغانستان مرورا باليمن وسوريا وحتى السودان)، لكن ذلك لا يعطيها صكاً مفتوحا للحكم، ويعفيها من مجابهة الأسئلة العميقة التي طرحتها الحركات العلمانية وفشلت في الإجابة عليها. الشعوب العربية لا تنتظر خطابات إيديولوجية بل حلولاً واقعية وحقيقية لا تجيب عليها الشعارات.